الشيخان الألباني والطحان وتخريج الحديث

الشيخ ناصر الدين الألباني
الشيخ ناصر الدين الألباني (مواقع التواصل)

توفي -منذ أيام- الشيخ الدكتور محمود الطحان -رحمه الله- الذي عرفه الكثيرون من طلبة العلم من خلال كتابيه "تيسير مصطلح الحديث" و"أصول التخريج ودراسة الأسانيد"، وهما كتابان مدرسيان (textbook) قُررا على الطلبة في عدد من الدول. وكان الشيخ قد أهدى نسخة من الطبعة الأولى من "أصول التخريج ودراسة الأسانيد" إلى الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -رحمه الله تعالى- وكتب له على الصفحة الأولى ما نصه: "هدية لفضيلة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني -سلمه الله تعالى- رجاء دعواته وملاحظاته"، وأرخها في 13 جمادى الأولى 1399هـ (1979). وهذه هي الطبعة الأولى التي طُبعت في المطبعة العربية بحلب سنة 1398هـ/1978.

ولكن بعض تلامذة الشيخ الألباني -رحمه الله- نشر في هذه المناسبة تعليقا كتبه الألباني إلى جانب إهداء الطحان، جاء فيه بخط الألباني: "كتب (الطحان) هذا بطلب من زهير الشاويش لما اجتمع به هناك في السعودية -كما حدثني- بعد نقاش جرى بينهما، فقدمه هدية على استحياء؛ فهو معروف بحقده عليّ. ودروسه في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة أكبر دليل على ذلك حيث كان لا يخلو درس من دروسه من الغمز واللمز والطعن فيّ، كما تواترت الأخبار عنه، ولذلك فُصل من الجامعة. وكتابه هذا أكبر دليل على ذلك؛ فإن فيه فصول (هكذا هي في الأصل، والصواب: فصولا) عديدة يشعر كل قارئ يعرف الألباني وإنتاجه العلمي -والحديثي خاصة- أن يُذكر فيها، بينما هو يذكر من ليس في العير ولا في النفير. فلم يذكر (السلسلة) الصحيحة و(السلسلة) الضعيفة وصحيح الجامع (الصغير) وضعيف الجامع (الصغير). وانظر ثناءه ص 145 على بعض المعلقين -على قلة تعليقهم- كأبي غدة ومحمد عبد الباقي دون الألباني.

ومن عجائب الدنيا أن الطحان هذا يعتبر من تلامذتي الذين كانوا يحضرون دروسي في حلب، وبها أمكنه الانتماء إلى الجامعة الإسلامية طالبًا، وأنا الذي زكيته لها فقبل حتى تخرج ثم صار مدرسا فيها، ثم جزاني جزاء سنمار. فلله في خلقه شؤون".

يريد ناشر هذا التعليق في هذا الزمان والسياق أن يُحيي -فيما يبدو- خصومة شخصية وأيديولوجية بين توجهين متغايرين؛ اعتقادًا وتحصيلاً وممارسةً علمية. فتعليق الألباني -رحمه الله تعالى- استُخدم هنا من أجل الطعن على الطحان -رحمه الله تعالى- بمناسبة وفاته.

فمنذ السبعينيات اشتعلت خصومات ومعارك أيديولوجية، ظهرت آثارها في ردود مفردة متبادلة (كتلك التي وقعت بين الشيخين الألباني وعبد الفتاح أبو غدة مثلاً)، وفي أثناء التعليق على بعض مصادر الحديث النبوي، أو في بعض كتب تخريج الحديث المعاصرة، ككتب الألباني التي تنطوي على إشارات عديدة إلى تلك الخصومات، سواءٌ في مقدمات بعضها أم في ثناياها، كما اشتملت على النقد والغمز -بل والسخرية أحيانًا- من الأقران والمشتغلين بعلم الحديث. بل إن هذا النقد الحادّ (تلقاه مخالفوه على أنه "طعن") شمل أيضًا بعض علماء الحديث وأئمته السابقين.

كانت هذه الخصومات تدور على أرضية اختلاف التوجه (الكلاميّ أو الفقهيّ)، والموقف من التقليدَين العلمي والفقهي معًا، وانضم إلى ذلك خلافات وحساسيات شخصية ظهرت من خلال الألفاظ والأساليب المستخدمة في التعبير عن تلك الخصومة بين فريقين: معسكر الأثريين من السلفيين المشتغلين بالحديث تخريجا ونقدا ونشرا لمصادره، ممن يبنون فقههم على الحديث فقط ووقعوا في شذوذات، بناء على حكمهم واختياراتهم التي قطعت مع التقليد (اللامذهبية)، ومعسكر التقليديين من المتمسكين بتقويمات أئمة الحديث السابقين والمتمذهبين بمذهب فقهي معين (كثيرٌ ممن خاصمهم الألباني هم من الحنفية وأبوه كان حنفيًّا).

هذا السياق التاريخي الذي يُراد استعادته اليوم، مهم لفهم وتقويم الواقعة التي افتتحنا بها هذا المقال، وقد ورث هذا الصراعَ جيل من أتباع المعسكرين ممن ظلوا يتصارعون على مسائل العلم والسلطة والاعتراف، فجوهر الحجة التي استخدمها الألباني للطعن في الطحان هنا يقوم على الإحساس بمرارة عدم الاعتراف به داخل التقليد العلمي المتبع في الجامعات، فالطحان كتب ذلك المقرر ابتداء لطلبة جامعة محمد بن سعود في الرياض، وهو يتناول موضوعًا من صميم اشتغال الألباني.

يبدو أن ما أزعج الألباني هو تجاهل الطحان له مع ذكره لبعض خصومه؛ ففي الصفحة 145 التي أشار إليها الألباني في تعليقه، نجد في كتاب الطحان الحديث عن كتب شروح الحديث وتعليقات المعلقين عليها (كشروح صحيح البخاري وشروح كتاب الجامع الصغير للسيوطي)، وهنا يذكر الطحان -في إشارة عابرة وليست ثناء كما أوهم الألباني- تعليقات بعض العلماء في هذا العصر "أثناء تحقيقاتهم لبعض الكتب المشتملة على أحاديث غير معروفة المخرج"، ومثل بأحمد شاكر ومحمود شاكر وعبد الفتاح أبو غدة وحبيب الرحمن الأعظمي ومحمد فؤاد عبد الباقي، ثم قال: "وغيرهم. جزى الله تعالى الكل أفضل الجزاء وأجزل مثوبتهم".

والطحان من تلامذة الشيخ أبو غدة الذي كان الألباني قد خاض معه صراعا اضطر أبو غدة للرد عليه وعلى "صاحبه سابقًا زهير الشاويش" -كما جاء في العنوان- في رسالة طُبعت في الرياض لأول مرة 1394هـ (1974)، أي قبل نحو أربع سنوات من نشر كتاب "أصول التخريج ودراسة الأسانيد"، كما أن الأعظمي كتب رسالة خاصة في بيان "شذوذ وأخطاء الألباني"، ورد على الأعظمي بعض تلامذة الألباني تحت إشرافه، وغير ذلك.

لم يهمل الطحان ذكر الألباني في الصفحة 145 فقط، فحين تعرض في الصفحة 217 إلى ما سماه "حاجتنا إلى البحث في أسانيد الأحاديث التي لم يَسبق الحكم عليها"، أمَل من بعض "الجامعات الإسلامية" أن تقوم بتلك المهمة، ولم يأت على ذكر الألباني وتلامذته ممن هم خارج الجامعات، وهذا الموضع الأخير أهم من الموضع الذي أشار إليه الألباني، ولكن يبدو أن ذكر تلك الأسماء مع إهمال ذكره هو ما أثار حساسيته. ويرجع هذا الإهمال إلى عدة اعتبارات في رأيي:

  • أولها: أن كتاب الطحان تعليمي هدف إلى سد حاجة الطلبة في هذا المجال، وشأن المقررات الدراسية أن تبتعد عن مثارات النزاع وتركز على التحصيل العلمي وتنمية مهارات الطلبة فقط، ولهذا اكتفى الطحان -فيما أرى- بمصنفات العلماء السابقين، ولم يخل بذلك في كتابه إلا حين ذكر نوعا سماه كتب "المفاتيح والفهارس"، وهي الفهارس الحديثة التي أعدها بعض المعاصرين لمصادر حديثية موسوعية يعسر استخراج الحديث منها قبل عصر الكمبيوتر والإنترنت، ككتب: حلية الأولياء وتاريخ بغداد وغيرهما، فذكر هنا الفهارس التي صنعها أحمد الغماري وعبد العزيز الغماري ومحمد فؤاد عبد الباقي، وهي أعمال تقنية الطابع ليس فيها عمل اجتهادي قد يثير جدلاً أو خلافًا بين المعسكرين المتنازعين حينها. فالغرض من كتابه هو تدريب الطلبة على طرائق "معرفة مواضع الأحاديث النبوية في دواوينها ومصادرها الأصلية"، أي فهم التقليد من مصادره الأصلية، وليس الاعتماد على مصادر ثانوية محل أخذ ورد، وتحاول أن تؤسس لمرجعيتها هي على حساب التقليد، كما هو شأن كتب الألباني. وهو قد التزم في كتابه بمناهج الأئمة السابقين وطرائقهم وشرحها وشرح مصنفاتها، ومن ثم عزف عن مناقشة تطبيقات تخريج الحديث لدى التيار الأثري السلفي الذي حول التخريج إلى مقصد في نفسه، فتضخم حتى طغى على الطبعات الحديثة من كتب التراث، حتى إنك لتجد تخريج أحاديث الكتاب يفوق حجم الكتاب نفسه فيخرج به عن مقصد مؤلفه، وكثيرا ما يقع التشويش على الكتاب الأصلي بتعليقات وتحكمات مذهبية! فالطحان كان له الفضل في أنه أول من كتب كتابًا في "أصول التخريج" فحوّل ما شأنه الممارسة والدُّربة إلى منهج نظري.
  • ثانيها: الطبع الحاد الذي اتسم به الشيخ الألباني الذي ظهر في كثير من كتبه وتسجيلاته من جهة، والإشكالات التي كان يثيرها بطريقته ومنهجه (أو "لا منهجه" كما وصفه الشيخ شعيب الأرناؤوط) من جهة أخرى. فالألباني جاء من خارج التقليد العلمي، وكان خارجًا عليه في الوقت نفسه، وتسبب في جعل تخريج الأحاديث النبوية من مصادرها الكثيرة ودراسة الأسانيد والحكم عليها ثقافة عامة سلكها كثير من الأثريين والمتشبهين به والمنتسبين إلى طريقته بحق وبغير حق؛ حتى إن الألباني نفسه كتب -مرة- يُنكر صنيع بعض المنتسبين إليه!
  • ثالثها: أن الطحان -كعامة علماء جيله ومَن قبلهم- يرفض المزاعم حول تضعيف بعض أحاديث الصحيحين أو أحدهما بالاستناد إلى "قواعد أصول الحديث وعلومه"، وقد أشار إلى هذا في كتابه "أصول التخريج"، في حين كان الألباني يفعل ذلك. ويرى الطحان أيضًا أن "الأحاديث التي صدَر الحكم عليها من إمام معتمد من أئمة الحديث (السابقين) ولم يكن معروفًا بالتساهل في حكمه، فإننا نستغني بدراسة الأئمة وحكمهم عليها، ولا نحتاج لدراستها والبحث في أسانيدها"، في حين أن الألباني كان يتصدى للحكم على أحاديث دواوين السنة الرئيسة -باجتهاد نفسه- حتى إنه قسم أحاديث كل كتاب من السنن الأربعة إلى صحيح وضعيف، الأمر الذي اعتبره الشيخ أبو غدة "تمزيقًا للسنن"، والمشكلة أنه وتلامذته أرادوا أن يُلزموا خصومهم باجتهادات الألباني التي هي -على أقل تقدير- معارضة لاجتهادات أئمة الحديث أصحاب الكتب نفسها.
  • رابعها: أن الطحان -كشأن عامة مشايخنا ممن تبعوا الإمام ابن الصلاح وغيره- يضيّق مساحة الحكم على الأحاديث لتقتصر على "المتمكن في هذا الفن" فقط، ممن نشأ وفق التقاليد العلمية واتصل بنَسَب علمي (كوّن الألباني نفسه بنفسه)، وهذا الحكم إنما يتناول حالات محدودة تتصل بما لم يُحكم عليه من الأئمة، أو ما حَكم عليه بعض الأئمة ولكنّ كلامهم فيه كان متعارضًا، أو ما لاح فيه ما يعارض حكم الأئمة السابقين؛ "إذا كان الحكم صادرًا عن إمام موصوف بالتساهل" في حكمه.

ولأن الهدف من نشر تعليق الألباني على إهداء الطحان هو إحياء طرف من تلك الخصومات، لم يلتفت من نشر التعليق إلى أنه تعليق "شخصي" كتبه الألباني لنفسه في سياق وزمان خاصين، ويحتاج إلى إذن في نشره، كما أن نشره لا يتناسب مع سياق الموت الذي هو موقف للعظة والعبرة يُذكّر بالآخرة، خصوصًا أن الخلاف المشار إليه شخصي ويسير.

ثم إن التعليق نفسه ربما يدين الشيخ الألباني -رحمه الله- أكثر مما يدين الطحان -رحمه الله- الذي بادر بالوصل وكتب الإهداء وفقًا لتقليد علمي متبع. والتحية تفرض الرد بأحسن منها أو ردّها على أقل تقدير، ولكن الألباني تجاوز هذه المبادرة في التلطف -وفيها طلبُ الدعاء والملاحظات- ورجّح عليها "قيل وقال" ودعاوى الحقد "الشخصي". بل ثمة احتمال أن الألباني ربما خلط بين محمود الطحان وأخيه عبد الرحيم الطحان، فعبد الرحيم هو الذي درس في الجامعة الإسلامية في السعودية، ولعله إنما كتب تزكية لعبد الرحيم، بينما درس محمود في جامعة دمشق وأكمل الدكتوراه في مصر، وسبق للألباني أن غمز في عبد الرحيم في سلسلته الصحيحة كما فعل ذلك في بعض تسجيلاته، وإن كان قد انتقد أيضًا عمل محمود في بعض تعليقاته.

بدا محمود الطحان صادقا في طلب الملحوظات من الألباني؛ لأنه سبق له أن عرض كتابه "أصول التخريج" على "عدد من خيار المتخصصين في الحديث"، فأبدوا له تعليقاتهم وأخذ منها بما وجده وجيهًا، وكتب في مقدمة طبعته الأولى الآتي: "أرجو من مشايخي وإخواني المشتغلين بالحديث وعلومه الذين لم يتيسر لي الاتصال بهم في هذا الموضوع، أن يتكرموا -جزاهم الله خيرًا- بإبداء ملاحظاتهم؛ إن وجدوا ما هو جدير بالتعديل والزيادة، ولا بد من وجود ذلك، لعلي أتداركه في طبعة قادمة إن شاء الله تعالى".

فالإهداء وطلب التعليق من الألباني يندرج ضمن مسلك عام أراده الطحان واتبع فيه تقليدًا علميًّا راسخًا بين العلماء، ومن ثم لا يتعارض مع إهمال ذكر الألباني في الكتاب الذي يحتمل احتمالات عدة ذكرت بعضها فيما سبق، وهو ما يوجب الحمل على حسن الظن ويدفع تهم الحقد الشخصي. ثم إن مثل تلك المبادرة لو قوبلت بمثلها لهدأت حدة كثير من الخصومات التي تحركها دوافع شخصية أو تحاول شخصنة النقاشات العلمية بدل أن تركز على مناقشة الأفكار وإثراء النقاش النقدي واستيعاب الاختلاف، وأنه اختلاف اجتهاد لا اختلاف حق وباطل، وهدى وضلال!

كان الشيخ الألباني -رحمه الله- صعب المزاج؛ حتى إن الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- ضاق به، كما أخبرني الشيخ شعيب الأرناؤوط -رحمه الله تعالى- بل إن بعض أصدقاء الألباني ومقربيه تحولوا إلى خصوم له، ومنهم زهير الشاويش الذي ورد ذكره في التعليق ونشر له كثيرًا من أعماله. ولكن الألباني -كما قال لي الشيخ شعيب الأرناؤوط- كان يرجع إذا روجع، وكان مشايخ دمشق يردونه فيرجع عن قوله حين يشذ، ولكن حين جاء إلى الأردن لم يجد أحدًا، بل وجد حوله بعض المتحمسين الذين عززوا في نفسه أنه متفرد وأنه علامة عصره، فتشدد وتغير نفَسه، بحسب كلام الشيخ الأرناؤوط.

وكان الشيخ شعيب الذي عمل مع الألباني مدة من الزمن، شديد النقد له ولطريقته في التخريج ودراسة الأسانيد فيما بعد، وحين زرته في عمان في أكتوبر/تشرين الأول 2010 تناول كتاب الألباني "سلسلة الأحاديث الصحيحة" وجلس يقرأ لي بعض تعليقاته النقدية على الكتاب التي كتبها بخطه، وكان بعضها شديد اللهجة، فجلس يُريني كيف أنه كان حادًّا وقليل الأدب في بعض الأحيان مع الشيخ الألباني، وأنه أبقى على مثل تلك التعليقات ليرجع إليها بين الحين والآخر؛ فيتأمل نفسه كيف كان وكيف صار.

يكشف هذا المثال عن جانب من شخصية الألباني، ولكنه -في الوقت نفسه- يكشف عن البعد الشخصي لتلك التعليقات التي يضعها بعض العلماء على بعض الكتب يكتبونها لأنفسهم، وقد يراجعون أنفسهم في مضمونها أو في لهجتها فيما بعد، ولهذا يتعين على المطلعين عليها أو قارئيها أن يراعوا مثل تلك الاعتبارات، وهذا التلقي النقدي للتعليق الخطي على الكتب يتنافى مع نوازع التلصص ورغبات الفضوليين في إحياء الخصومات التي ربما تسببت في إذكاء الإحن والخصومات بل وصرف المتعلمين عن الإفادة والاستفادة من عامة العلماء في عصرهم، أو التخندق في خندق أحد الطرفين وتبني معاركه وخصوماته، والله المستعان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.