عملية الليطاني.. حين احتلت إسرائيل جنوب لبنان عام 1978
عملية الليطاني هي أولى حروب إسرائيل ضد المقاومة الفلسطينية، شنتها في مارس/آذار 1978، ردا على "عملية كمال عدوان"، بهدف القضاء على المقاومة الفلسطينية في جنوب لبنان وإقامة منطقة عازلة.
وأسفرت العملية عن مقتل 18 جنديا إسرائيليا وجرح 113 جريحا، واستشهاد حوالي 300 مقاتل فلسطيني.
كما استشهد نحو 1100 مدني لبناني وأصيب أكثر من 2000 آخرين، ونزح ما بين 100 ألف و250 ألف شخص من منازلهم.
الأسباب
قادت المناضلة الفلسطينية الشابة دلال المغربي فرقة دير ياسين المكونة من 12 فدائيا، للقيام بعملية خطط لها الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد)، وتقضي بالسيطرة على حافلة عسكرية إسرائيلية والتوجه إلى تل أبيب لمهاجمة مبنى الكنيست، بهدف الضغط على الاحتلال لإطلاق سراح بعض الأسرى الفلسطينيين. وقد سميت العملية باسم الشهيد الفلسطيني كمال عدوان.
عندما اقتربت دلال وفرقتها من تل أبيب، أوكلت الحكومة الإسرائيلية لفرقة خاصة بقيادة إيهود باراك مهمة إيقاف الحافلة والقضاء على الفدائيين أو اعتقالهم.
تعقبت الحافلة وحدات ضخمة من الدبابات والطائرات المروحية حتى تم إيقافها وتعطيلها قرب مستوطنة هرتسليا. خلال الاشتباك مع القوات الإسرائيلية، استشهدت دلال وزملاؤها وأسر واحد منهم، بينما تكبد الجانب الإسرائيلي خسائر بالعشرات بين قتيل وجريح، واندلعت النيران في سيارة الركاب ومن فيها.
فجهز الاحتلال لعملية الليطاني ردا على الهجوم داخل إسرائيل، وسعيا للقضاء على المقاومة الفلسطينية وإقامة منطقة أمنية تمتد 6 أميال داخل الأراضي اللبنانية، كما أكد المتحدثون الإسرائيليون في اليوم التالي.
في وقت لاحق من ذلك اليوم، أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي عيزرا وايزمان في مؤتمر صحفي أن العملية أُطلقت "لتطهير هذه المنطقة الموبوءة مرة واحدة وإلى الأبد"، وحذر من أن إسرائيل ستواصل احتلال المنطقة حتى تتأكد من عدم قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على شن هجمات ضدها.
تفاصيل العملية
بعد مضي 3 أيام فقط على عملية "كمال عدوان"، وتحديدا يوم 14 مارس/آذار 1978 باشر الجيش الإسرائيلي هجومه البري على الجنوب اللبناني بجيش قوامه حوالي 25 ألف جندي.
وبحلول نهاية اليوم الأول من الغزو، تمكنت القوات الإسرائيلية من السيطرة على ما لا يقل عن 5 مواقع فلسطينية جنوب نهر الليطاني، وتبع ذلك قصف ميناء صور بزعم أن منظمة التحرير كانت تتلقى منه أسلحة.
استُهدفت مخيمات اللاجئين المحيطة، لأن إسرائيل ادعت أنها كانت تُستخدم قواعد للتدريب. كانت منظمة التحرير الفلسطينية قد توقعت الهجوم الإسرائيلي وسحبت معظم قواتها تاركة فقط حوالي ألف من أصل 5 آلاف مقاتل في جنوب لبنان.
شهدت العملية مواجهات عنيفة بين الجيش الإسرائيلي ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية، إضافة إلى الفصائل اللبنانية المتحالفة مع الفلسطينيين. وكانت هذه المواجهات شديدة خصوصا في المناطق القريبة من الحدود الإسرائيلية.
وأدت العملية إلى نزوح كبير للسكان المحليين، حيث ترك مئات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين منازلهم هربا من القتال والقصف.
في أعقاب العملية، أقامت إسرائيل منطقة أمنية في جنوب لبنان لتكون حاجزا ضد الهجمات المستقبلية، وظلت هذه المنطقة تحت السيطرة الإسرائيلية لسنوات عديدة.
واستجابة للتداعيات الإنسانية والسياسية للعملية، أصدر مجلس الأمن الدولي قراره رقم 425 في مارس/آذار 1978، مطالبا بانسحاب القوات الإسرائيلية وإنشاء قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل) للمساعدة في استعادة السلم والأمن في المنطقة.
بعد 3 أشهر من العمليات العسكرية، بدأ الجيش الإسرائيلي بالانسحاب من جنوب لبنان، مع ترك منطقة أمنية تحت إشرافه. هذا الانسحاب لم ينه النزاع في المنطقة بل فتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوترات والمواجهات.
الخسائر البشرية
أسفرت العملية عن مقتل 18 جنديا إسرائيليا وإصابة 113 جريحا، واستشهاد حوالي 300 مقاتل فلسطيني. كما استشهد نحو 1160 مدنيا لبنانيا وأصيب أكثر من ألفين آخرين، ونزح ما بين 100 ألف و250 ألف شخص من منازلهم.
النتائج السياسية
لم تستطع عملية الليطاني تحقيق أهدافها الإسرائيلية إلا لفترة قصيرة، وبمرور الوقت تلاشت هذه النتائج، ولم يتبق إلا الخسائر التي تكبدها كلا الطرفين: الإسرائيلي من ناحية، واللبناني والفلسطيني من ناحية أخرى.
تم تسجيل نتائج هذه الحملة في سلسلة الإخفاقات الإسرائيلية، مما دفع إسرائيل إلى تكرار محاولة الغزو بشكل أقل حدة في يونيو 1981، وبشكل أوسع خلال عملية "سلام الجليل" في عام 1982.
رغم ذلك، استمرت تأثيرات الغزو لمدة طويلة على الوضع في لبنان، وتأثرت بها الدولة اللبنانية والفصائل الفلسطينية على حد سواء، ولم تقتصر تأثيراتها على المستوى المحلي فحسب، بل امتدت لتشمل الأوساط العربية والعالمية.
أبرز ردود الفعل كانت المظاهرات الكبيرة التي اندلعت في العاصمتين السورية والأردنية ومدن أخرى دعما للفلسطينيين، التي تحولت سريعا إلى احتجاجات ضد موقف قوات الردع السورية والعربية لعدم تدخلها ضد العدوان الإسرائيلي وعدم دعمها للفلسطينيين.
خلال هذه الفترة، خرج اللاجئون الفلسطينيون من معسكراتهم في الأردن للتظاهر دعما لإخوانهم في لبنان، مسجلين أسماءهم للتطوع في المعركة.
كما قدمت بعض الدول العربية، وعلى رأسها العراق، مساعدات للفلسطينيين عبر سوريا. ويمكن حصر الآثار على الأطراف المختلفة، في الآتي:
الرئاسة اللبنانية: الرئيس إلياس سركيس
عمل الرئيس اللبناني إلياس سركيس بسرعة لاحتواء التوترات وجمع شمل السيادة اللبنانية، واضطر لتوضيح دور "قوات الردع السورية" واستخدامها لضبط الوضع في جنوب لبنان.
في قمة اللاذقية التي عُقدت بينه وبين الرئيس حافظ الأسد في 31 مايو/أيار 1978، اتُفق على دمج الجيش السوري مع الأمن والجيش اللبنانيين لإعادة السيطرة على الجنوب، بالتعاون مع قوات الأمم المتحدة، تطبيقا للقرار 425.
واجه هذا القرار معارضة من القوى السياسية اللبنانية، التي رأت فيه تدويلا للأزمة اللبنانية. وتصاعدت المعارضة لدرجة اغتيال نجل الرئيس السابق سليمان فرنجية وعدد من أفراد أسرته ومقربيه كاحتجاج على تأييد دخول القوات السورية. وأدى ذلك إلى توتر بين القوات السورية وحزب "الكتائب"، وكادت الأزمة تؤدي إلى اشتعال الحرب الأهلية مجددا.
هدد سركيس بالاستقالة، مما دفع الأطراف للتراجع عن مواقفها، بعدما أدركت أن استقالته قد تؤدي إلى تدهور الوضع أكثر، واستغل الظروف لتنفيذ عدة إجراءات لفائدة الدولة اللبنانية، منها:
- تقنين وجود القوات السورية وتحديد صلاحياتها.
- تطبيق اتفاقيتي القاهرة والرياض لتنظيم الوجود الفلسطيني.
- تعزيز قوات الأمن اللبنانية لتأكيد السيادة الوطنية.
- إعادة تنظيم الداخل اللبناني لضبط المليشيات وتعزيز التعايش بين مختلف الطوائف.
رغم طموحاته، واجهت بعض هذه الخطط تحديات جمة، ولم تتحقق بالكامل، لكن بعضها أثر فعليا في تشكيل لبنان.
"الجبهة اللبنانية" (القوى اليمينية)
تبنت الجبهة اللبنانية، التي تمثل القوى اليمينية بقيادة كميل شمعون وسليمان فرنجية، موقفا يهدف إلى إنهاء وجود المقاومة الفلسطينية في لبنان.
وخلال اجتماعها لمناقشة الغزو الإسرائيلي للجنوب، اتفقت على أن الاهتمام الأساسي ليس بالخسائر الفلسطينية واللبنانية المتحالفة معهم، بل بالتداعيات السياسية للاجتياح الإسرائيلي.
الحركة الوطنية اللبنانية
نظرت الحركة الوطنية اللبنانية إلى الغزو الإسرائيلي للجنوب كجزء من الصراع العربي الإسرائيلي الممتد، واعتبرت أنه ليس حدثا مفاجئا، وأكدت تأثيرات هذا الغزو على مسار لبنان السياسي والاجتماعي. ومن بين التأثيرات الرئيسية:
- تعليق المصالحة الوطنية، حيث أدى الغزو إلى تأجيل جميع محاولات المصالحة الوطنية في لبنان، مما يعتبر أبرز الخسائر السياسية للبلاد.
- إعادة طرح قضية الوجود الفلسطيني في لبنان.
- ضرورة إعادة بناء الجيش اللبناني لاستعادة هيبة الدولة وتحقيق التوازن الوطني.
- تحديد مسار لبنان السياسي، بين الانضمام لمبادرة السلام أو جبهة الصمود والتصدي، مشيرة إلى التبعات المحتملة لكل خيار.
- الدور السوري المثير للجدل، حيث كشف الغزو عن تساؤلات حول الوجود السوري في لبنان وأثره على مصداقية سوريا لدى الرأي العام اللبناني والعربي.
الآثار في الموقف السوري
عُقد اجتماع بين الرئيسين السوري واللبناني في اللاذقية لبحث تداعيات الوضع، حيث تم الاتفاق على تعزيز الوجود السوري في جنوب لبنان بالتعاون مع قوات الأمم المتحدة.
واتخذت سوريا مجموعة من الخطوات لتأكيد وجودها في لبنان ومقاومة أي ضغوط، بما في ذلك تعزيز العمليات العسكرية ضد المعارضين لهذا الوجود ودعم السلطات اللبنانية لتعزيز السيطرة على البلاد.
كما أعادت سوريا تنظيم علاقتها مع المقاومة الفلسطينية، ولا سيما بعد معارضة منظمة التحرير الفلسطينية للمبادرة المصرية للسلام. ولعبت سوريا دورا في تسهيل مرور الدعم العربي للمقاومة الفلسطينية عبر أراضيها.
آثار الغزو في إسرائيل
عند إقدام إسرائيل على الغزو، كانت تهدف إلى تحقيق 4 أهداف رئيسية:
- إزالة المقاومة الفلسطينية من جنوب لبنان.
- إقامة منطقة أمنية على الحدود.
- دفع الدول العربية نحو السلام مع إسرائيل.
- السيطرة على مياه نهر الليطاني.
خلال الأيام العشرين الأولى من الغزو، أحرزت القوات الإسرائيلية إنجازا بإحضار جيش لبنان المنشق بقيادة الرائد سعد حداد ونشره على الحدود اللبنانية الإسرائيلية، موفرة له الدعم العسكري وربطته بالقيادة الإسرائيلية.
ورغم ذلك، كانت النتائج الإستراتيجية محدودة، إذ لم تتحقق الأهداف الإسرائيلية سوى بنسبة ضئيلة، وأبرزها إنشاء حزام أمني استطاعت المقاومة الفلسطينية اختراقه.
تضمنت الشروط الإسرائيلية للانسحاب ما يلي:
- ضمان عدم عودة المقاومة الفلسطينية إلى لبنان.
- سيطرة الجيش اللبناني على جنوب لبنان.
- تجريد المنطقة من السلاح باستثناء الكتائب المتحالفة مع إسرائيل.
وأجبرت الضغوط الدولية إسرائيل على الانسحاب تدريجيا خلال 1978، دون جدول زمني محدد.
أما باقي الأهداف فلم تُحقق سوى بنسبة محدودة جدا، مما جعل الغزو يُقيّم ضمن إطار الفشل الشديد، رغم الخسائر البشرية والمادية الكبيرة التي لحقت بالمدنيين اللبنانيين وفي صفوف المقاومة الفلسطينية.
ونهبت القوات الإسرائيلية التراث الحضاري اللبناني، مستولية على آلاف القطع الأثرية الفينيقية، ونقبت عن آثار أخرى نقلتها إلى إسرائيل. وقد قدم لبنان شكوى للأمم المتحدة واليونسكو بشأن هذه الانتهاكات.