كيبوتسات إسرائيل.. تجمعات استيطانية يتدرب سكانها على الزراعة والسلاح
من أهم المؤسسات الاستيطانية الإسرائيلية التي استند إليها الاستعمار في فلسطين، يُنظر إليها باعتبارها مؤسسات نموذجية لتوليد جماعة وظيفية شبه عسكرية. فاختيار موقعها يكون لاعتبارات عسكرية بالدرجة الأولى، ثم لاعتبارات زراعية، وأعضاؤها لا يتدربون على الزراعة فحسب، بل على حمل السلاح أيضا.
والكيبوتس كلمة عبرية تعني "تجمّع"، وكان الهدف من هذه التسمية جمع يهود العالم في فلسطين. وتستخدم للإشارة إلى مستوطنات تعاونية تضم جماعة من المستوطنين الإسرائيليين يعيشون ويعملون سويا ويتعاونون في الزراعة.
النشأة والتأسيس
تأسس أول كيبوتس عام 1910 على ضفاف بحيرة طبريا، أطلق عليه اسم "دغانيا"، وأصبح نموذجا لحركة الكيبوتسات اللاحقة، أقام فيه المهاجرون الجدد القادمون من ألمانيا وبولندا وروسيا إلى الأراضي الفلسطينية.
تكون العضوية في الكيبوتس بالاختيار الحر من قبل العضو بعد استجابته للمعايير والمقاييس المطلوبة. وكانت الكيبوتسات تنظم الهجرة غير الشرعية إلى فلسطين منذ عام 1934، واستمرت حتى بعد تأسيس منظمة خاصة للهجرة اليهودية عام 1939.
توسع دور الكيبوتسات بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، فكانت لهذه المؤسسات الاستيطانية إسهامات كبيرة من الناحية الاقتصادية، منها توفير فرص عمل للمهاجرين الجدد، مما خفف من الأعباء القائمة على الهستدروت (الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية). وكان لها أيضا دور عسكري في الحروب التي خاضتها إسرائيل.
ومن الناحية السياسية، كان أعضاء الكيبوتس فاعلين في الانتخابات الإسرائيلية، فكانت لديهم القوة لترجيح كفة مرشح على آخر، وعملت الحكومات على توطيد فكرة الكيبوتسات ودعمها.
كما حاولت الحكومات الإسرائيلية تقديم نظام الكيبوتس للعالم على أنه النموذج الذهبي الذي لا مثيل له، باعتباره يمثل نمط الحياة الاشتراكية المثالية في الدولة الرأسمالية.
أصبح يعيش في الكيبوتسات بحلول عام 1950 حوالي 67 ألف إسرائيلي، أي ما يعادل 7.5% من السكان حينها. وبلغت نسبتهم ذروتها عام 1989، إذ بلغ عدد سكان الكيبوتسات حوالي 129 ألف شخص في 270 كيبوتسا تقع غالبتها في أطراف إسرائيل بهدف الدفاع عنها.
ومن أعضاء الكيبوتسات الذين أصبحوا قيادات سياسية في إسرائيل ديفد بن غوريون وموشيه ديان وشمعون بيريز وغيرهم، كما كان ثُلث الوزراء الإسرائيليين في الفترة بين 1949 و1967 ممن عاشوا في الكيبوتسات، ثم إن 40% من إنتاج إسرائيل الزراعي و7% من صادراتها من إنتاج الكيبوتسات، و8% من إنتاجها الصناعي.
بنية الكيبوتس الداخلية
تعد الحياة داخل الكيبوتس جماعية إلى أقصى حد، فملكية الأرض والمباني والأدوات، بل أحيانا الملابس الشخصية، ملكية جماعية، وتنعدم أشكال التعبير الفردية في الحكم.
عندما ينضم عضو للكيبوتس فهو لا يشتري شيئا لأنه لن يمتلك شيئا، وعندما يترك الكيبوتس فإنه لا يبيع شيئا ولا يأخذ معه أي شيء.
يحصل أعضاء الكيبوتس على كل احتياجاتهم الأساسية دون مقابل مثل الطعام والمسكن والملبس، وأحيانا إصلاح الملابس وغسلها، والرعاية الطبية ورعاية الأطفال والتعليم.
أما احتياجات الفرد الأخرى مثل شراء بعض السلع الاستهلاكية أو قطع الملابس الكمالية وتكاليف الإجازات التي يقضيها خارج الكيبوتس فيدفع تكاليفها بنفسه من مصروف جيبه الشهري الذي يعطى له، وإن تبقى معه أي مبلغ فعليه أن يعيده لصندوق الكيبوتس، وكان يحظر على الأعضاء أن يكون لهم حساب خاص في البنك.
يتناول الأعضاء في الكيبوتس الطعام بشكل جماعي، ومن يرفض ذلك يُعد متمردا وخارجا عن الجماعة.
معظم الشبان من أعضاء الكيبوتسات (ذكورا كانوا أم إناثا) يكونون رهن الإشارة في الخدمة العسكرية، كما تشكل بعض الكيبوتسات مواقع لتخزين السلاح وصناعة الذخائر.
يقوم أعضاء الكيبوتس بأشق المهام العسكرية وأخطرها، وأيضا بالمهام السرية في الداخل والخارج، كما يوجد العديد منهم في الوحدات الخاصة مثل وحدة المظليين ووحدة الضفادع البشرية.
يُحظر على اليهود المهاجرين من دول عربية الانضمام لهذه الكيبوتسات، فهي مؤسسات خاصة باليهود الأشكناز المهاجرين من دول غربية.
التنشئة الاجتماعية في الكيبوتس
يضعف الكيبوتس الروابط الأسرية لحساب الروابط القومية والولاء للدولة، وحسب التصور الذي يقوم عليه هذا النوع من التجمعات، فإن الشخص الذي يعيش حياة فردية من دون روابط بأي أشخاص آخرين هو القادر على الانتماء بسهولة ويسر إلى جماعته الوظيفية، ويكون قادرا على تكريس ذاته لوظيفته.
يعيش الأطفال في الكيبوتسات بعيدا عن والديهم، ولا يزورونهم إلا بعض الوقت بعد الدراسة وبعد استكمال ساعات العمل المطلوبة منهم.
يحافظ الكيبوتس على مبدأ الجماعة ويدعمها، فالجماعة هي التي تقرر كل شيء، بداية من الموسيقى التي يسمعها الفرد إلى الوحدة العسكرية التي سيخدم فيها.
وإذا رفض أحد الأعضاء التطوع في الجيش يتعرض للضغط والتحريض والتخوين داخل "الأسرة الكيبوتسية".
تصميم الكيبوتس
تُظهر طريقة الإسكان في الكيبوتس مدى الحياة الجماعية فيه، إذ تُقسَّم المباني إلى قسمين: المساكن والمباني الأخرى. أما المساكن فهي عادة وحدات متقاربة يتكون كل منها من طابق واحد، تقع بين مجموعة من الأشجار، وكل وحدة سكنية مقسمة إلى شقتين أو ثلاث، وتتكون كل شقة من غرفة صغيرة يقطنها رجل وامرأة.
ويكون تنظيف الثياب وكيّها في بيت الغسيل العام، وأثاث المنازل بسيط لأبعد الحدود، وإن وُجد تلفزيون أو جهاز ستيريو فيوضع عادةً في غرفة المعيشة الجماعية.
ويضم الكيبوتس أيضا عدة مبان منها: مبنى الثقافة، ومبنى الاجتماعات، ومكان مخصص للرياضة. وعلى مقربة من المجموعة السكنية من المباني، توجد المجموعة الإنتاجية، التي تضم حظائر الحيوانات والمصانع والمزارع، وهي في العادة تكون محيطة بالمباني بشكل كلي.
الكيبوتس والمرأة
يتخذ الكيبوتس مبدأ المساواة المتطرفة بين الرجل والمرأة، فيقوم الجميع بالأعمال اليدوية نفسها، شاقة كانت أم هينة، ويعتبر القائمون على الكيبوتسات ذلك أحد سبل إعداد النساء للعمل في الجيش الإسرائيلي.
حاولت بعض الكيبوتسات إلغاء الفرق بين الرجل والمرأة بهدف "تحرير المرأة تحريرا كاملا"، لذلك لا يوزع العمل بين أعضاء الكيبوتس على الأساس الجنسي، ومما ساعد على هذا الاتجاه تنشئة الأطفال الجماعية بعيدا عن نفوذ الوالدين، الأمر الذي يعفي المرأة من واجب الأمومة.
لكن بعض الفترات الاستثنائية في حياة المرأة مثل فترة الحمل أو الإرضاع تكسر هذه القاعدة، وتصبح النساء غير قادرات على القيام بالأعمال الشاقة، وكثيرا ما يتركن وظائفهن وتضيع منهن، ونتيجة لهذه الظروف وجدت المرأة نفسها تعمل غالبا في قطاع الخدمات، وهو قطاع يزدريه أعضاء الكيبوتس لأنه قطاع غير إنتاجي.
اتخاذ القرار
يتخذ الكيبوتس مبدأ الديمقراطية والمساواة بين الأعضاء في كل شيء، فتكون السلطة العليا هي المؤتمر العام للكيبوتس، الذي يضم جميع الأعضاء ويكون عبارة عن اجتماع أسبوعي عادة ما يعقد يوم السبت.
وتوكل القرارات الأساسية المتعلقة بإدارة مزارع الكيبوتس وتحديد سياستها الإنتاجية والاقتصادية إلى أمانة اتحادات مزارع الكيبوتس.
وتوضع هذه القرارات موضع التنفيذ داخل الكيبوتس من خلال فئة صغيرة من الأفراد يتناوبون على المراكز القيادية، فتتركز السلطة في يد السكرتير العام للمؤتمر والمدير الاقتصادي.
تطورات الكيبوتسات
في أواخر الخمسينيات من القرن العشرين، تطورت الكيبوتسات فلم تعد مزارع جماعية، بل أصبحت مجموعة من المشروعات الصناعية الضخمة، وقد وصف مراسل "واشنطن بوست" كيبوتس دجانيا بأنه "كيبوتس يديره مصنع".
وفي عام 1960 كان 30% من أعضاء الكيبوتسات يعملون في الصناعة، وفي عام 1970 بلغت نسبتهم 45%، وزادت النسبة لاحقا إلى أكثر من 50%.
التقشف سمة أساسية من سمات الحياة داخل الكيبوتس باعتباره مؤسسة عسكرية، ويظهر هذا التقشف أيضا في أسلوب الحياة نفسها، إذ يحرم على الأعضاء من تناول الطعام على انفراد، ولكن لاحقا بدأت تظهر حياة الأسر وحمامات ومطابخ مستقلة لكل أسرة، ومساكن مؤثثة تأثيثا فاخرا بأدوات تعد ترفا، وذلك نتيجة النشاط الاقتصادي الذي رفع مستوى المعيشة.
وتوجد في الكيبوتسات أيضا سيارات تنقل الأعضاء إلى المدينة، وبإمكان العضو حجز سيارة ليستخدمها بمفرده.
ومن أبرز التطورات التي يرى مؤسسو الكيبوتسات أنها سلبية المسكن المستقل، وانضمام كثير من الأطفال إلى ذويهم وقضائهم معظم أوقات فراغهم في وحداتهم السكنية المستقلة.
وبدأت أيضا بعض الكيبوتسات إنشاء مساكن تشبه شقق الطبقات المتوسطة في أي بلد غربي حديث، وانتشر تناول الطعام على انفراد بعد تحول الصالات الملحقة بالمنازل إلى غرف للطعام.
كما أصبح الفنانون يقيمون في الكيبوتسات، إذ وجدوا أن أسلوب الحياة في هذه المزارع الجماعية يوفر لهم الراحة والأمان المالي. وبعضهم ليسوا أعضاء في الكيبوتسات، وهذا في حد ذاته يُعد تطورا عميقا، إذ لم يكن يسمح لمُستوطن العيش داخل الكيبوتس دون أن يكون عضوا فيه.
المشكلات المترتبة على التطور
أضعف الانتقال من الزراعة إلى الصناعة تماسك الكيبوتسات، وولَّد داخلها توترات أثرت في درجة فعاليتها ومدى إسهامها في البناء المجتمعي الإسرائيلي. ومن بعض المشكلات التي ظهرت مع هذا التطور ما يلي:
- نظرا لانصراف عدد كبير من أعضاء الكيبوتسات إلى الأعمال الصناعية بدأت العمالة العربية الأجيرة تظهر مرة أخرى داخل الكيبوتس للقيام بالأعمال الزراعية، وهذا يُعَدُّ -من وجهة نظر إسرائيلية- ضربة في الصميم لمفهوم العمل الإسرائيلي.
- انقسم العاملون في الكيبوتسات إلى فريقين، أحدهما يعمل بالزراعة والآخر يعمل بالصناعة، مما خلق كثيرا من الانقسامات.
- المشروع الصناعي، على عكس المشروع الزراعي، يجب أن يكون حجمه كبيرا، والكيبوتس من المفترض أن يظل حجمه صغيرا حتى يتسم بالدينامية وتسهل إدارته.
- الإدارة الذاتية للكيبوتسات أصبحت تزداد صعوبة بعد تنامي القطاع الصناعي داخلها، لأن القضايا التي يواجهها أعضاء الكيبوتس تتطلب خبرة المتخصصين، وهذا أمر غير متاح للأعضاء العاديين الذين لم يتلقوا تدريبا أو تعليما خاصا.