إيران وسوريا ما بعد "داعش".. إدارة الأزمات الإقليمية
تعدد جبهات الصراع
تجابه أولويات اللاعبين
تطور الرؤية إيرانية
يری اللواء رحيم صفوي -المستشار في الشؤون العسكرية لدى المرشد الأعلى للثورة الإيرانية علي خامنئي– أنه "بالإضافة للعمليات العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري ومحور المقاومة، واستمراراً للجهاد المسلح للشعب والجيش والحكومة المقاومة للرئيس بشار الأسد؛ فإن عليها أيضاً متابعة الحل السياسي".
إيران أيضاً -بالإضافة لاستمرار دعمها حليفها السوري- شاركت وما زالت في العملية السياسية في أستانا التي أقامت مناطق خفض الصراع. أي أن النهج الإيراني -بالإضافة لتبنيه ضرورة النزال العسكري- بدأ منذ حين الأخذ بضرورة الخوض في العملية السياسية بغية إنهاء الأزمة السورية.
وتماشياً مع ذلك؛ رفضت إيران التدخّل العسكري التركي في عفرين، ودعت -وما زالت تدعو- السوريين إلى مقاومة القوات الأميركية شرق الفرات، بغية استعادة وحدة الأراضي السورية؛ فما الطارئ إذن؟ وهل النهج الإيراني يدلّ علی إدراك لتطوّر يتطلب تحركاً مختلفا؟
تعدد جبهات الصراع
لقد انتهى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عسكريا. وبعيداً عن الصخب الدائر حول استمرار أيديولوجيته؛ يبدو أن للمؤثرين في الأزمة السورية شواغل أهم من التركيز علی تلك الأيديولوجية. وبانتهاء "داعش" عسكرياً، تغيّرت بيئة الصراع وأولويات المتصارعين.
وباعتباره عنصراً موحِّداً للمتنافسين -بل والأعداء- فإن اندحار التنظيم عسكريا يُعادل قطع شعرة معاوية بين المؤثرين الموجودين في ميدان الأزمة السورية؛ فقد برزت بؤر جديدة للصراع وانقلب التركيز علی داعش ليصبح تركيزا علی أولويات تفرّق أكثر مما تجمع.
كان متوقَّعاً صعود موجة الصراعات المحيطية في مرحلة ما بعد "داعش". فقد أبرزت عملية المخاض السورية جبهات بدت أولوياتها متجابهة أثناء تعاونها الضمني في الحرب علی "داعش"، والواضح أن تلك الأولويات ستحدد سیاساتها المرحلية في الفترة المقبلة. وثمة جبهتان رئيسيتان يتصدر خطابهما وسياساتهما المسرح السوري اليوم |
أي أن الأزمة الأحادية المركز (الحرب علی "داعش" أو "الإرهاب" بشكل عام) انتقلت إلی مرحلة تعدد المراكز حسب اللاعبين وأولوياتهم المختلفة. وإذا كانت الأولويات الإقليمية والدولية بعيدة عن بلورة رؤية مشتركة بشأن المرحلة الجديدة؛ فإلی أين تمضي الأزمة السورية؟ وكيف ستؤثر الأولويات المتفاوتة علی مستقبلها؟
كان متوقَّعاً صعود موجة الصراعات المحيطية في مرحلة ما بعد "داعش". فقد أبرزت عملية المخاض السورية جبهات بدت أولوياتها متجابهة أثناء تعاونها الضمني في الحرب علی "داعش"، والواضح أن تلك الأولويات ستحدد سیاساتها المرحلية في الفترة المقبلة.
وثمة جبهتان رئيسيتان يتصدر خطابهما وسياساتهما المسرح السوري اليوم: الجبهة الأولى تضم النظام السوري وحلفاءه (إيران وحزب الله وروسيا). بينما تتكوّن الجبهة الثانية من قوات سوريا الديمقراطية وداعمتها الرئيسية الولايات المتحدة. وثمة وجها شبه بين الجبهتين:
– امتداداتها الدولية: فقد انتصرت الحكومة السورية وحلفاؤها عسكرياً بعد تدخّل روسيا الجوّي، وما كانت قوات سوريا الديمقراطية لتُكتب لها الحياة لو لم تقم الولايات المتحدة بهندسة نشأتها والاستمرار في دعمها.
– السيطرة علی جزء مهم من الأرض: فرغم الفرق بينهما؛ فإن الجبهتين تسيطران علی الجزء الأكبر من التراب السوري.
كما أن ثمة اختلافين رئيسيين بين الجبهتين:
– الامتدادات الإقليمية: علی خلاف قوات سوريا الديمقراطية؛ تنعم جبهة النظام السوري بحليف إقليمي مهم هو إيران.
– مواقع السيطرة: فالنظام السوري وحلفاؤه يسيطرون علی الجزء الأهم من الأراضي السورية، بينما ترتكز مواقع سيطرة قوات سوريا الديمقراطية علی الأراضي الكردية وبعض المناطق المحيطة بها.
وإلی جانب هاتين الجبهتين؛ ثمة قوة ثالثة مؤثرة علی الأرض هي تركيا وحلفاؤها. ورغم محدودية تأثيرها؛ فإن لتحركاتها وتفاعل الجبهتين الرئيسيتين معها بأسا علی توجيه الصراع.
وما يقلل من أهمية التأثير التركي قياساً بالجبهتين الرئيسيتين هو افتقار أنقرة إلی الامتداد الدولي وعدم سيطرتها علی مناطق مهمة. وتبقی تركيا -رغم ذلك- لاعباً مؤثراً علی تطورات الأحداث من بوابة الشمال السوري.
تجابه أولويات اللاعبين
كما كان اللاعب الإقليمي محورياً في بدايات الأزمة السورية؛ يعود اليوم بأولوياته ليحدد مستقبلها. أضف إلی ذلك أننا إزاء إسقاطات مرحلة الانتقال في النظام الدولي علی المستوی الإقليمي. ومن هذه الإسقاطات بروز تأثير أكثر من لاعب دولي علی الشرق الأوسط، ومن ميزات هذه المرحلة ازدياد حيّز المناورة لدی اللاعب الإقليمي وسرعة تغيير التهديد فرصة أو العكس.
فقد استحالت الفرصة السورية المرئية من تركيا مثلاً إلی تهديد أمني أجبر أنقرة علی الاستدارة سياسياً، ثم الدخول عسكرياً لردع ما اعتبرته مهدداً لأمنها القومي. وفي وضع كهذا؛ علينا أخذ كل لاعب علی حدة بغية استشراف المستقبل.
ونبدأ بتركيا التي استبدلت هزيمتها بعد انتقالها من جبهة "إسقاط النظام" إلی جبهة "الحل السلمي". ورغم أن سيكولوجية تصور التهديد أفضت إلی اتخاذ هذه السياسة، فإن إسقاطات السياسة التركية -في السنوات السابقة لتلك الاستدارة- استمرت في مرحلة ما بعد "داعش".
كما كان اللاعب الإقليمي محورياً في بدايات الأزمة السورية؛ يعود اليوم بأولوياته ليحدد مستقبلها. أضف إلی ذلك أننا إزاء إسقاطات مرحلة الانتقال في النظام الدولي علی المستوی الإقليمي. ومن هذه الإسقاطات بروز تأثير أكثر من لاعب دولي علی الشرق الأوسط، ومن ميزات هذه المرحلة ازدياد حيّز المناورة لدی اللاعب الإقليمي |
فالقوة الكردية في شمالي سوريا -معززة بالدعم الأميركي- تحدّ اليوم أجزاء مهمة من المناطق الكردية في تركيا، والنظام الذي راهنت تركيا علی إسقاطه يُعتبر اليوم شريكاً في مواجهة التهديد الكردي. ولفهم الموقع التركي علی الخريطة السورية؛ يجب أن نعيد التذكير بالتغيير المستمر للأهداف التركية.
فالأهداف الفضفاضة لمرحلة تثوير سوريا انتقلت إلی هدف محدد: إيقاف القوة الكردية، وتقطيع أوصال الحلم الكردي بنسج وحدة بين الكانتونات الثلاثة في الشمال السوري (الحسكة وكوباني وعفرين). وبذلك انحدرت الدوافع من حلم السيطرة إلی ردع المخاطر.
تختلف مسافة اللاعبين الآخرين من الهدف التركي؛ فرغم رفض الجبهة الأولی لزيادة القوة الكردية بشكل يأتي سلباً علی وحدة سوريا، فإن طريقة التعاطي التركية تثير خلافات في تلك الجبهة.
فإيران مثلاً ترفض دخول تركيا الأراضي السورية، ليس رفضاً لإيقاف المد الكردي، بل نبذاً لزيادة مطردة في التأثير التركي المباشر علی الأرض السورية. هذا بينما غضّت موسكو الطرف عن التدخّل التركي، محاولةً الإمساك بالعصا من الوسط ذوداً عن دورها الموازن بين اللاعبين المؤثرين.
أما الجبهة الثانية فترفض التدخّل التركي رفضاً باتّاً وتعتبره احتلالاً علی أنقرة العدول عنه، ولذلك فإن الدعم الأميركي المشروط والمقدم لكرد سوريا أزّم التحالف الأميركي/التركي.
تبقی تركيا إذن شبه وحيدة في دأبها لردع القوة الكردية، وتزداد كوابيس النخب التركية الحاكمة بعد ظهور صعوبات التدخل والزيادة المطردة لكلفته، بينما يؤثر التدخل التركي علی باقي جبهات الصراع الصاعدة.
وبعد أن أطبقت الجبهتان الرئيسيتان علی "داعش" شرقي سوريا، وباتت الخطوط الحمر -متمثلةً في قطع نهر الفرات- واضحةً؛ انتقلت نخبة قوات سوريا الديمقراطية إلی عفرين للذود عن "أرضها" بدل المشاركة في تحرير "أرض الآخرين" في الجبهة الشرقية.
وذوداً عن خطوطها الحمر؛ باتت الولايات المتحدة تعتمد أكثر علی القوة الجوية لردع "أعدائها". وبات جليّاً -منذ استهداف الولايات المتحدة لقوی خصومها في دير الزور– أن المنطقة قد تأتي بمفاجآت لا يمكن التنبؤ بها. أضف إلی ذلك أن السيولة العالية وصعوبة استشراف المستجدات -وخاصة الأهداف المتعارضة علی المدیيْن المتوسط والبعيد- تحدّ إمكانية التنبؤ.
وبسبب التدخل التركي وتأثيره علی الجبهة الشرقية؛ باتت قوات الجيش السوري وحلفائه أكثر تحرراً في التحرك ضد الجيوب المتبقية في عمق الأراضي التي تسيطر عليها. وفي وضع هذا؛ بدأت عملية استعادة الغوطة الشرقية.
تطور الرؤية إيرانية
وإلی جانب الأزمة الشمالية المتصاعدة والشرقية المفتوحة علی المفاجآت؛ تتصاعد أزمة أخری في أقصی الجنوب الغربي لسوريا بين اللاعبين المؤثرين. ففي فبراير/شباط الماضي أسقطت المضادات الجوية السورية -لأول مرة منذ عقود- طائرة "أف 16" إسرائيلية.
وقامت إسرائيل بالرد فقصفت بعض تلك المضادات، كما أسقطت طائرة بدون طيار (درون) انطلقت من الأراضي السورية بمضادات اسرائيلية. ولم تكن المجابهة يتيمة في السنوات الأخيرة، إلا أنها تشير إلی زيادة مطردة لعنصر المفاجأة في تلك الجبهة، بعد الانتهاء من خطر "داعش" في العراق وسوريا.
مع هزيمة "داعش" إذن تتصاعد الأزمات المحيطية في الأزمة السورية، وتتغيّر علی إثرها التحالفات السابقة؛ وفي بيئة كهذه يُعيد الإستراتيجي الإيراني تركيزه علی أهدافه الرئيسية في سوريا. فإلی جانب هدف الإبقاء علی الحكومة السورية ثمة هدفان آخران مترابطان: الإبقاء علی سوريا في "محور المقاومة"، والحفاظ علی وحدة سوريا |
فقد أبدت إسرائيل استعداداً واضحاً لمواجهة أية مضاعفات لتدخلها الجوي ضد حلفاء الحكومة السورية (إيران وحزب الله). وإلی جانب البُعد العملياتي؛ استطاعت إسرائيل تركيز جزء مهم من الاهتمام الأميركي والغربي بسوريا علی مستقبل حضور إيران وحزب الله في سوريا.
نحن إذن إزاء إستراتيجية احتواء عملية مصحوبة بتجييش إعلامي ارتكز علی قضيتين تصرّ عليهما إسرائیل: "تعزُّز القوة الإيرانية في سوريا"، و"إنشاء مصنع صواريخ إيرانية علی الأراضي اللبنانية"؛ وفق المطروح إسرائيلياً.
تسعى إسرائيل لتقطيع أوصال الحلف الممتد من إيران إلی لبنان، وتحاول استقطاب أو تحييد اللاعبين المؤثرين بسوريا. وإذا كانت الإدارة الأميركية تشاطر اليوم إسرائيل الرأي في ضرورة احتواء "الخطر الداهم"؛ فهي أقرب لرؤية إيران في معارضتها للتدخل العسكري لتركيا شمال سوريا.
ولذلك؛ فإن المواجهة مع إيران في سوريا لا تتماشى مع الموقف الأميركي في المواجهة الشمالية، لأنها ستربك اللاعب الموازن للتدخل التركي علی الأرض.
ولا تقترب روسيا إلی أي من الرؤيتين، بل تحاول الحفاظ علی الحياد بغية استمرار دورها الموازِن في سوريا. لموسكو بالتأكيد ترجيح "للسلم الحار" علی الحرب التي قد تربك أوراقها، وتجبرها علی العدول عن الحياد في بيئة مأزومة.
مع هزيمة "داعش" إذن تتصاعد الأزمات المحيطية في الأزمة السورية، وتتغيّر علی إثرها التحالفات التي حددت معالم المرحلة السابقة؛ وفي بيئة كهذه يُعيد الإستراتيجي الإيراني تركيزه علی أهدافه الرئيسية في سوريا.
فإلی جانب هدف الإبقاء علی الحكومة السورية -الذي بات من الماضي- ثمة هدفان آخران مترابطان: الإبقاء علی سوريا في "محور المقاومة"، والحفاظ علی وحدة سوريا.
وتعلم طهران أن بقاء سوريا في محور المقاومة مرهون بتعزيز الحكم فيها، ومن أولويات ذلك إعادة سيطرة الحكم علی كامل التراب السوري. كما تعلم أن تحقيق ذلك عسكرياً سيأتي بمواجهات مع الجبهتين الثانية والثالثة.
وإذا كانت الحكومة السورية وحلفاؤها في غنی عن المواجهات؛ فإن ثمة حلا آخر: مواصلة العمليات العسكرية لاستعادة الجيوب الباقية في عمق الأراضي المسيطر عليها، ودخول عملية تفاوضية إشراكية مع المناطق التي تسيطر عليها القوات المتحالفة مع أميركا وتركيا، بغية تحييدهما واستعادة السيادة السورية دون اللجوء للمواجهة.
نحن إذن أمام إستراتيجية صعبة المراس، قد تفضي -إن أثمرت- إلی تقريب المعارضة السورية من إيران وحلفائها، وطرح حلول بديلة لمستقبل سوريا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.