معاهدة فرساي.. اتفاقية "سلام" مهّدت للحرب العالمية الثانية

صورة رسمية لتوقيع معاهدة "فرساي" يوم 28 يونيو/حزيران 1919 بين الحلفاء وألمانيا (شترستوك)

بعد أن تسببت الحرب العالمية الأولى في مقتل 16 مليونا ما بين مقاتلين ومدنيين، جاءت معاهدة فرساي لتنهي آخر فصول هذه الحرب المدمرة. أبرمت المعاهدة في قصر فرساي بباريس عام 1919، وكانت تهدف في ظاهرها إلى إرساء السلام بين دول الحلفاء ودول المحور، ووضع قواعد تنظم العلاقات الدولية بين الأطراف المتنازعة. لكن اتفاقية "السلام" تلك أدت إلى تفجير الحرب العالمية الثانية بعد وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا. 

ما قبل معاهدة فرساي

بدأت القصة عندما اشتعلت الحرب بين النمسا وصربيا، عندما اغتيل الأرشيدوق فرانز فرديناند وريث العرش النمساوي المجري على يد طالب صربي بوسني، وقد كان النزاع بين البلدين مجرد فتيل أشعل الحرب العالمية الأولى عام 1914.

وسرعان ما انقسم العالم إلى معسكرين: معسكر دول المحور التي ضمّت الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية ومملكة بلغاريا، ومعسكر الحلفاء الذي شمل المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وأيرلندا وفرنسا (الجمهورية الفرنسية الثالثة) والإمبراطورية الروسية.

وبعد مرور 5 سنوات، انتهت الحرب بانتصار الحلفاء عام 1918، ونتج عن ذلك استبدال الإمبراطوريات الروسية والألمانية والنمساوية المجرية والعثمانية بدول جديدة قائمة على القوميات.

وصفت الحرب العالمية الأولى بأنها "الحرب التي ستنهي كل الحروب"، حيث تم الاتفاق بعدها على هدنة صاغها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون بـ14 بندا، أعقبتها معاهدة فرساي التي تصنف على أنها من أهم معاهدات السلام في العصر الحديث، لكن ربما لم تدرك الدول المنتصرة التي فرضت شروطها في المعاهدة أن ذلك "السلام" لن يدوم طويلا.

النقاط الأربع عشرة

في عام 1917، دخلت الولايات المتحدة الحرب إلى جانب قوى الحلفاء ضد دول المركز، وعندما مالت الكفة لصالح الحلفاء بادر الرئيس الأميركي وودرو ويلسون إلى صياغة "شروط السلام" بـ14 نقطة، في 8 يناير/كانون الثاني 1918.

وتضمنت النقاط رؤية "مثالية" للعالم بعد الحرب العالمية الأولى، ووضعت الخطوط العريضة لسياسة التجارة الحرة والاتفاقيات المفتوحة والديمقراطية، وأكدت الحاجة لتقرير المصير القومي لمختلف المجموعات العرقية في أوروبا، كما دعت إلى إنهاء الحرب عن طريق التفاوض ونزع السلاح الدولي وانسحاب القوى المركزية من الأراضي المحتلة.

اقترح ويلسون أيضا إنشاء رابطة عامة مهمتها التوسط في حالة النزاعات الدولية لمنع أي حروب مستقبلية، وباتت هذه الرابطة تعرف لاحقا باسم "عصبة الأمم".

مع ذلك، وجد الحلفاء الرئيسيون للولايات المتحدة الأميركية أن هذه النقاط شديدة المثالية وغير قابلة للتطبيق، أما الألمان فقد اعتقدوا أن رؤية ويلسون هذه ستشكل حجر الأساس لأي معاهدة سلام مستقبلية، لكن "معاهدة فرساي" أثبتت لاحقا أنهم كانوا مخطئين تماما.

مؤتمر باريس للسلام

حتى بعد صياغة شروط السلام ونقاط ويلسون الـ14، لم يسدل الستار (من جانب القانون الدولي) على نزاعات الحرب العالمية الأولى إلا بعد مفاوضات مطولة في مؤتمر باريس للسلام الذي تمخض عنه توقيع 5 معاهدات مع الدول المهزومة، بما فيها معاهدة فرساي مع ألمانيا، ومعاهدة سان جيرمان مع النمسا، ومعاهدة نوبي مع بلغاريا، ومعاهدة تريانون مع المجر، ومعاهدة سيفر مع الدولة العثمانية.

وبناء على معاهدة فرساي وما تلاها من معاهدات فرضت شروطها على الدول المهزومة التي لم تكن طرفا في المفاوضات، تمت إعادة ترسيم الحدود العالمية، فرسمت حدود جديدة لبعض الدول وأنشئت دول لم تكن موجودة من قبل، ولذلك فقد قسمت أملاك الدولة العثمانية، ومستعمرات ألمانيا خارج أوروبا، وقسمت ألمانيا نفسها.

انعقد "مؤتمر باريس للسلام" في 18 يناير/كانون الثاني 1919، ولم يكن اختيار هذا التاريخ اعتباطيا، إذ وافق ذكرى تتويج الإمبراطور الألماني فيلهلم الأول في قصر فرساي بباريس بعد نهاية الحرب الفرنسية البروسية عام 1871.

وقد أدى الانتصار البروسي في هذا الصراع إلى توحيد ألمانيا واستيلائها على مقاطعتي الألزاس واللورين من فرنسا، وبعد مرور قرابة نصف قرن على هذه الحادثة، وتحديدا عام 1919، لم تنس فرنسا بقيادة رئيس وزرائها جورج كليمنصو تلك الخسارة المهينة، وعزم الفرنسيون على الانتقام من الألمان من خلال "معاهدة فرساي للسلام".

كان القادة المهيمنون على مفاوضات السلام في مؤتمر باريس هم قادة الحلفاء المنتصرون، بما في ذلك ويلسون رئيس الولايات المتحدة، وديفيد لويد جورج من بريطانيا العظمى، وجورج كليمنصو من فرنسا، بالإضافة لفيتوريو أورلاندو ممثلا عن إيطاليا.

ولم يكن هناك تمثيل لألمانيا والدول المهزومة الأخرى، بما في ذلك النمسا والمجر وبلغاريا، بالإضافة إلى غياب روسيا عنها، والتي قاتلت مع قوى الحلفاء حتى عام 1917 فقط، حيث قامت الثورة الروسية بعد ذلك وأبرمت الحكومة البلشيفية الجديدة في البلاد سلاما منفصلا مع ألمانيا وانسحبت من الصراع.

رغبات متباينة ومصالح مختلفة

لم تكن أهداف الدول الأربع المهيمنة متشابهة بطبيعة الأحوال، فقد كان كليمنصو يرغب في الانتقام من ألمانيا التي سبق أن هزمت فرنسا في عهد فيلهلم الأول، كذلك أراد الحصول على تعويضات كبيرة من الألمان ليضمن منع الانتعاش الاقتصادي الألماني بعد الحرب.

أما لويد جورج فقد ارتأى إعادة بناء ألمانيا من أجل إعادة تأسيس الأمة كشريك تجاري قوي لبريطانيا العظمى. وعلى صعيد آخر أراد أورلاندو توسيع نفوذ إيطاليا على حساب دول أخرى، لتصبح قوة عظمى تضاهي فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة.

عارض ويلسون المطالب الإقليمية الإيطالية، وكذلك عارض التقسيم الموجود سابقا للأراضي بين الحلفاء، وأراد تطبيق رؤيته التي اقترحها في نقاطه الأربعة عشر، لكن القادة الآخرين رفضوا تلك الرؤية باعتبارها "ساذجة ومثالية" وغير قابلة للتطبيق على أرض الواقع.

قادة دول الحلفاء الأوروبيون في مؤتمر باريس للسلام عام 1919 الذي خرج بعدة معاهدات منها فرساي (شترستوك)

ألمانيا أكبر الخاسرين في معاهدة فرساي

بناء على رفض الحلفاء الأوروبيين، لم تطبق رؤية ويلسون في معاهدة فرساي التي تم توقيعها يوم 28 يونيو/حزيران 1919، بل فرضوا شروطهم الخاصة "للسلام"، والتي كانت قاسية على ألمانيا على وجه التحديد.

فوفقا للمعاهدة، أُجبرت ألمانيا على تقديم تنازلات إقليمية واسعة، فتخلت عن حوالي 10% من أراضيها وجميع ممتلكاتها، كما دعت معاهدة فرساي إلى نزع السلاح الألماني وتقييد الجيش والبحرية الألمانية ومنعها من حيازة سلاح جوي، وفرض الحلفاء على ألمانيا إجراء محاكمات جرائم الحرب ضد القيصر فيلهلم الثاني وقادته.

والأهم من ذلك، أجبرت ألمانيا على قبول المسؤولية الكاملة عن بدء الحرب العالمية الأولى، ودفع تعويضات هائلة عن خسائر الحلفاء في الحرب، وذلك وفقا للبند 231 من معاهدة فرساي الذي عرف باسم "بند ذنب الحرب".

ومع حلول عام 1921، بلغت قيمة التعويضات التي دفعتها ألمانيا للدول الأخرى حوالي 31.4 مليار دولار، أي ما يعادل 442 مليار دولار أميركي في عام 2022.

تباينت الآراء حول المعاهدة المثيرة للجدل، فالبعض وجدها مجحفة وقاسية على ألمانيا، فيما وجدها آخرون متساهلة مع الألمان الذين كانوا سينتقمون بطريقة أكثر قساوة لو أنهم فازوا بالحرب.

في كتابه "العواقب الاقتصادية للسلام"، أشار الاقتصادي الإنجليزي جون ماينارد كينز إلى معاهدة فرساي على أنها "سلام قرطاجي"، وهو مصطلح يشير إلى فرض "السلام" بعد سحق الخصم بشكل وحشي. وأشار كينز إلى أن معاهدة فرساي كانت انتقاما فرنسيا هدفه تدمير ألمانيا، ولم يكن هدفها الوصول إلى السلام حقا.

لكن في المقابل، زعم المؤرخ العسكري البريطاني كوريلي بارنيت أن معاهدة فرساي كانت "متساهلة للغاية مقارنة بشروط السلام التي كانت ألمانيا نفسها تفكر في فرضها على الحلفاء فيما لو فازت في الحرب".

علاوة على ذلك، وصف بارنيت المعاهدة بأنها كانت "بالكاد صفعة على الرسغ"، إذا ما قورنت مع معاهدة "بريست ليتوفسك" التي فرضتها ألمانيا على الاتحاد السوفياتي الروسي المهزوم في مارس/آذار 1918، حيث سلبت ألمانيا بموجب تلك المعاهدة ثلث سكان روسيا، واستولت على نصف المشاريع الصناعية الروسية، وتسعة أعشار مناجم الفحم الروسية، كما فرضت على الاتحاد السوفياتي تعويضات مالية ضخمة.

بنود المعاهدة سبب الحرب العالمية الثانية

على الرغم من أن المعاهدة تضمنت ميثاقا لإنشاء عصبة الأمم الهادفة للحفاظ على السلام بعد الحرب، فإن الشروط القاسية التي فرضها الحلفاء على ألمانيا ضمنت ألا يستمر السلام طويلا، خاصة مع الاحتقان الألماني ضد القادة الألمان الذين وقعوا المعاهدة وشكلوا حكومة الحرب وباتوا يعرفون في ألمانيا باسم "مجرمي نوفمبر".

كانت معاهدة فرساي واحدة من الأسباب التي مهدت لصعود القوى السياسية اليمينية المتطرفة في ألمانيا، خاصة حزب العمال الاشتراكي الوطني أو "النازيين".

وزاد الكساد الكبير الاضطرابات الاقتصادية في ألمانيا بعد عام 1929، مما أدى إلى زعزعة استقرار حكومة جمهورية فايمار (التي نشأت في ألمانيا بين 1919 و1933 نتيجة للحرب العالمية الأولى) الضعيفة بالفعل، وهو ما ساعد على وصول الزعيم النازي أدولف هتلر إلى السلطة عام 1933.

ومن الجدير بالذكر أن خطابات هتلر أكدت على أن معاهدة فرساي كانت "إذلالا" للألمان، وكانت السبب في جميع الويلات والمشاكل الاقتصادية التي عانوا منها بعد الحرب العالمية الأولى، وقد وعد هتلر أبناء ألمانيا بإعادة أمجاد بلاده السابقة، لذلك ينظر إلى معاهدة "السلام" تلك على أنها الخطوة الأولى التي مهدت للحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها قرابة 85 مليون قتيل.

المصدر : مواقع إلكترونية

إعلان