كيف أحدد هدفي في الحياة؟
ليس ثمة تعريف محدد وصارم للهدف، لكنه ببساطةٍ يُساعدنا على تحديد التجارب التي نود خوضها على ضوء قيمنا التي نسير على نهجها، أي تحرِّك أهداف حياتنا سلوكياتنا. الأهداف طموحات شخصية؛ لذا تتخذ أشكالا مختلفة وتتطلب فترات متفاوتة لتحقيقها حسب أولويات كل فرد وظروفه. لكن الأهداف مهمة؛ لأنها بوصلة تحدد اتجاهاتنا في الحياة، وتحمِّلنا مسؤولية تحقيق سعادتنا وراحتنا لعيش أفضل حياة ممكنة.
مَن منا ليس لديه أحلام وتصورات عامة عن حياته، عما قد يُسعده، عن التجارب التي يود خوضها؟ وربما -بعضنا- لديه فكرة عامة عن كيفية تحقيقها. لكن تحديد أهداف واضحة وممكنة وواقعية أمر غاية في الأهمية؛ لأننا -بدايةً- سننتقل من "أتمنى لو أتعلم الإسبانية" إلى "كيف سأتعلم الإسبانية؟"، هذا هو الهدف، قفزة من الحلم إلى التخطيط، أو كما قال عالم النفس المجري الأميركي، ميهالي كسيسنتميهالي، "تحوِّلُ الأهداف المشي العادي إلى هرولة"(1).
اقرأ أيضا
list of 2 itemsهجوم مفاجئ لحزب الله على لواء غولاني.. هل يغير معادلات الحرب مع إسرائيل؟
ما يجب أن تعرفه عن تحديد هدفك بالحياة
في الستينيات، وضع عالم النفس الأميركي، إدوين لوك، مبادئ تحقيق الأهداف حتى يجد المرء حافزا لتنفيذها وتوجيه سلوكياته بناء عليها وأيضا رفع من ثقته بنفسه والإيمان بإمكانية تحقيقها. لماذا عليك أن تحدد أهدافك؟ لتكوِّن صورة واضحة عن مسارك في الحياة، الوضوح يؤدي إلى إيجاد دافع مستمر يغذي رغبتك في الالتزام، كذلك لتفرض على نفسك تحديا يحثك على الاستيقاظ كل صباح والتقدم نحوه، حتى تتمكن من تقييم ذاتك كل فترة، أو نيل تقييمات من الآخرين إن كان الهدف لا يشملك وحدك، مثل أن تترقى في عملك أو تنجح في دراستك. تُساعدنا آراء الآخرين على ضبط بوصلتنا، وتفرز أدمغتنا الدوبامين حين نتلقى ردود فعل إيجابية ومُرضِية. أيضا تحديد الأهداف بعيدة المدى سيتطلب فهما ووعيا بالأهداف قصيرة المدى التي تكوِّن الهدف النهائي، فتتفهم طبيعة الوقت وتعقيد عملية تحقيق الأهداف، فلا تُحمِّل ذاتك فوق طاقتها.
يقول عالم النفس الأميركي، مارتن سيليغمان، إن سعادة الفرد ورضاه عن حياته يتحقق بـ5 متطلبات، جمَعَها في نموذج "بيرما (PERMA)": المشاعر الإيجابية، والانخراط في التجارب، والعلاقات الإنسانية بشتى أشكالها، ومعنى يكرِّس المرء حياته له، وإنجازات مستمدة من كل ما سبق. بمعنى آخر، أهداف الحياة هي ما يمنحنا المقدرة على تحمل المنغصات اليومية والروتين الممل، والاستمتاع بشعور الإنجاز مع كل خطوة نحو الهدف، حتى السعي نحو حياة أفضل يؤدي في بعض الأحيان إلى السعادة التي نتوق إليها(1).
كيف أحدّد هدفي بالحياة؟
- أولا: اختر هدفا ذكيا
يحدد ملايين الناس قوائم طويلة في بداية كل عام جديد أو في أعياد ميلادهم، لكن البعض لا ينجح في تحقيق ربعها حتى، والسبب هو طريقة التخطيط من الأساس، إذ نضع أهدافنا في زخم اللحظة ونشوتها، ونتوقع أن نُحقق المستحيل دفعة واحدة دون تروٍّ، لهذا السبب تغيير المرء سلوكه نحو أهدافه أمر شاق، ثمة الكثير من الطرق لتطويع حماس الأهداف، وأن نسجلها ونحن فعلا مدركون أن هذه حياتنا المتخيلة. يسير الهدف الذكي (ينبع ذكاء الهدف من طريقة التخطيط له وتنظيمه، وليس من فحواه) وفق نظرية تُختصَر بـ5 حروف: "SMART"، التي تعني "ذكي" بالإنجليزية، وهي أنجح الطرق وأشهرها، حيث تمكنك هذه الطريقة من دمج النظري بالعملي خلال تفكيرك في المستقبل، إضافة إلى إبقائك على أرض الواقع حين تقيس بها أهدافك، وكلما اتضح المسار سَهُل البدء فيه والاستمرار عليه.
- هدف محدد (Specific): ينبغي أن يكون الهدف واضحا لأقصى حد ممكن حتى تتمكن من تفكيكه إلى أهداف أصغر تُحققها على المدى القصير، "أريد أن أحصل على منحة كذا" وليس "أريد أن أكون ذكيا"، هنا تدمج طريقة تحقيق الهدف مع تطبيقه في آن واحد، كذلك هدف المنحة نفسه ينطوي على تفاصيل أصغر وأصغر، "سأحسِّنُ لغتي"، "سأطوِّر من مهارة تقديم نفسي". حاول كتابة الهدف الذي تريد وليس ما ترغب أن تتجنبه، "لا أريد أن أصرف راتبي كله" بل "أريد استثمار جزء من راتبي في كذا وكذا".
- يمكن قياسه (Measurable): أضِف حسب هدفك معايير تقيسه من خلالها، سواء كانت أرقاما محددة أم تمارين أم فترات زمنية، متابعة تلك الأرقام ستشعرك بالرضا كلما تقدمت، وستساعدك في ألا تتعجل في خطواتك أو ترفع من توقعاتك. أيضا في حال وقوع خطأ ما، ستلاحظه وتُعدّل هدفك حسب المطلوب، مثل موقف تصرفت فيه على نحو خاطئ، أو مخاوف تمكّنت منك في لحظة ما، كلها يمكنك ملاحظتها وتعديلها خلال عملية تتبع الهدف.
- يمكن إنجازه (Achievable): لا تهيئ نفسك للفشل من خلال فَرْض أهداف غير معقولة على نفسك، بوسعك أن تكون طموحا لما هو واقعي وليس مستحيلا، لا يمكن لأحد احتراف الباليه وهو/هي في الثلاثين من عمره مثلا، لكن يمكنه أن يتعلمه ويستمتع به.
- مرتبط بحياتك (Relevant): من الضروري تحديد أهداف ملائمة لشخصيتك وظروف حياتك. إن أردت زيادة معدل حركتك فلك أن تختار بين تسلق الجبال أو الرقص مثلا، كلاهما هدفان يختلف التخطيط لهما، لكن لا يراهما الجميع على القدر نفسه من الإمتاع. أنت أفضل من يعرف نفسك، فعليك أن تقرر ما يناسبك. ينبغي أن يكون الهدف مُلهِما لك، وإلا إن لم تكن مصمما على تحقيقه وتراه على قدر بالغ من الأهمية، فكيف ستجد المحفزات كل يوم لتسعى خلف ما تريد؟
- مُحدَّد بوقت أو يمكن تتبع تقدمه (Trackable/time-based): عليك تحديد وقت معقول للبداية، ليس بعيدا للغاية فيتعاظم كسلك، ولا قريبا للغاية فتُهمل التخطيط والإعداد بتروٍّ. عليك أن تحدد فترات زمنية تتوقع من خلالها خط النهاية، دون تحديد فترة من الزمن ستظل عالقا في التسويف واختلاق الأعذار، كلما حددت هدفك بواقعية في فترة محددة لكن مرنة ستزيد احتمالية التزامك به وتحقيقه.
من هذا المنطلق، لا تقل: "أريد أن أخفض وزني"، هذا هدف غامض، يمكن تسويفه إلى ما لا نهاية، بل قل: "أود ممارسة المشي لمدة نصف ساعة ثلاث مرات في الأسبوع، أيام الأحد والثلاثاء والخميس، لمدة شهر"، هكذا اتضحت صورة خطوات الهدف، وأصبحت قادرا على رؤية ما يمكنك فعله الآن وتطبيقه على الفور(2).
- ثانيا: صمم الهدف وحدد تفاصيله
الهدف، كما ذكرنا، نية تشكِّل سلوكياتنا، لذا معنى تصميم الأهداف أن يكون ذا نهاية واضحة، نقطة منها نقيس تقدمنا والتزامنا من خلال تفاصيل واضحة. خلال عملية التفكير في الهدف يجب أن نظل واقعيين، أن تكون ثمة طريقة لتحقيق ما نريد، لنركز بسهولة على التقدم الإيجابي نحو إنجازنا بدلا من تجاهله أو الهرب من أي نتائج سلبية أو عثرات.
كذلك علينا أن نراعي تقسيمه إلى أهداف أصغر وأصغر في حالة الضرورة، أولا حتى نفرِّق بين الهدف النهائي والأهداف الصغيرة قصيرة المدى الذي يتكون منها، ولنتمكَّن من الاحتفال بنجاحاتنا خلال الرحلة كلها. قد يُقسَّم الهدف، حسب طبيعته والمسار الذي تقرره، على أساس أسبوعي أو شهري، توضّح الأبحاث ضرورة التقسيم والاحتفال من أجل الحفاظ على الحماس والتحفيز المستمر.
في هذه المرحلة، سجِّل كل الطرق المتاحة لتحقيق هدفك، بداية من خلال كتابة كل الطرق التي تخطر ببالك بغض النظر عن صعوبتها أو العراقيل فيها، إذ في هذه المرحلة لا توجد أفكار سيئة، بل أفكارنا تقرِّبنا وتوضح لنا الممكن والمتاح. في هذه الخطوة قد تستفيد من استشارة الآخرين، أصدقائك أو عائلتك أو من هم أكثر خبرة منك في العمل، في توليد المزيد من الأفكار عن كيفية تحقيق هدفك. بعدها تسجِّل أيا ما تحتاج إليه لتسلك كل طريق كتبته: الوقت المطلوب، المتطلبات المادية، الأدوات التي قد تحتاجها؛ تستكشف في هذه الخطوة توقعاتك من نفسك بشكل واقعي ومعقول، وقتها يمكنك حذف بعض الاختيارات التي لا تتناسب مع طبيعة حياتك أو ظروفك(1).
- ثالثا: استعد للعراقيل
قد يأخذنا التفكير في مسارات أهدافنا إلى أفكار عظيمة وغير محدودة، النظر في العوائق المحتملة التي قد تنشأ أمامنا لن يعيدنا إلى أرض الواقع فحسب، بل سيهيئنا لكل مرحلة على حدة، وسنتمكن من الاستعداد نفسيا لأي طارئ مُقبِل. إدراك أننا سنتلقّى رسائل رفض، أو سنشعر بضجر غير مبرر، أو نمُرّ بعوائق مالية، أو ضيق في الوقت؛ بنفس أهمية التخطيط للهدف ذاته؛ لأن التعثر جزء من الرحلة، وإلا ما كان تحقيق الأهداف صعبا ويحتاج إلى إعداد.
أي شيء قد يحول بينك وبين هدفك؟ كيف ستجتازه؟ هل ثمة مسارات بديلة لم تستكشفها؟ هل يمكنك استشارة أحد؟ هل أنت مندفع وفي حالة من العجلة لتحقيق هدفك؟ ينبغي عليك الإجابة عن تلك الأسئلة حسب طبيعة الهدف والعائق المتوقع. قد تكون المرونة هدفا في حد ذاتها؛ لأنها مهارة تنشأ بالتعلم ولا نولد بها، إنها القدرة على المثابرة والاستمرار رغم كل شيء، إنها تقبُّل الهزيمة الحتمية، وستستفيد من الاستعداد لها والتدرب عليها على مدار حياتك(1).
- رابعا: قسِّم أهدافك على نطاق حياتك
حين نقول كلمة "هدف" نتصور أمورا عملية لها علاقة بمستقبلنا الوظيفي أو الدراسي، لكن الحياة أوسع من العمل. أحد أهم العوامل التي أثّرت على صحتنا النفسية خلال الوباء كان محدودية الأنشطة -أو انقطاعها التام- التي كانت تُشعرنا بالسعادة والاسترخاء والرضا عن أنفسنا، مثل لقاء الأصدقاء أو حضور الحفلات أو حتى تناول الطعام في مطاعمنا المفضلة. تلك الأنشطة، على بساطتها، أساسية في حياتنا، وأدرك بعضنا حين حُرمنا منها أن بعضها مهمٌّ أهمية وظائفنا نفسها. سنظلم أنفسنا ظلما فادحا حين نقرر أن أهدافنا ينبغي أن تسهم بشكل مباشر في معدلات إنتاجيتنا.
حين تضع لنفسك أهدافا خارج نطاق العمل فأنت بهذا تُسهم في مقاومة الثقافة المُلحّة على عيش حياة سريعة وهائلة واستثنائية، التي أحيانا تقودنا إلى الجنون. قد يكون هدفك تعلُّم مهارة أو لغة جديدة، أو هواية بسيطة، أو حتى زيارة أماكن مميزة كل شهر، قد يكون الهدف ثريّا، مثل التعمُّق في القراءة عن ديانتك، أو البدء في ممارسة رياضة جديدة، أو دراسة شيء تشعر بالفضول نحوه، أو قد يكون الهدف ببساطة الحدّ من استخدام الهاتف. يُمكنك أن تضع هدفا لتحسين علاقتك بعائلتك وتخصيص وقت معين للعب لعبة جماعية أو وضع خطة للسفر سويا.
اسأل نفسك الأسئلة الآتية لتحدد أهدافك بشكل أفضل: أي أنشطة -خارج نطاق العمل برمته- أستمتع بأدائها دون توقع إنجاز أو تلقي مديح عليها؟ أي أمكنة تُثير فضولي؟ مَن في حياتي أودّ لو أعمِّق علاقتي به؟ أي اهتمامات أو هوايات كانت تُسعدني سعادة خالصة لكن سقطت من خانة أولوياتي؟ من تلك الأسئلة ستستنبط أهدافا ومتعا كثيرة مجزية كانت قد غابت عنك(3).
- خامسا: اعرف نفسك كما ينبغي
إن سألنا بعضنا عن أهدافنا سنجد اختلافات هائلة بيننا، وهذا أمر طبيعي ومتوقع؛ لأن رحلات حياتنا فردية، لكن ثمة هدف واحد من دونه سيصعب تحقيق، أو حتى تحديد، أهدافنا الأخرى: أن يعرف المرء نفسه حق المعرفة ويفهمها. ليس أن تعرف ما تحب وما تكره فحسب، بل أن تفهم محفزاتك وأسباب ردود فعلك في مواقف بعينها، أن تعرف مواطن ضعفك وقوتك. مع الأسف الشديد، لا نعيش حياتنا وفق كتيب إرشادي، ولهذا نحتاج إلى كتابة واحد خاص بنا حتى لا نسير في الحياة بأعين معصوبة.
كيف نتعرّف إلى أنفسنا؟ ينصحنا الكاتب والطبيب "بروس واي لي" أنه كلما تعثرنا في خطوة ما أو لم يسر شيء ما كما خططنا عليه، علينا أن نسأل أنفسنا عما فعلناه خطوة خطوة حتى نصل إلى تلك النتيجة وماذا تعلمنا منها. "لا أدري" أو "لم أفعل شيئا" ليست إجابة أبدا؛ لأن سلسلة من القرارات التي اتخذتها بنفسك هي ما أدت لذاك الموقف. في إمكاننا أن نرثي حالنا فحسب حين نفشل، أو -بعد الانتهاء من الرثاء- أن نستغل تجاربنا السيئة لنتغيَّر ونتكيف ونحسِّن سلوكياتنا في المستقبل.
قد يصل المرء إلى السبعينيات من عمره وهو ما يزال جاهلا الكثير عن نفسه رغم كل الإنجازات التي حققها، يحاول فَهْم أسباب فشل علاقاته السابقة دون أن يحدد ما يبحث عنه لأنه لم يستكشف ذاته من الأساس. علينا أيضا أن نُعرِّض أنفسنا لمختلف التجارب والمواقف والأشخاص، ولا نكتفي بهذا فحسب، بل نتأمل فيما يحدث لنا حتى نتعلم. معرفة الذات ليست مهمة تُزيلها من قائمة مهامك اليومية، بل رحلة تمتد طوال حياتك، لن تأتي لحظة تشعر فيها بأنك تفهم نفسك، قد تكتشف أشياء وتغيب عنك أخرى لأننا نتغير باستمرار، مهمتك هي مراقبة هذا التغيّر وفهمه قدر المستطاع حتى يسهل عليك اتخاذ قراراتك وتحديد أهدافك وفهم دوافعك والتحرّك على أساسها كل يوم(4).
أدوات ستُساعدك
- كتاب: اصنع أفضل حياة لك
تعاون كلٌّ من الكاتبة "كارولين ميلر" والطبيب "مايكل فريش"، مدرب علم النفس الإيجابي وطبيب نفسي إكلينيكي في جامعة بايلور، في كتابة كل خبراتهما عن الأهداف والإنجاز المستقاة من الأبحاث والدراسات العلمية. في الكتاب الكثير من التمارين التفاعلية والاختبارات القصيرة التي ستساعد القارئ على تحديد احتياجاته وطموحاته ورغباته وتحقيقها لعيش الحياة على نحو منتج وواعٍ وسعيد.
——————————————————————————————
المصادر والمراجع
- How to Set and Achieve Life Goals The Right Way, Catherine Moore, Positive Psychology, 2019.
- SMART Goals for Lifestyle Change, Mark Stibich, Verywell Mind, 2020.
- Setting Goals for a Life Worth Living, Jeffrey Davis M.A., Psychology Today, 2022.
- Your Most Important Goal In Life, Bruce Y. Lee M.D., Psychology Today, 2022.