نقاش حول معجزة الإسراء والمعراج
كانت معجزة الإسراء والمعراج، حادثة أثارت النقاش قديمًا وحديثًا، في عهد النبوة وبعده، ولا تزال، ورغم تقدّم العلم الذي قرّب كثيرًا مما كان يرفضه القدامى، فإنّ بعض أحداثها لا تزال موضعَ نقاش وجدل، والمسلم المؤمن بالغيب، يؤمن بما ثبَت وتواتر في القرآن والسنة، وما عدا ذلك فموضع نقاش وخلاف حسب قواعد منهج البحث العلميّ في هذه المسائل.
من المسائل التي وقفتُ أمامها كثيرًا، وبحثتُ عن تفاصيل دقيقة لها، ولم أجد مع طول البحث تفصيلًا مقنعًا حولها، مثال: ما يقال عن معجزة الإسراء تحديدًا.
فهي التي وقف أمامها مشركو قريش يناقشون ويجادلون؛ لأنهم كانوا يذهبون لبيت المقدس، ويزورون الشام في إحدى رحلتَيهم: الصيفية والشتوية للتجارة.
ومما كنت أقرؤه أو أسمعه من الخطباء والدعاة حديثهم عن الإسراء، وردود أفعال الناس حوله، فنجد هذه العبارة: وازداد إيمانًا من آمن، وارتد بعض الناس عن الإسلام، فهل فعلًا هناك صحابة ارتدوا عن الإسلام بسبب حادثة الإسراء والمعراج؟
لم أجد ما يسعفني كثيرًا في كتب السيرة، ولكني وجدت في كتب السُنة بعض روايات حول الموضوع، بين مصحح لها ومضعّف، لم يكن تركيز الروايات على الحديث عن الردة، بل كانت تأتي في جملة عارضة، ويكون بقية الحديث عن تفاصيل الرحلة، وتفاصيل النقاش والحجاج بين رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ومشركي قريش.
وسوف نتناول غالب الروايات التي وردت في الموضوع، وننظر في سندها سريعًا، ثم نركز في متونها، وهل يصحّ مثل هذا الحدث أم لا؟
الردة تكون عن قناعة في موقف معين، أو لشخص ضعيف الإيمان، فكيف بأناس يرتدون بعد سنوات من إيمانهم، وقد ابتلوا ابتلاء شديدًا، أشد من ابتلاء الإسراء والمعراج، وبعد حصار شِعب أبي طالب، وبعد سلسلة من الابتلاءات الكبرى
روايتان حول الموضوع
هناك روايتان وردَتا في الموضوع، الأولى: عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: لما أُسري بالنبي- صلى الله عليه وآله وسلم- إلى المسجد الأقصى؛ أصبح يتحدث الناس بذلك، فارتد ناس ممن كانوا آمنوا به وصدقوه، وسعوا بذلك إلى أبي بكر -رضي الله عنه- فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به في الليل إلى بيت المقدس، قال: أو قال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: وتصدقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس وجاء قبل أن يصبح؟! قال: نعم، إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك: أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة. فلذلك سمي أبوبكر الصديق".
وهذه الرواية اختلف العلماء في تضعيفها وتصحيحها، فقد رواها الحاكم وصححها، ولكن ضعفها آخرون، منهم الشيخ الألباني، وغيره.
أما الرواية الثانية: فعن ابن عباس، قال: "أُسري بالنبي- صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، ثم جاء من ليلته، فحدثهم بمسيره، وبعلامة بيت المقدس، وبعيرهم، فقال ناس، قال حسن: نحن نصدق محمدًا بما يقول؟ فارتدوا كفارًا، فضرب الله أعناقهم مع أبي جهل، وقال أبو جهل: يخوفنا محمد بشجرة الزقوم، هاتوا تمرًا وزبدًا، فتزقّموا".
وهي في مسند أحمد، وأبي يعلى، وصحح إسنادها الشيوخ: أحمد شاكر، ومحمد ناصر الدين الألباني، ومحققو مسند أحمد بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، وهنا في هذه الرواية ترد كلمة: (فارتدوا كفارًا)، فهل معناها أنهم كانوا مؤمنين فكفروا، أو أنهم ازدادوا كفرًا على كفرهم بعد إثبات المعجزة؟
يقول الدكتور سعد بن عبدالله الحميد: إن هذا الحديث ليس فيه دلالة على أنهم كانوا مؤمنين، وإنما يدل على أنهم بعد أن رأوا الآية العجيبة؛ وهي أنهم تحدَّوا النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يثبت صدقه في أنه أسري به إلى بيت المقدس في ليلة ثم رجع، وبعد إثباته ذلك، قالوا: نحن لا نصدق محمدًا بما يقول، فبدلًا من الإيمان ارتدوا إلى كفرهم، فازدادوا كفرًا.
وهناك رواية أخرى لا تُذكر فيها مفردة الردة، بل وردت بصيغة تناسب الحدث وما دار فيه، وصيغتها: "فتجهز -أو كلمة نحوها- ناس من قريش إلى أبي بكر، فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة؟!"
وأقول عن هذه الرواية هي الأقرب للحالة؛ لأن الصيغة تدل على أنها وردت من أناس ليسوا مؤمنين بالأساس، فقولهم كما في كل الروايات: هل لك في صاحبك يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس، فكلمة: (صاحبك)، تقال من غير المؤمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- والصيغة منطقية هنا أن ترد بأنهم تجهّزوا بغية التشكيك والسخرية مما يحكيه محمّد، صلّى الله عليه وسلم.
هل شهد الرواة الحدث؟
رأينا الروايتَين اللتَين ورد فيهما ارتداد أناس عن الإسلام، وردتا عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- وعبدالله بن عباس- رضي الله عنه- وهما من صغار الصحابة سنًا، وقد كانا في مكة في هذا التوقيت في سنّ صغيرة، على حسب اختلاف الروايات في أعمار كل منهما، فهل كانا ممن شهدا الحدث فروياه، أم هي رواية تلقياها عن آخرين؟
فغالب الظن هنا أنهما رويا ذلك عن آخرين ذكروا لهما الأمر، أو مما تحدث به الناس عن الموضوع بالعموم.
رفض الشيخ الغزالي للرواية
من العلماء الذين عنوا بدراسة السيرة النبوية من المعاصرين: الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله- وقد مر مرورًا سريعًا على الحادثة، ورد على من أكدوها من الأدباء المعاصرين الذين كتبوا في السيرة، مثل الدكتور محمد حسين هيكل، في كتابه: (حياة محمد).
فقال الغزالي: (ويزعم بعض الكتّاب أنّ فريقًا من المسلمين ارتدّ عقب الإسراء والمعراج إنكارًا لهما، بل يزيد الدكتور هيكل أنّ المسلمين تضعضعوا على أثر انتشار القصة على الأفواه، واستبعاد المشركين لوقوعها، وهذا كلّه خطأ، فلا الآثار التاريخية تدلّ عليه، ولا الاستنتاج الحصيف ينتهي به، ولا ندري كيف يقال هذا؟!).
وإن علّق الألباني على الغزالي بذكر رواية مسند أحمد، بأن ذلك ثبت في هذه الرواية.
نقاش لمتن الروايات
بقيت نقاط في هذه الروايات، من حيث متنها، وما حول الروايات نفسها من نقاش موضوعي مهم، فنقول:
- أولًا: إن قضية ارتداد إنسان عن دينه، ليست مستحيلة، فقد حدثت قبل هذه الحادثة، وبعدها، ولكننا هنا في سياق التدقيق هل حدثت هنا أم لا؟ وهل كانت معجزة الإسراء سببًا لارتداد صحابة أم لا؟
فالمسألة من حيث المبدأ ليست مستحيلة، ولكن التدقيق في مدى حدوث ذلك في هذا التوقيت أم لا؟ فقضية ارتداد مسلم عن الإسلام، ليست مستحيلة، وليست نادرة، فقد حدثت قديمًا وحديثًا، وستحدث، بدليل وجود أحكام للمرتد والردة في كل كتب السنة وشروحها، وكتب الفقه بمذاهبها، وكتب العقيدة. كما أنها حدثت في عهد النبوة.
- ثانيًا: كيف يحدث ارتداد لعدد كما تذكر الروايات، فارتد ناس، وسواء كان من ارتدوا يعدون على أصابع اليد أم أكثر، فكيف يحدث حدث جلل كهذا، ولا يعرَف من هؤلاء الذين ارتدوا، وعدد الصحابة في مكة كانوا قلة، ومعروفين بالاسم فردًا فردًا.
ولو حدث لعُلِم من ارتد، كما رأينا في حادثة ارتداد زوج السيدة أم حبيبة بنت أبي سفيان في الحبشة، وكما ورد عن ارتداد عبدالله بن أبي السرح فيما بعد، وقد كنت قرأت كلامًا منذ فترة للشيخ محمد رشيد رضا يشكك في قضية ارتداد ابن أبي السرح.
- ثالثًا: الردة تكون عن قناعة في موقف معين، أو لشخص ضعيف الإيمان، فكيف بأناس يرتدون بعد سنوات من إيمانهم، وقد ابتلوا ابتلاء شديدًا، أشد من ابتلاء الإسراء والمعراج، وبعد حصار شِعب أبي طالب، وبعد سلسلة من الابتلاءات الكبرى، ومع أقوام امتحنوا ليصرفوا عن دينهم فلم يحدث أن غيّر أحدهم دينه، بل عندما تلفظ عمار بن ياسر -رضي الله عنه- بكلمة الكفر مجبرًا، نزل القرآن يحكم بإيمانه، وقد مرّت هذه الفئة طوال هذه الفترة بتشكيك في النبوة والوحي، لا يقل عن مسألة الإسراء والمعراج.
ثم إن كان هناك من ارتد لتشككه في إمكانية حدوث ذلك، فإنهم سألوه عن تفاصيل المسجد والمكان، والطريق، وهو ما ذكرته رواية ابن عباس، وفي روايات أخرى سألوه عن عِير لهم في الطريق، فوصفها لهم، فكيف بمن تشكك بعدما رأى نقاش المشركين له، وسؤالهم عن هذه التفاصيل وجوابه، وقد أجاب كما لديهم من معلومات، أنى له أن يكون ذلك سببًا لردته؟!
- رابعًا: لو كان هناك شخص واحد ارتد لحفل به مشركو قريش، إذ كان عدد المسلمين محدودًا ومعروفين بالاسم، فما بالنا والرواية تقول: ارتد ناس، وقد رأينا محاولات أبي جهل نفسه مع إخوة له، وأبناء عمومته، ومع آل ياسر: ياسر، وسمية زوجه، وعمار ابنه، كي يظفر منهم بكلمة تدل على أنهم على دينهم، وكيف فرح ومضى بعد أن قالها عمار مجبرًا، بينما قتل سمية وزوجها لرفضهما.
فلو كان هناك من ارتد لأجل هذا الحدث في مكة، وهم قلة، لعُرفوا بالاسم، ولكان رد فعل قريش مضخمًا للحدث، ومستفيدًا منه، وبانيًا عليه مع آخرين، وهو ما لم نرَ له أيَّ أثر فيما يروَى عن المرحلة المكّية، وعن موقف قريش من المسلمين.
سبب مرور هذه الرواية دون تدقيق
في تصوري أن سبب مرور هذه الجملة مرور الكرام، دون تدقيق فيها، أو مراجعة دقيقة لها، أن معظم المعاصرين الذين أرادوا الاستدلال على صحة وقوع الإسراء والمعراج، استنادهم لهذه الجملة من باب: أنه لو كان منامًا أو بالروح فقط، لما ناقش كفار قريش رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في ذلك، ولما ارتد من ارتد.
وانصرفت أذهان وعقول الباحثين في الموضوع لإثبات أمر يتعلق بالمعجزة، وغفلوا عن أمر آخر مهم تاريخيًا، وهو يتعلق بارتداد صحابة عن الإسلام بسبب المعجزة، وهو ما لا نجد دليلًا مقبولًا عليه، رغم ورود رواية فيها ما ذكرنا من ردود ومناقشات.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.