رأس الرجاء الصالح.. "مقبرة السفن" التي اكتشفها البرتغاليون وغيرت مسار التجارة العالمية
رأس الرجاء الصالح رأس من اليابسة يمتد في المحيط الأطلسي جنوب غربي دولة جنوب أفريقيا، اكتشفه البرتغاليون عام 1498م، وأطلق عليه الملك جون الثاني هذا الاسم ابتهاجا وتفاؤلا، كما سلكته السفن التجارية من وإلى آسيا، قبل حفر ممر قناة السويس، وأحيانا لكونه بديلا ذا جدوى تجارية.
الموقع
يقع رأس الرجاء الصالح في القارة الأفريقية جنوب غرب دولة جنوب أفريقيا، يبعد 140 كيلومترا عن مدينة كيب تاون، يمتد في المحيط الأطلسي، ويربط بين قارّتي آسيا وأفريقيا عبر الدوران حول الأخيرة.
كان هناك اعتقاد خاطئ بأنه يقع في أقصى جنوب القارة الأفريقية، فاصلا بين المحيطين الأطلسي والهندي، لكنّه في الحقيقة يقع على بعد 150 كيلومترا شرقي النقطة التي تسمى "رأس أقولاس".
التاريخ
يعود اكتشاف رأس الرجاء الصالح إلى التوسع البرتغالي عبر العالم خلال القرن الـ15 لأسباب دينية واقتصادية، تزامنا مع فك الارتباط مع العثمانيين الذين أحكموا قبضتهم على التجارة الأوروبية.
عوّل البرتغاليون في بادئ الأمر بسبب قلّة معلوماتهم على المغامرة، فقام المستكشف البرتغالي "ديوغو كاو" بين عامي 1482 و1484 برحلتين فاشلتين لمحاولة الوصول إلى الطرف الجنوبي من الساحل الغربي لأفريقيا.
ولكن الملك جون الثاني ظل مصمما على مواصلة الجهود الكشفية، فكلف "بارتولوميو دياز" في يوليو/تموز 1487 بقيادة رحلة جديدة للبحث عن طريق تجاري حول الطرف الجنوبي من أفريقيا، والبحث كذلك عن شخصية أسطورية يُعتقد أنه كان الحاكم المسيحي القوي لمملكة في مكان ما خارج أوروبا ربما في الداخل الأفريقي هو "بريستر جون".
تحرّك الأسطول من العاصمة البرتغالية لشبونة على متن سفينتي كارافيل بحمولة 50 طنا وسفينة إمداد لكل واحدة، و6 أفارقة للتفاوض مع السكان الأصليين للمناطق الأفريقية التي يصلونها، وحمل مجموعة من الأعمدة الحجرية المنحوتة، لاستخدامها في تسجيل تحرّكه.
وفي الثاني من ديسمبر/كانون الأول 1487 تجاوز الأسطول أبعد نقطة وصل إليها "كاو"، ووصل إلى "خليج كونسيساو" المسمى "خليج وولفيس".
تقدّم الأسطول، وانحرف إلى الجنوب الغربي بعيدا عن اليابسة بعد إحراز تقدم بطيء على طول الساحل الناميبي، ويقول بعض المؤرخين إن هذا الانحراف حدث بسبب رياح العواصف، بينما يقول البعض الآخر إنه حدث لأن الأسطول كان يحاول العثور على رياح أكثر ملاءمة، ولكنه حقق للأسطول النتيجة التي كان يصبو إليها لأن السفن اقتفت قوسا عريضا حول الطرف السفلي لجنوب أفريقيا.
وبعد 30 يوما في المحيط الأطلسي وصل الأسطول إلى الرأس الجنوبي للقارة في الرابع من فبراير/شباط 1488، ودخل المستكشفون خليجا أطلقوا عليه اسم "ساو براس"، وأصبح معروفا فيما بعد باسم خليج "موسيل باي".
واصلت السفن الإبحار شرقا وفق معطيات حصل عليها الطاقم تؤكد أن الساحل يميل تدريجيا إلى الشمال الشرقي، فأدرك دياز أنهم حققوا الهدف بعد إبحارهم حول الرأس الجنوبي لأفريقيا.
ووصلت البعثة الاستكشافية إلى أبعد نقطة لها في 12 مارس/آذار 1488، عندما رست في "كوايهوك"، وهي مقاطعة الكاب الشرقية، بالقرب من مصب نهر "بوزمانز"، حيث أقاموا أعمدة حجرية منحوتة باسم "ساو غريغوريو".
بيد أن الإمدادات انخفضت بعد ذلك، كما أصيبت السفن نتيجة العواصف التي تعرّضت لها، فطلب الطاقم من دياز العودة إلى لشبونة ليشرح للملك جون الثاني كيفية الوصول إلى هذه النقطة التي استدارت فيها السفن حول أفريقيا، والتي جعلتها تسير والقارة الأفريقية غرب البحر بعد أن كانت تسير والقارة شرق البحر.
وفي رحلة العودة أبحر المستكشفون بالقرب من الساحل الجنوبي الغربي لأفريقيا ليقابلوا رأس الرجاء الصالح لأول مرة في مايو/أيار 1488.
ولكن الظروف السياسية حالت دون إرسال بعثات أخرى لإكمال ما حققه أسطول دياز، وفي عام 1497 حاولت إسبانيا، التي كانت المنافس التقليدي للبرتغال آنذاك، الوصول عن طريق الغرب إلى الهند، لأن البرتغاليين كانوا قد سيطروا على الطريق الشرقي لها.
ولإيقافهم أرسل الملك البرتغالي "عمانوئيل الثاني" حملة كبيرة بقيادة "فاسكو دي غاما" عام 1498 بهدف الدوران حول رأس الرجاء الصالح للوصول إلى الهند، فعبرت الحملة بعد 6 أشهر من إبحارها رأس الرجاء الصالح، ووصلت إلى شواطئ موزنبيق في الساحل الشرقي لأفريقيا، ثم توقفت لأن العرب كانوا محتكرين لهذا المحيط ولا أحد غيرهم يعرف طريق الهند.
وتطوع البحار العربي ابن ماجد لإيصال الحملة من ساحل أفريقيا الشرقي إلى الهند، بعد أن أقنعه فاسكو دي غاما أن هدفهم عملي جغرافي بحت، فوصلت الحملة بقيادته عام 1499وتوغلت في الساحل القريب.
وفي عام 1500 أرسلت البرتغال جيوشها لتسيطر على كل الساحل الشرقي لأفريقيا، والساحل الجنوبي للجزيرة العربية والساحل الغربي للهند والخليج العربي.
يذكر أن دياز أطلق على الطريق اسم "رأس العواصف" بسبب ظروف البحر القاسية والطقس العاصف فيه. لكن الملك البرتغالي جون الثاني غيّر الاسم فيما بعد إلى الاسم الحالي "رأس الرجاء الصالح"، تيمّنا وتفاؤلا منه بهذه المنطقة الجغرافية، والثروات الكبيرة التي اكتسبتها بلاده من الفرص التجارية التي ولّدها هذا الموقع الجغرافي.
وقد غيّر رأس الرجاء الصالح حركة الملاحة، وسهل وصول البضائع، دون أن تتعرض للضرر في البحر، كما شكّل نقطة استراحة للسفن التجارية القادمة من أوروبا إلى المستعمرات التابعة لها في آسيا وأفريقيا.
كما أسهم اكتشاف رأس الرجاء الصالح في إضعاف دولة المماليك في مصر عسكريا واقتصاديا، لأنه حوّل حركة التجارة العالمية إليه بدلا من مرورها بالسواحل المصرية، فأوفدت جمهورية البندقية -التي لم تكن راغبة بوجود منافس تجاري قوي لها في أوروبا- وفودها لبناء تحالف يتصدى للوجود البرتغالي.
وبالفعل شُكّل تحالف ضم المماليك والبنادقة والدولة العثمانية، إلا أن المماليك انهزموا في عدّة معارك آخرها معركة "ديو"، التي مثّلت ضربة للتجارة الدولية في المشرق العربي، وأفقدت المماليك احتكارهم للطرق التجارية الدولية، الأمر الذي جعل الهيمنة على الطرق التجارية تنتقل بين يدي البرتغاليين.
الأثر الاقتصادي
أدّى تحوّل التجارة العالمية إلى طريق رأس الرجاء الصالح في نهاية القرن الـ15 ومطلع القرن الـ16 إلى إحداث تغييرات واضحة في الواقع الاقتصادي آنذاك لصالح البرتغاليين.
ويتميّز بعدد من المميّزات أهمها رخص التكلفة، لكنّه ومنذ أواخر القرن الـ16 تسبب في فقدان آلاف البحارة لحياتهم، بسبب العواصف الشتوية والتيارات الجارفة، وسماه البعض "مقبرة السفن"، وعلى الرغم من ذلك يُعد البديل الأول لممر قناة السويس إذا حدثت ظروف أمنية أو حين تنخفض أسعار النفط عالميا.