المستوطنات في الضفة الغربية.. تجمعات إسرائيلية تقضم أراضي الفلسطينيين
بدأ الاستيطان في الضفة الغربية مع الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، حيث تم تعديل المنظومات القانونية، عبر اعتماد توليفة من الأوامر العسكرية غير القانونية، التي تشرّع مصادرة أراضي الفلسطينيين العامة والخاصة والاستيلاء عليها، بغرض استخدامها لبناء المستوطنات والخدمات الخاصة بها والأغراض الاستيطانية.
واعتمدت جميع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سياسة بناء المستوطنات وتوسيعها في الضفة الغربية، وتقديم الحوافز والتسهيلات لتشجيع هجرة الإسرائيليين إليها. وبعد أن كانت الضفة الغربية خالية تماما من المستوطنات عام 1967، بلغ عددها هناك مع بداية عام 2023 نحو 176 مستوطنة و186 بؤرة استيطانية، يسكنها 726 ألفا و427 مستوطنا.
وشكلت المستوطنات الإسرائيلية ما نسبته 42% من مساحة الضفة الغربية، وتمت السيطرة على 68% من مساحة المنطقة "ج" لمصلحة المستوطنات، وهي منطقة تضم 87% من موارد الضفة الغربية الطبيعية و90% من غاباتها و49% من طرقها.
ورسخت السياسات الاستيطانية مشروع تفتيت الضفة الغربية، وعزل المواطنين الفلسطينيين في مناطق محدودة المساحة مقطعة الأوصال، وعملت على تجزئة الأسواق والمجتمعات المحلية الفلسطينية، ومنعت من تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، إضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان الفلسطيني، وإلغاء أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية.
ما المستوطنات؟
المستوطنات في الضفة الغربية هي تجمّعات سكانية إسرائيلية أقيمت على الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل عام 1967، بدوافع أيديولوجية دينية وعنصرية.
والاستيطان نوع من الاستعمار، إذ هو عملية إسكان واسعة في أرض محتلة، وذلك بذريعة الإعمار وإرساء سيطرة الدولة المهيمنة على الأرض التي ضمتها، وأصبحت تعتبرها جزءا منها.
ولكنه يختلف عن الاستعمار في كونه يستند في تبريراته إلى مسوغات دينية وفكرية، وقد كانت فكرة "عودة الشعب إلى أرض الميعاد وبناء الهيكل" أحد مرتكزات الاستيطان في فلسطين.
وتعد المستوطنات في الضفة الغربية من وجهة نظر القانون الدولي غير شرعية، وانتهاكا لاتفاقية جنيف الرابعة، التي تحظر على القوة المحتلة نقل سكانها إلى المناطق الخاضعة للاحتلال.
تاريخ الاستيطان
بدأت عملية الاستيطان اليهودي في فلسطين منذ أواخر القرن الـ19، إبان الحكم العثماني، وقد تنبهت الدولة العثمانية لمخاطر الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإقامة مستوطنات فيها منذ بدايات الحركة الاستيطانية، وأصدر الباب العالي سنة 1855 قانونا يمنع الأجانب من تملك وشراء الأراضي في فلسطين.
وفي سنة 1869، أصدر الباب العالي قانونا آخر عرف باسم "نظام استملاك التابعية الأجنبية للأملاك"، وفي فبراير/شباط 1887، صدرت أوامر جديدة بشأن الهجرة اليهودية وُجِّهت إلى متصرفي القدس ويافا، تخبرهم بأنه سيسمح لليهود بدخول البلاد حجاجا أو زوارا فقط، وأن على كل يهودي يصل إلى يافا أن يدفع 50 ليرة تركية ويتعهد بمغادرة البلاد خلال 31 يوما.
ولكن تلك القوانين والتشريعات، لم تَحل دون استمرار الهجرة وتأسيس المستوطنات عبر الأساليب غير القانونية، معتمدة على شراء الأراضي من الإقطاعيين، واستغلال ترهل الجهاز الإداري العثماني، وتفشي الفساد في بعض أركانه، وتقديم الرشاوى للتغاضي عن عمليات الشراء.
واستخدمت الحركة الصهيونية كل السبل لإدخال اليهود إلى فلسطين، فقد دخل بعضهم تجارا ورجال أعمال، فيما استغل آخرون السماح لهم بزيارة الأماكن المقدسة للتسلل إلى فلسطين والبقاء فيها.
وتعود بداية الاستيطان اليهودي في فلسطين إلى اللورد موسى مونتفيوري، الذي نجح في الحصول على الموافقة العثمانية لشراء عدة قطع من الأراضي بالقرب من القدس ويافا، وبدأ البناء على مساحة من الأرض خارج أسوار القدس عام 1859 لتكون حيا لليهود سُمي باسمه، ثم تمكن من بناء سبعة أحياء أخرى حتى سنة 1892.
وعقب إقرار برنامج "بال" سنة 1897، تركزت الجهود الفلسطينية على الحيلولة دون تسرب أراض أخرى إلى الصهيونية، ومن أجل هذا ترأس مفتي القدس محمد طاهر الحسيني هيئة محلية ذات صلاحيات حكومية، مهمتها التدقيق في طلبات نقل الملكية في متصرفية القدس، الأمر الذي أسهم في الحيلولة دون حصول اليهود على أراض زراعية جديدة لسنوات عديدة.
ومع ذلك استمر عدد المستوطنين في التزايد طوال العهد العثماني، ففي عام 1882 كان عدد اليهود في فلسطين 24 ألف يهودي، وقفز في عام 1917 إلى أكثر من 85 ألف يهودي، وكذلك زادت أعداد المستوطَنات، ففي حين كان عددها عام 1884 خمس مستوطنات، صارت 47 مستوطنة عام 1914.
ومع وقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، بدأت حقبة جديدة في تاريخ الاستيطان فيها، إذ شكّل الانتداب الحاضنة الحقيقية لنمو الاستيطان وتكثيف الهجرة، وذلك من خلال التشريعات الخاصة بفتح أبواب الهجرة، وتسهيل انتقال الأراضي إلى الحركة الصهيونية، وصولا إلى حماية الاستيطان بقوة السلاح.
وسنَّت سلطات الانتداب في عام 1926 قانون نزع الملكية، الذي يبيح للسلطات البريطانية، نزع ملكية الأرض عن طريق فرز الأراضي المشاعة في القرى ومراجعة قيود الأملاك، وانتزاع ما لا تثبت ملكيته من الأراضي، وتسجيلها باسم حكومة الانتداب، ومن ثم التصرف فيها لإقامة المشاريع العامة.
وأعطت المادة 13 من الدستور الفلسطيني صلاحية مطلقة للمندوب السامي في أن يهب أو يؤجر تلك الأراضي، أو أي معدن أو منجم، وله أن يأذن بإشغال هذه الأراضي، واشترطت تلك المادة، أن يجري المندوب السامي كل هبة أو إيجار أو تصرف لهذه الأراضي، وفقا لمرسوم أو قانون.
وقد سهلت القوانين والامتيازات التي مُنحت لسلطة الانتداب تسرب الأراضي الفلسطينية إلى أيدي المستوطنين اليهود، وخلال هذه الفترة تضاعف عدد اليهود وبُنيت العديد من المستوطنات في أنحاء عدة من فلسطين، حيث بلغ عدد المستوطنات التي بنيت بين عامي 1918 و1949 نحو 169 مستوطنة.
وقد كان تركيز المستوطنات على الساحل الفلسطيني بشكل أساسي، ثم بنسبة أقل في مرج بن عامر والجليل الأعلى والأدنى والنقب، وهي المنطقة التي شكلت حدود دولة إسرائيل عام 1948، حيث شكّل التوسع الحيزي والعددي للاستيطان المستمر والمتصل جغرافيا أساس تقسيم فلسطين عام 1947 في أروقة الأمم المتحدة، التي أعطت لليهود 55% من أرض فلسطين وفق للقرار 181.
وكان الإسرائيليون قد لجؤوا إلى إقامة مستوطنات ضمن إستراتيجية "برج وجدار"، أي أن المستوطنات الجديدة لم تكن سوى جدار خشبي، وبرج أقاموا فيه حارسا أو أكثر، ولا شيء سوى ذلك، وكان ذلك ضمن الاستعداد لقرار تقسيم فلسطين، حيث إن لجان الأمم المتحدة راعت أن تكون أماكن وجود المستوطنات، ضمن أراضي دولة إسرائيل في مشروع التقسيم.
وبعد أن كان الحصول على الأراضي عن طريق الشراء بطريقة غير قانونية في الغالب أثناء الحكم العثماني، أو تسريبها عن طريق المنح أو البيع أو الإيجار من قبل الانتداب أثناء الحكم البريطاني، أصبحت القوة العسكرية بعد النكبة عام 1948 وقيام دولة إسرائيل أداةً رئيسة للاستيلاء على الأراضي وطرد أصحابها، ثم بناء المستوطنات، وبذلك فرضت إسرائيل سياسة الأمر الواقع.
تشريع الاستيلاء على الأراضي
لم يصل التوسع الاستيطاني إلى الضفة الغربية قبل حرب عام 1967، التي نجم عنها احتلال كامل للضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، ومن ثم بدأ تعديل المنظومات القانونية، عبر اعتماد توليفة من الأوامر العسكرية غير القانونية، التي تشرّع مصادرة الأراضي الفلسطينية العامة والخاصة في الضفة الغربية بذرائع مختلفة، لتكون مدخلا للتوسع الاستيطاني.
وقد تمت مصادرة الأراضي بذريعة كونها "مناطق عسكرية مغلقة" من خلال الأمر العسكري رقم 378، وذريعة "المحميات الطبيعية" وفقا للأمر العسكري رقم 363، وذريعة "الاستملاك للمصلحة العامة" بحسب الأمر العسكري رقم 321، والمصادرة تحت مسمى "أملاك دولة" عبر الأمر العسكري رقم 59، وتحت مسمى "أملاك الغائبين" وفقا للأمر العسكري رقم 58، و"مناطق تدريب عسكرية" بحسب الأمر العسكري رقم 271.
وعبر هذه الأوامر العسكرية تم الاستيلاء على أراضي وممتلكات الفلسطينيين التي هُجّروا منها ونزحوا عنها إلى مناطق أخرى نتيجة الاحتلال، وبموجبها تمت مصادرة أراض واسعة من الضفة الغربية لأغراض عسكرية للرماية والتدريبات وباعتبارها مناطق أمن للجيش.
كما جعل الاحتلال ملكية الأراضي التي كانت تديرها السلطات الأردنية، والأراضي المسجلة بأنها أراضي دولة منذ العهد العثماني في الضفة الغربية، تحت سلطة دولة الاحتلال للتصرف فيها.
وكانت مساحة هذه الأراضي في ذاك الوقت تقارب 527 ألف دونم، أي نحو 9% من إجمالي مساحة الضفة، ثم ارتفعت إلى نحو 700 ألف دونم، أي 12% من المساحة مع نهاية عام 1973، حيث أضافت سلطات الاحتلال أكثر من 160 ألف دونم إلى أراضي الدولة.
وأظهرت نتائج استطلاع مقارن أجراه مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان "بتسيلم" في منطقة رام الله فروقا هائلة بين نسبة المساحات التي صنّفتها حكومة الأردن مُلكا حكوميا في أراض مسجّلة في سند الملكية (الطابو) قبل الاحتلال، وبين نسبة المساحات التي صنّفتها إسرائيل أراضي دولة في مناطق لم يمهل الوقت الأردنيين لتسجيلها.
وعززت نتائج الاستطلاع الاستنتاج بأنّ جزءا كبيرا من المساحات التي صنّفتها إسرائيل أراضي دولة هي في الواقع ملك خاصّ لفلسطينيين، سلبته إسرائيل من أصحابه الشرعيين بواسطة مناورات قضائيّة منتهكة بذلك القانون المحلّي والقانون الدولي.
وفي عام 1968 جمدت إسرائيل عمليات تسجيل الأراضي للفلسطينيين، وضمت بين عامي 1979 و2002 (وفقا لتقديرات "بتسيلم") أكثر من 900 ألف دونم جديد (16%) من أراضي الضفة وحولتها إلى أراضي دولة، وهي زيادة بنسبة 170% على أراضي الدولة التي كانت في الضفة قبل الاحتلال.
وبحسب معطيات "بتسيلم" لعام 2017، يوجد في مناطق "ج" نحو 1.2 مليون دونم مصنّفا "أراضي دولة"، وهو ما يشكّل 36.5% من مناطق "ج" و22% من مجمل أراضي الضفة الغربية، إضافة إلى نحو 200 ألف دونم مصنّفة "أراضي دولة" تقع ضمن مناطق "أ" و"ب" التابعة للسلطة الفلسطينية.
وتبلغ مساحة الأراضي الواقعة تحت سيطرة المستوطنات مباشرة، وفقا للمعطيات نفسها، نحو 40% من مجمل مساحة الضفة الغربية وتشكّل 63% من مساحة مناطق "ج".
ومن خلال دراسة تحليلية قام بها معهد الأبحاث التطبيقية "أريج" لواقع المستوطنات، تبين أن 51% منها تم بناؤها على أراض صنفتها إسرائيل أراضي دولة، و49% منها بُنيت على أراض فلسطينية ذات ملكية خاصة.
وتبلغ مساحة المستعمرات الإسرائيلية في محافظة القدس مثلا 40868 دونما، 73% منها مقامة على أراض ذات ملكية خاصة، بما فيها الأراضي التي ضمّتها إسرائيل بشكل غير شرعي، إلى ما يسمى حدود بلدية القدس.
مراحل الاستيطان في الضفة الغربية
منذ الاحتلال باشرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وتشييد المستوطنات، واتبعت سياسة منهجية مشجعة لهجرة المواطنين الإسرائيليين إلى الضفة الغربية، عبر منح مكافآت ومحفزات اقتصادية مباشرة للمواطنين، أو للسلطات المحلية اليهودية، من أجل رفع مستوى حياة المواطنين لتشجيع الهجرة إلى تلك المستوطنات.
وقد اعتمدت عمليات الاستيطان عبر مراحل متباينة على طبيعة حكومة الاحتلال القائمة ومكوناتها، وعلى طبيعة رؤيتها لمستقبل العلاقات مع الفلسطينيين، ومع ذلك فقد بقيت سياسة تسمين المستوطنات وتوسيعها، سياسة ثابتة لكل الحكومات.
وتشكّل المستوطنات الإسرائيلية ما نسبته 42% من مساحة الضفة الغربية، حيث تمت السيطرة على 68% من مساحة المنطقة "ج" لمصلحة المستوطنات، وهي المنطقة التي تضم 87% من موارد الضفة الطبيعية و90% من غاباتها و49% من طرقها، ويُسمح للفلسطينيين باستخدام أقل من 1% من تلك المنطقة.
وقد مر الاستيطان في الضفة الغربية بخمس مراحل رئيسية:
- المرحلة الأولى (1967-1977): الاستيطان في القدس والأغوار
بدأت هذه المرحلة منذ الاحتلال واستمرت 10 سنوات، في الفترة التي كان حزب العمل الإسرائيلي "المعراخ" يتولى فيها قيادة ائتلاف حكومة الاحتلال، وقد عكست المرحلة رؤية حزب العمل الإسرائيلي، والتغيرات التي طرأت عليها، واتسمت بالحذر نظرا لرغبة الحكومة في الاحتفاظ بالسيطرة على الضفة والقدس سياسيا وأمنيا.
وقد وضع حزب العمل في تلك المرحلة حجر الأساس للمشروع الاستيطاني بالضفة الغربية المُسمى "مشروع آلون"، واستُعين بالجيش الإسرائيلي لتطبيق المشروع من خلال وحدة ناحل "شبيبة الطليعة المقاتلة"، وبنيت العديد من المواقع الاستيطانية التي سميت باسم "ناحل"، وانتشرت على طول خط الهدنة بالضفة ومنطقة الأغوار.
وركز المشروع على الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية تحت ما يسمى "الأغراض العسكرية والأمنية"، وكان هدفه الرئيسي توطين اليهود بالضفة لأغراض زراعية، ومصادرة المياه الجوفية الفلسطينية، من خلال الاستيلاء على الأرض عبر الاستيطان على طول غور الأردن، وحتى جنوب "صحراء الخليل"، بطول 115 كيلومترا وعرض 20 كيلومترا.
كما ركز الاحتلال خلال هذه المرحلة على تعزيز السيطرة على مدينة القدس، حيث جُرف حي المغاربة الملاصق لحائط البراق وطُرد سكانه، وأعيد بناء الحي اليهودي في البلدة القديمة، في خطوة لتكريس الاحتلال في الجزء الشرقي من المدينة.
وخلال 10 سنوات من احتلال الضفة الغربية، تم تأسيس المستعمرات فيها بصورة انتقائية، ضمن سياسة استعمار تعتمد على الكيف لا على الكم، وبعد أن كانت الضفة الغربية خالية تماما من المستوطنات، بلغ عددها في هذه المرحلة 34 مستوطنة، 12 منها في مدينة القدس، وكانت أول مستوطنة هي "كفار عتصيون"، التي بنيت عام 1967 في الخليل، ثم بنيت "كريات أربع" جنوبي بيت لحم في العام الذي يليه.
- المرحلة الثانية (1977-1990): السيطرة على جبال الضفة الغربية
بدأت هذه المرحلة مع انتقال الحكم في دولة الاحتلال إلى الائتلاف اليميني بزعامة حزب الليكود، وقد بدأت العمليات الاستيطانية في هذه المرحلة تُنَفذ ضمن إستراتيجية مختلفة تماما، فبعد أن كانت المستوطنات في الضفة الغربية تقام تحت الدوافع والاعتبارات الأمنية خلال المرحلة الأولى، اختلطت تلك الدوافع بأسباب تاريخية وعقائدية ودينية.
واستهدف الاستيطان في هذه المرحلة السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض في الضفة الغربية، مع الهيمنة على المواقع الجبلية الإستراتيجية، كما سعى إلى إيجاد عمق جغرافي وبشري إستراتيجي لدولة الاحتلال في الضفة الغربية.
وتحقيقا لهذه الأهداف، قامت العمليات الاستيطانية على خطين متوازيين، الأول: إقامة عدد من الكتل الاستيطانية في قلب المناطق الفلسطينية الآهلة، لعزلها ومحاصرتها. والثاني: إقامة عدد كبير من المستوطنات الصغيرة والمتناثرة على أكبر مساحة ممكنة من الأرض، لاسيما في المناطق الجبلية الإستراتيجية.
وفي هذه الفترة أُنشئ معظم المستوطنات القائمة في الضفة الغربية، وكان أكثرها بمبادرة من حزب الليكود اليميني وحركة "غوش إمونيم" الصهيونية الدينية المتطرفة، التي تُعد رأس عمليات الاستيطان في الضفة الغربية، كما ساهمت في تغلغل الفكر الصهيوني الاستعماري الاستيطاني في العقلية الإسرائيلية، ونشرت ثقافة عدم التفريط فيما يسمى "أرض إسرائيل الكبرى".
وقد قدمت مشروعا استعماريا يهدف إلى إقامة أكبر عدد من المستوطنات والكتل الاستيطانية والبؤر الاستيطانية في مناطق سكنية مأهولة ومتفرقة على أكبر مساحة ممكنة، وتكمن خطورة مشروعها في فعاليته الكبيرة في مجال التنفيذ وبناء المستوطنات.
وركزت الحركة في مشروعها الاستيطاني على الطرق ومسطحات الأراضي الممتدة من نابلس إلى الخليل عبر القدس، وطرق ترتبط بغور الأردن، وكانت أولى المستوطنات التي بنتها في منطقتي نابلس ورام الله، حيث أسست عام 1977 ثلاث مستوطنات هي "عوفرا"، و"كيدوميم" و"معاليه أدوميم".
وكذلك تم تَبَنِّي مشروع "فوخمان" أو ما يعرف بـ"العمود الفقري المزدوج" من قبل حزب الليكود بعد تعديله، وأُسندت مهمة تنفيذه إلى أرييل شارون، الذي كان وزيرا للزراعة آنذاك.
ويقوم المشروع على بناء عمودين فقريين من المستوطنات، يمتد أولهما على طول السهل الساحلي، ويمتد الثاني من مرتفعات الجولان في الشمال حتى شرم الشيخ في الجنوب.
وسعى مشروع الليكود لتكثيف الاستيطان في السفوح والمرتفعات الشرقية والغربية من الضفة الغربية، كما رأى شارون في الكتلة الفلسطينية الكثيفة والمترابطة خطرا يهدد التوسع الاستيطاني، فأقام المستوطنات بين التجمعات السكانية الرئيسة، على امتداد مرتفعات الضفة الغربية، وكثّف الاستيطان اليهودي في منطقة القدس وجنوب الخليل.
وتركّزت المستوطنات كذلك على المناطق المتاخمة للخط الأخضر، الفاصل بين الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، من أجل إزالة هذا الخط؛ لأنه لا يمثل حدود دولة الاحتلال، وفقا للرؤى الفكرية التي يحملها التيار اليميني الصهيوني.
وتميّزت المستوطنات التي أنشئت في هذه المرحلة بأنها ذات طابع مجتمعي حضري، يسكنها مستوطنون بأيديولوجيات مختلفة وبدوافع متعددة، ويعمل معظمهم في مدن الاحتلال في المناطق المحتلة عام 1948، ولم تكن كالمستوطنات التي أقيمت في المرحلة الاستيطانية الأولى التي كان معظمها مستوطنات ريفية على نمط الـ"موشافات" أو الـ"كيبوتسات"، التي يسكنها جنود سابقون يعملون في الزراعة.
وقد جرى توزيع المستوطنات على هيئة تكتلات استيطانية مترابطة، مع الاهتمام بإقامة وسائل إنتاج وخدمات ومراكز صناعية تعليمية، وذلك لربط المستوطن بمكان إقامته، وتشكيل كتل من المستوطنات تؤدي في النهاية إلى الاندماج، وتشكيل مدن استيطانية.
وفي هذه المرحلة تسارعت عمليات الاستيطان وتوسعت، وشكلت أضخم موجة في تاريخ المستوطنات في الضفة الغربية، حيث أصبحت المستوطنات مدنا كبيرة، ووفقا لتقديرات مركز الإحصاء الفلسطيني فقد وصل عدد المستوطنات عام 1990 في الضفة الغربية إلى 140 مستوطنة، وبلغ عدد المستوطنين 221 ألفا و348 مستوطنا.
- المرحلة الثالثة (1990-1996): تسمين المستوطنات
تميزت هذه المرحلة بانطلاق مفاوضات التسوية بين الفلسطينيين ودولة الاحتلال، التي تضمنت مؤتمر مدريد عام 1991، واتفاق أوسلو عام 1993، وهذه الفترة شهدت تدفق اليهود الروس إلى إسرائيل، وزادت وتيرة الاستيطان بخطوات نوعية.
وقد بدا في هذه المرحلة تراجع نسبي في عدد المستوطنات المقامة، ولكن ذلك لا يعني أن الاستيطان تراجع، بل لجأت سلطات الاحتلال خلال هذه الفترة إلى سياسة تسمين المستوطنات القائمة، سواء بزيادة أعداد المستوطنين، أو زيادة رقعة البناء في المستوطنات وإنشاء أحياء استيطانية جديدة فيها، والعمل على شق طرق التفافية خاصة بالمستوطنين.
وربما كانت الضغوط الدولية الرامية إلى إنجاح مساعي المفاوضات السبب في تراجع وتيرة إنشاء مستوطنات جديدة، فضلا عن عدم استقرار الحكومة، وانتقالها من حزب العمل إلى الليكود عقب مقتل إسحاق رابين بيد أحد اليهود المتشددين عام 1995.
ولم تستطع الاتفاقيات أن تقف أمام سياسات الاستيطان، فبالرغم من عدم بناء أي مستوطنات في أعوام مثل: 1992 و1993 و1995، فقد وصل عدد المستوطنين بالضفة الغربية عام 1995 إلى 296 ألفا و959 مستوطنا وفقا للتقديرات الفلسطينية الرسمية.
- المرحلة الرابعة (1996-2017): البؤر الاستيطانية والتوسع
عقب توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993 مباشرة، وضع موشيه فيغلين، عضو اللجنة المركزية في حزب "الليكود"، مخططا سريا بالتعاون مع مجلس المستوطنات "يشع"، سماه "العملية المضاعفة"، ويهدف المخطط إلى إقامة 130 مستوطنة جديدة في المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1967.
ويقوم المخطط على إستراتيجية تكوين مجموعات استيطانية صغيرة في المواقع المستهدفة، لتتحول لاحقا إلى مستوطنات، بهدف منع أي انسحاب للاحتلال من أراضي الضفة الغربية، وقد خضعت هذه الخطة للتأجيل، وتعثرت عدة مرات، ثم بدأ تنفيذها عام 1996.
وقد اصطُلح إسرائيليا على تسمية هذا الشكل من الاستيطان "البؤر الاستيطانية غير الشرعية"، وهي تسمية تسعى للتقليل من أهمية وحجم هذا النوع الاستيطاني، الذي يعد من أضخم موجات الاستيطان في الضفة الغربية.
وتعمل البؤر الاستيطانية على إيجاد تواصل جغرافي بين المستوطنات المتباعدة، أو بين الكتل الاستيطانية، كما تسعى إلى استكمال السيطرة على القمم والمرتفعات الإستراتيجية في الضفة الغربية، وتساعد على إقرار وترسيخ سلسلة من التغييرات الجذرية، التي تخدم المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية جغرافيا وديمغرافيا.
وفقا لذلك، أقام المستوطنون عشرات البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية بين عامي 1996 و1999، وقد صدر قرار حكومي بإزالة بعض هذه البؤر في عهد الحكومة التي ترأسها إيهود باراك بين عامي 1999 و2001، ولكنها لم تُزَل عمليا، بل تم تحويلها إلى مواقع عسكرية، أو أعيدت مرة أخرى إلى المستوطنين.
وفي هذه المرحلة بدأت تظهر ملامح فشل عملية التسوية، واندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، واقتنع قادة دولة الاحتلال بأن الفرصة أصبحت مهيأة للسيطرة على أكبر قدر من مساحة الضفة الغربية، وحَشْر الفلسطينيين في كانتونات معزولة مقطعة على أضيق مساحة ممكنة من أراضي الضفة.
ومع تولي أرييل شارون قيادة حكومة الاحتلال عام 2001 استطاع المستوطنون إقامة عشرات البؤر الاستيطانية الجديدة، بحماية الحكومة مع تغطية كاملة لكل المتطلبات الأمنية واللوجستية، واستمر الحال في عهد خليفته إيهود أولمرت بين عامي 2006 و2009.
وعندما تسلّم نتنياهو رئاسة الحكومة عام 2009، بدأ عملية "تشريع قانوني" لهذه البؤر، أي تحويلها إلى مستوطنات رسمية، تحظى بالرعاية الرسمية من قبل دولة الاحتلال.
وقد بلغ انتشار البؤر الاستيطانية ذروته في الفترة الممتدة بين عامي 1998 و2007، إذ أقام المستوطنون ما يقارب 50% من البؤر الاستيطانية، وهي الفترة التي كان يتقلد فيها شارون مناصب رفيعة في الحكومة الإسرائيلية، في حين لم يتم بناء مستوطنات جديدة بين عامي 2000 و2012، واضطرت إسرائيل إلى الانسحاب من قطاع غزة سنة 2005، ودَمّرت 21 مستوطنة وأَجْلت 8500 مستوطن منها.
وقد انتشرت هذه البؤر في كافة محافظات الضفة الغربية دون استثناء، وكان العدد الأكبر منها في محافظات رام الله والبيرة ونابلس والخليل، وبلغت نسبة انتشارها على أراضيها مجتمعة حوالي 64% من البؤر الاستيطانية المتفشية في الضفة الغربية.
وفي عام 2017 أقرّ الكنيست الإسرائيلي "قانون التسوية"، الذي يتيح الحق في استعمال أراضي الملك الخاص الفلسطينية، التي بُنيت عليها مستوطنات وبؤر استيطانية، وتم بموجبه تشريع 4 آلاف وحدة سكنية في 55 بؤرة استيطانية مبنية على أراض فلسطينية خاصة.
وكانت سلطات الاحتلال قد حولت كل البؤر الاستيطانية "رحاليم" عام 2013 إلى مستوطنة، وفي عام 2018 حولت البؤر الاستيطانية "عميحاي" إلى مستعمرة، كما شرّعت 15 بؤرة استيطانية بأثر رجعي عام 2019، ووضعت خططا بأثر رجعي للسماح لأربع بؤر استيطانية بأن تصبح أحياء لمستوطنات قائمة عام 2020.
واتسعت وتصاعدت هجمة الأذرع الاستيطانية، واستمر الاحتلال في التغاضي عن إنشاء بؤر استيطانية جديدة وتشجيعه، حتى وصل عدد البؤر الاستيطانية بحسب المؤشرات الرسمية الفلسطينية عام 2021 إلى 163 بؤرة استيطانية، إضافة إلى 25 بؤرة مأهولة تم اعتبارها أحياء تابعة لمستوطنات قائمة، كما أنشأ الاحتلال مناطق صناعية وسياحية وخدماتية ومعسكرات لجيش الاحتلال بلغ عددها 144 موقعا.
بناء الجدار الفاصل
شهدت هذه المرحلة بناء الجدار الفاصل عام 2002 بذريعة حماية المستوطنات، واستطاع الجدار قضم 4.1% من مساحة الضفة الغربية، وأن يعزلها خلفه.
وتهدف هذه العملية الاستيطانية إلى إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والديمغرافي، وتتمثل خطورتها في فصل مساحات شاسعة من أراضي الضفة الغربية تبلغ ما يعادل 41.8% من مساحة الضفة الغربية عن امتدادها الطبيعي واتصالها بالمناطق الفلسطينية الأخرى.
وفي هذه المساحات تتركز معظم المستوطنات والبؤر الاستيطانية، كما تضم حوالي 88% من مجموع المستوطنين في الضفة الغربية والقدس، في حين أن الكثافة السكانية الفلسطينية فيها محدودة، وتتعرض للتضييق والتهميش والحصار لإنهاء وجودها.
وتحولت مناطق "أ" و"ب" الخاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، إلى كانتونات منفصلة، معزول بعضها عن بعض بالكتل الاستيطانية الكبرى وبالشوارع الالتفافية وبعض أجزاء الجدار الفاصل.
وقد سار بناء الجدار وإقامة المناطق المعزولة في خط متواز مع تصعيد البناء الاستيطاني وتسمين المستوطنات، وإقامة بؤر استيطانية جديدة، والسعي لإقرار تشريعات قوانين لضم المناطق القليلة الكثافة السكانية في الضفة الغربية (مناطق ج أساسا)، كما تصاعدت حملات هدم المنازل وتشريد المواطنين الفلسطينيين في المناطق المستهدفة بالضم.
ورسخت السياسات الاستيطانية في هذه المرحلة مشروع تفتيت الضفة الغربية، وعزل المواطنين الفلسطينيين في مناطق محدودة المساحة ومقطعة الأوصال، وإلغاء أي إمكانية لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية، إضافة إلى أن السيطرة المطلقة للاحتلال ستكون في قلب الضفة، وعلى حدودها من جميع الجهات.
- المرحلة الخامسة (2017-2023) الوحدات الاستيطانية
شهدت الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية منذ عام 2017 ارتفاعا ملحوظا في عدد الوحدات الاستيطانية، وفي 11 يناير/كانون الثاني 2018، أعلنت السلطات الإسرائيلية موافقتها على بناء أكثر من 1100 وحدة استيطانية جديدة، واستمر الارتفاع عام 2019.
وقد شهد عام 2020 زيادة بنسبة 40% مقارنة بالعام السابق له، وفقا لتقرير مكتب ممثلية الاتحاد الأوروبي التابع للأونروا لعام 2021، وتضاعفت الوحدات الاستيطانية في القدس الشرقية عام 2021 مقارنة بالعام السابق له، من 6 آلاف و288 وحدة سكنية إلى 14 ألفا و894 وحدة سكنية.
وقد شمل التوسع الاستيطاني، وفقا لما ورد في التقرير، تطوير مشاريع البنية التحتية والطرق، إضافة إلى إنشاء ما يسمى المزارع الاستيطانية الجديدة غير القانونية، كما صاحب تزايد خطط التوسع الاستيطاني تصاعد عنف المستوطنين في الأرض الفلسطينية المحتلة.
وبمجرد نيلها ثقة البرلمان في ديسمبر/كانون الأول 2022 وضعت الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة، وأعلن نتنياهو أن حكومته ستعمل على تعزيز الاستيطان بالضفة الغربية، ومنذ ذلك الحين، تزايدت وتيرة اعتداءات المستوطنين في الأراضي الفلسطينية وباتت تتصدر المشهد.
وعلى الرغم من تعهد إسرائيل مرتين على الأقل بتجميد الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، فإن الواقع أشار إلى تسجيل "ارتفاع قياسي" في التوسع الاستيطاني.
ورصد تقرير أنجزته "هيئة مقاومة الجدار والاستيطان" التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية النشاط الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس المحتلة خلال عام 2022، وخلص إلى أن الاستيطان فيه زاد بنسب غير مسبوقة منذ احتلال الضفة الغربية والقدس عام 1967.
وبحسب معطيات الهيئة بلغ عدد المستوطنين في مستوطنات الضفة -بما فيها القدس- 726 ألفا و427 مستوطنا موزعين على 176 مستوطنة، و186 بؤرة استيطانية (غير مرخصة) 86 منها بؤر رعوية زراعية حتى بداية 2023.
وأشار التقرير إلى إقامة 12 بؤرة استيطانية في محافظات الضفة الغربية عام 2022، وتشريع بؤرتين استيطانيتين فيها، الأولى "متسبيه داني" على أراضي بلدة دير دبوان، والثانية "متسبيه كراميم" على أراضي دير جرير شرقي رام الله.
وخلال عام 2022 صادقت حكومة الاحتلال على 83 مخططا لبناء 8288 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، و2635 وحدة بالقدس المحتلة، وصادرت سلطات الاحتلال قرابة 26.5 كيلومترا مربعا تحت مسميات مختلفة مثل إعلان محميات طبيعية، وأوامر استملاك ووضع يد، واعتبارها "أراضي دولة".
وفقا لحركة "السلام الآن" اليسارية الإسرائيلية الرافضة للاستيطان فإن الضفة الغربية منذ تسلم حكومة نتنياهو مهامها نهاية عام 2022 تشهد أكبر عملية استيطان منذ عام 2012، إذ دفعت حكومة نتنياهو مخططات لإقامة 12 ألفا و885 وحدة استيطانية.
وأشارت معطيات الحركة إلى أن الحكومة الإسرائيلية نشرت أيضا مناقصات لبناء 1289 وحدة استيطانية، وهو ما يرفع إجمالي عدد الوحدات إلى أكثر من 14 ألفا، وأكبر هذه المخططات كان في مستوطنة "معاليه أدوميم" شرق مدينة القدس، حيث أُقرّت 1475 وحدة استيطانية، ومستوطنة "عيلي" شمال شرق رام الله، التي أُقرّت فيها 1081 وحدة استيطانية.
تضاف إلى ذلك مستوطنة "كوخاف يعقوب" وسط الضفة الغربية، حيث أُقرّت 627 وحدة استيطانية، و"جفعات زئيف" شمال غرب القدس، التي أُقرّت فيها 559 وحدة استيطانية.
كما أُقرّ بناء 350 وحدة استيطانية في مستوطنة "ألكناه" القريبة من نابلس، و374 وحدة في مستوطنة "كريات أربع" في الخليل جنوبي الضفة، و380 وحدة في مستوطنة "كيدوميم" شمالي الضفة، إضافة إلى توسعات في العديد من المستوطنات الأخرى.
وفي 20 مارس/آذار 2023 سن الكنيست قانون تطبيق خطة فك الارتباط، الذي يزيل التقييدات على دخول واستيطان المواطنين الإسرائيليين في المناطق التي تم إخلاؤها ضمن خطة فك الارتباط عام 2005، بما يسمح عمليا برجوع المستوطنين وإعادة بناء 4 مستوطنات في المناطق التي تم إخلاؤها في شمال الضفة الغربية.
وقد تسبب الاستيطان المتواصل في تقليص مساحة فلسطين التاريخية، فلم يبق للفلسطينيين سوى نحو 15% فقط من مساحة فلسطين التاريخية المقدرة بنحو 27 ألف كيلومتر مربع، حيث تستغل إسرائيل أكثر من 85% من المساحة الفعلية.
التصنيفات
تعتبر المستوطنات الحضرية أكثر المستوطنات شعبية في الضفة الغربية، وتشير البيانات بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني إلى أن عددها نهاية عام 2021 وصل إلى 67 مستوطنة، 22 منها في محافظة القدس، ويمثل سكان هذا النوع من المستوطنات نحو 91.4% من عدد المستوطنين الكلي في الضفة الغربية.
أما المستوطنات الريفية، بحسب نفس البيانات، فقد بلغ عددها في العام نفسه 85 مستوطنة، معظمها تُصنف مستوطنات جماعية، بواقع 38 مستوطنة، يسكنها 39 ألفا و259 مستوطنا، وتليها "موشاف"، بواقع 17 مستوطنة، يقطنها 6 آلاف و522 مستوطنا، إضافة إلى 8 مستوطنات "موشاف جماعي" يسكنها 4492 مستوطنا، و9 كيبوتسات يسكنها 4554 مستوطنا.
المجالس الإقليمية وتوزيع المستوطنات
بلغ العدد الإجمالي للمستوطنين، وفقا للمؤشرات الرسمية الفلسطينية، نهاية عام 2021 في الضفة الغربية 719 ألفا و452 مستوطنا، بنسبة وصلت إلى 22.8% من العدد الإجمالي للسكان في الضفة الغربية. ويعيشون هؤلاء المستوطنون في 151 مستوطنة موزعة على 6 مجالس إقليمية، على النحو الآتي:
- شمرون: بلغ عدد المستوطنات التي تتبع هذا المجلس 35 مستوطنة، تتوزع في مدن الضفة الغربية على النحو التالي: 5 مستوطنات في جنين و3 في طولكرم و6 في نابلس و7 في قلقيلية و13 في سلفيت وواحدة في رام الله، ويبلغ مجموع سكان المجلس 113 ألفا و814 مستوطنا.
- آرفوت هياردين (وادي الأردن): بلغ عدد المستوطنات التي تتبع هذا المجلس 19 مستوطنة موزعة على ثلاث مناطق: 5 مستوطنات في طوباس والأغوار الشمالية واثنتان في نابلس، و12 في أريحا والأغوار، ومجموع سكانها 6 آلاف و620 مستوطنا.
- ماتي بنيامين: بلغ عدد المستوطنات التي تتبع هذا المجلس 32 مستوطنة موزعة على 4 محافظات كالآتي: 4 مستوطنات في نابلس و19 في رام الله والبيرة وواحدة في أريحا والأغوار و8 في القدس، ويبلغ عدد السكان الكلي للمجلس 219 ألفا و920 مستوطنا.
- مجليوت: بلغ عدد المستوطنات التي تتبع هذا المجلس 5 مستوطنات موزعة على المناطق التالية: 3 مستوطنات في أريحا والأغوار وواحدة في القدس وواحدة في بيت لحم، ومجموع سكانها 1798 مستوطنا.
- غوش عتصيون: بلغ عدد المستوطنات التي تتبع هذا المجلس 16 مستوطنة موزعة كالآتي: مستوطنة في القدس و11 في بيت لحم و4 في الخليل، وعدد سكان المجلس 100 ألف و715 مستوطنا.
- هار هيفرون (جبل الخليل): بلغ عدد المستوطنات التي تتبع هذا المجلس 15 مستوطنة، وتقع جميعها في محافظة الخليل، ويبلغ عدد سكانها 17 ألفا و577 مستوطنا.
وحازت محافظتا القدس ورام الله بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني، على النصيب الأعظم من المستوطنات، بواقع 26 مستوطنة لكل منهما، وتلتهما محافظة الخليل، التي تضم 20 مستوطنة، ثم محافظة أريحا والأغوار بـ17 مستوطنة، في حين ضمت كل من محافظات نابلس وسلفيت وبيت لحم 13 مستوطنة.
وكان أدنى وجود للمستوطنات في محافظة طولكرم بواقع 3 مستوطنات، وقريبا منها محافظة جنين التي تضم 5 مستوطنات، وتضم محافظة طوباس والأغوار الشمالية 7 مستوطنات، ومحافظة قلقيلية 8.
ويتركز أعلى وجود للمستوطنين في القدس، حيث وصل عددهم إلى 326 ألفا و523 مستوطنا ثم في رام الله والبيرة، إذ يبلغ عددهم هناك 143 ألفا و311 مستوطنا، ثم بيت لحم بحوالي 95 ألفا و279 مستوطنا.
وقد سُجّل أقل وجود للمستوطنين في طوباس والأغوار الشمالية بنحو 2629 مستوطنا، وقريب منه في جنين بواقع 3722 مستوطنا، وفي طولكرم بحوالي 4632 مستوطنا.
آثار مدمرة
أدى وجود المستوطنات في الضفة الغربية والسياسات الإسرائيلية المتبعة لتطويرها وتوفير الأمن لها، إلى القضاء على فرصة قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وقابلة للحياة، وتسبب ذلك في آثار مدمرة للوجود الفلسطيني والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، إضافة إلى انتهاك حقوق الإنسان.
وقد سيطر الاحتلال على أهم الموارد الاقتصادية الفلسطينية في الضفة الغربية، من مياه ونفط وغاز طبيعي ومن موارد البحر الميت، وأصبحت كلها خاضعة لهيمنة الاحتلال وسيطرته، لأنها تتركز في مناطق "ج".
وكذلك تقع معظم الأراضي الشاغرة للبناء والتنمية في عشرات القرى والبلدات الفلسطينية في أرجاء الضفة الغربية ضمن المنطقة "ج"، ولكن السلطات الإسرائيلية تمنع استخدامها وتمنع التنمية الفلسطينية في حوالي 60% منها، وتخصصها لاستخداماتها.
وبذلك تقيد المستوطنات الحيز المتاح للتنمية الاجتماعية والاقتصادية الفلسطينية، من خلال سلب الأراضي والموارد الطبيعية، ومصادرة أراض فلسطينية إضافية لإنشاء البنى التحتية وشبكات الطرق التي تخدم المستوطنات، إضافة إلى قلع الأشجار وهدم المنازل لتوسيع مساحة الأراضي المتاحة للمستوطنات، وهو ما يفضي إلى تدهور البيئة.
وعمقت السياسات الاستيطانية تبعية المجتمع الفلسطيني من خلال توفير فرص العمل في قطاع البناء والعمالة الرخيصة والصناعة التي تتطور في المستوطنات، وبذلك يلتحق الاقتصاد الفلسطيني بالمستوطنات.
ولا يتمتع الفلسطينيون بحقوق متساوية مع المستوطنين في الأراضي التي تسيطر عليها سلطة الاحتلال، حيث أوجد الاحتلال في نفس المنطقة جهازين قضائيين منفصلين، تُحدد حقوق الإنسان فيهما بحسب انتمائه القومي، فأحدهما يعمل وفق قوانين خاصة بالإسرائيليين والآخر يعمل وفق قوانين خاصة بالفلسطينيين الذين يعيشون تحت الحكم العسكري.
وتظهر الفوارق في الحقوق في عدم المساواة في الحصول على عوامل الإنتاج والأراضي والطرق والبنية التحتية والموارد المائية والخدمات الأساسية، ويتكبد الاقتصاد الفلسطيني بسبب ذلك خسائر سنوية كبيرة.
التنمية في القدس والمنطقة "ج"
يصعب جدًّا على الفلسطينيين الحصول على تصاريح لتشييد مبان للسكن أو لممارسة أنشطة اقتصادية صناعية وزراعية أو لبناء بنية تحتية مثل الطرق وشبكات المياه والطاقة، في المنطقة "ج" والقدس الشرقية المحتلة.
وبين عامي 2019 و2020 ارتفع معدل رفض إصدار التصاريح إلى أكثر من 99%، وفقا لتقرير مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد" لعام 2022، وإذا تم البناء دون ترخيص هدمته سلطة الاحتلال، ومنذ عام 1967 هدمت -وفقا للتقرير- 28 ألف منزل فلسطيني، ودمرت بنى تحتية حيوية، بما في ذلك مرافق للمياه والصرف الصحي.
وفي عام 2021 ازدادت عمليات الهدم في القدس الشرقية زيادة كبيرة، وصادرت سلطة الاحتلال 57% من الأراضي لصالح المستوطنات والبنية التحتية العامة، وحرم الفلسطينيون من الوصول إلى 30% أخرى من المدينة.
وتسبب القيود وعمليات الهدم وعنف المستوطنين أوضاعا معيشية لا تطاق، تؤدي إلى تفاقم بيئة قسرية ضاغطة على الفلسطينيين، تحملهم على مغادرة المنطقة "ج" لإفساح المجال لمزيد من التوسع في المستوطنات، وهذا ما يوجد حقائق دائمة على الأرض، تحول دون إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وقابلة للحياة.
ومنذ إبرام اتفاقية أوسلو، تعاملت إسرائيل مع مناطق "ج" على أنها أراض تابعة لدولتها، وليست أراضي محتلة يجب أن تعود إلى أصحابها، واعتبرتها احتياطيا استيطانيا منفصلا ومستقلا، وسيطرت على كافة المصادر الطبيعية فيها كينابيع المياه والمحاجر والمواقع الأثرية والمحميات الطبيعية.
وتمنع سلطات الاحتلال وتعرقل أي نشاط أو تطور فيها من قبل أصحابها الفلسطينيين، وأي تطوير للبنية التحتية، وتحرم الفلسطينيين من الاعتناء بالأراضي الزراعية، وخاصة القريبة من المستعمرات الإسرائيلية المقامة عنوة على هذه الأرض، ولا يتمتع المزارعون الفلسطينيون الذين تقع أراضيهم قرب المستوطنات بإمكانية الوصول الكامل والمستمر والآمن إلى الحقول والاستفادة منها.
التشرذم الجغرافي والحواجز
من أكبر المشاكل التي سببها الاستيطان تقطيع أوصال الضفة الغربية التي قُسمت إلى ثلاث مناطق: "أ" و"ب" و"ج" وفقا لمعاهدة أوسلو، وتُقسم المنطقتان "أ" و"ب" التابعتان للسلطة الفلسطينية إلى 166 وحدة معزولة من الأراضي دون اتصال إقليمي، وتحيط بهما أراضي منطقة "ج"، وهي تتمتع باتصال جغرافي، ولكنها تخضع للسيطرة الإسرائيلية.
ويضرب الجيش الإسرائيلي الحواجز ومواقع نقاط التفتيش، ويقيد حركة الفلسطينيين، بما في ذلك حركة العمال والموظفين والبضائع، ويُقلص أو يحظر وصول المزارعين إلى أراضيهم، ويُبدي حضورا مكثفا لقوّات الأمن في الميدان، بذريعة حماية المستوطنات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية.
ويعمق الجدار إلى جانب المستوطنات التشرذم الجغرافي والإداري والقانوني للضفة الغربية، وتؤدي عمليات الإغلاق إلى التقليل بشكل كبير من احتمال التشغيل والأجور بالساعة وعدد أيام العمل، وتزيد عدد ساعات العمل في اليوم، ويتجسّد هذا الأثر في انخفاض ربحية الشركات وطلب العمالة.
وتشوه المستوطنات جغرافية الضفة الغربية، وتجزئ الأسواق والمجتمعات المحلية الفلسطينية وتضعف الأمل في تحقيق تنمية اقتصادية مجدية، وهي تنمية لا يمكن تصورها دون أراض وموارد طبيعية.
ووفقا لتقرير "الأونكتاد" لعام 2022، يفقد الفلسطينيون بسبب القيود المفروضة على التنقل 60 مليون ساعة عمل سنويا، أي ما يعادل 274 مليون دولار، وتكلف نقاط التفتيش وحدها اقتصاد الضفة الغربية ما لا يقل عن 6% من الناتج المحلي الإجمالي.
التنمية الزراعية
تعزز سياسة إسرائيل المائية المزايا الاقتصادية والسياسية للمستوطنات وتوسعها، ومن ثم تواصل سلطة الاحتلال استنفاد الموارد الطبيعية، ولا سيما الموارد المائية، في الضفة الغربية لصالحها في حين تحرم الاقتصاد الفلسطيني والزراعة الفلسطينية من الموارد المائية الحيوية.
كما تواصل سلطة الاحتلال اقتطاع أجزاء كبيرة من المنطقة "ج" وتعتبرها محميات طبيعية، بما في ذلك أراض خاصة يملكها فلسطينيون، وبمجرد تصنيف الأرض محمية طبيعية، فلا يمكن لأصحابها زراعة حقولهم دون موافقة مسبقة من السلطات الإسرائيلية.
ووفقا لتقرير "الأونكتاد" أعلنت سلطة الاحتلال 48 محمية طبيعية، تغطي حوالي 12% من المنطقة "ج" حتى منتصف عام 2022.
حقوق الإنسان
أحدث المشروع الاستيطاني تحولا في الضفة الغربية، وأصبح تأثيره محسوسا على كل مستويات الحقوق الأساسية الخاصة بسُكان المنطقة الفلسطينيين، وتعد جميع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير قانونية، ويشكل إنشاؤها انتهاكا خطيرا للقانون الإنساني الدولي، الذي يحظر صراحة نقل سكان قوة الاحتلال إلى الأراضي المحتلة.
ويشكّل كثير من المستوطنات بؤرا للعنف وارتكاب الجنح الجنائية ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، وتجسد هذا التأثير في سرقة ونهب مئات آلاف الدونمات التي أقيمت عليها المستوطنات والمناطق الصّناعية والطرقات والأراضي الزراعيّة والمناطق السياحية وغيرها.
ويبين التقرير الذي قدمته منظمة متطوعي حقوق الإنسان الإسرائيلية (ييش دين) للأمم المتحدة، من خلال أبحاث واستقصاءات أجرتها، أن سياسات سلطات الاحتلال بخصوص حماية المستوطنات لها أثر "هدّام، وتؤدي لانتهاكات جسيمة بحق الفلسطينيين بالحياة وسلامة الجسد والأمن، والحق بالملكية وحرية الحركة والمساواة، إلى جانب انتهاك الحقّ الجمعي على ثرواتهم الطبيعية".
ومن ثم فإن وجود المستوطنات يسبب انتهاكا لحق الفلسطينيين في الحصول على مستوى معيشة لائق، كما أن التغييرات الكبرى التي أجرتها إسرائيل في خريطة الضفة الغربية لا تدع فرصة لإقامة دولة فلسطينية مستقلة وقابلة للحياة في إطار حق تقرير المصير.