الأطول جلوسا على العرش.. سليمان القانوني عاشِر السلاطين العثمانيين
سليمان القانوني؛ عاشر السلاطين العثمانيين، وأطولهم جلوسا على العرش، بلغت الدولة العثمانية في عهده أقصى اتساع لها حتى أصبحت قلقا مستمرا للممالك الأوروبية غربا وشنّ حملات كثيرة على الدولة الصفوية شرقا.
يعد أكثر الملوك سيطرة على حواضر البلدان المعاصرة له ومدنها الكبرى، وكما سيطر على مساحات واسعة في البر، فقد سيطر على مساحات واسعة من البحر بواسطة الأسطول البحري الذي أعاد تشكيله، عرف بالقانوني لوضعه نظما داخلية للمؤسسة السياسية والوظائف العليا، وإدخاله تعديلات جوهرية على المؤسسة العسكرية.
النشأة والتكوين
ولد السلطان سليمان الأول بن السلطان سليم في (شعبان 900هـ/ أبريل/نيسان 1495م) بمدينة طرابزون الواقعة على ساحل البحر الأسود، والتي سيطر عليها جده السلطان محمد الفاتح قبل ذلك التاريخ بنحو ثلث قرن.
ورث السلطان سليمان صورة أمه وملامحها الشركسية، وقد كانت ابنة لملك من ملوك التتر (لقب عرف به الأتراك غير العثمانيين)، غير أنه لم يبلغ من العمر السابعة حتى تولى أبوه السلطان سليم تربيته وتنشئته، وهو الذي عرف بالحدة والقسوة.
وقد نشأ سليمان نشأة الملوك من آل عثمان، وتعلم القرآن والفقه والأدب، وكان محبا للقراءة في مختلف العلوم والثقافات، وتحدث بعدة لغات منها الفارسية والعربية، كما تعلم الرماية والرياضات البدنية والعسكرية، وتولّه بالخيل ركوبا وتربية.
وكعادة الملوك في إعداد أبنائهم وتهيئتهم للحكم؛ فقد كلف السلطان سليم ابنه بولاية عدد من المدن الواقعة تحت سيطرته؛ منها قرة حصار (شمال تركيا) وفيودوسيا (بلاد القرم)، وعُين واليا على إسطنبول ثم مغنيسيا على ساحل بحر إيجة إلى يوم وفاة والده.
التجربة السياسية
بالرغم من استقرار السلالة العثمانية في إدارة شؤون البلاد قرابة القرنين حتى تاريخ ولادة السلطان سليمان؛ فإن المؤسسة العسكرية (الإنكشارية) كانت متقلبة المزاج والولاءات فيما يخص السلطنة ومن يتولاها.
وكانت تفضل الأقرب لها والأكثر دعما من بين الورثة المحتملين، لذا سارع الصدر الأعظم بإرسال رسالة إلى الأمير سليمان يخبره بضرورة القدوم إلى إسطنبول ليتسلم مقاليد الحكم بعد وفاة أبيه المفاجئة أثناء سيره لإحدى غزواته عام 1520.
ولم يكن لسليمان إخوة ينافسونه على الحكم مما أسهم في إرساء قواعد الحكم لصالحه من غير إراقة لدماء المنافسين.
كان من أهم أعمال السلطان سليمان الأولى إظهار نوع من السماحة والعدالة إلى جانب الحزم الذي عرف به بنو عثمان في الحكم، فقد ورث سليمان 8 سنوات من حكم أبيه المتسم بالحدة والقسوة، فآثر الابن أن يبدأ بما يبث روح العدالة المتسامحة في الرعية المتخوفة من قسوة متوقعة.
وأعاد مئات من المصريين الذين جلبهم أبوه إلى إسطنبول قسرا إلى ديارهم بعد انتصاره على المماليك، ووزع الأموال على التجار المتضررين من الضرائب التي فرضت عليهم إبان الحملة على فارس، وحاكمَ الفاسدين الذين استطالوا على الناس وآذوهم في أنفسهم وأرزاقهم.
لكنه أظهر صلابة أمام التمردات التي حصلت فور تسلمه الحكم، فقمع ثورة في الشام أرادت الاستقلال عن سلطانه، وأخمد تمردا ثانيا في مصر، وأحبط فتنتين وسط الأناضول في مدينة يوزغات ومرعش التركيتين، وأوقف المخطط الذي رسمه الشاه إسماعيل بتحشيد قواته على الحدود مع الدولة العثمانية مستغلا موت السلطان سليم الذي هزمه في وقعة جالديران.
الفتوحات باتجاه الغرب
بعد أن سيطر السلطان سليم على أراضي المماليك عام 1517 ورسّم الحدود بينه وبين الدولة الصفوية الناشئة في معركة جالديران؛ فإن أولويات السلطان سليمان كانت قد تحددت بـ3 اتجاهات.
أولها التوسع المدروس نحو الغرب الأوروبي، وثانيها كسر الحصار البحري الذي فرضه البرتغاليون مطالع القرن الـ16 الميلادي على الشواطئ العربية، وثالثها وصل الإمبراطورية العثمانية بامتدادها الجغرافي والديمغرافي شرقا، والذي حالت بينه وبينهم الدولة الصفوية التي نشأت كذلك مطلع القرن الـ16 وقطعت الاتصال الطبيعي بين الشطرين التركيين.
افتتح سليمان غزواته بسيره نحو المجر التي كانت الحائل الأول دون الوصول إلى القلب الأوروبي، وقد جاءت الفرصة سانحة بمقتل الرسول العثماني على يد الملك لويس الثاني، الذي أعلن تنصله من جميع الاتفاقات المبرمة بين دولته وبين العثمانيين في أوقات سابقة من حكمه.
كان هدف السلطان سليمان قلعة بلغراد (عاصمة صربيا) التي أعيت جده الفاتح، وقد استغل سليمان الخلافات الأوروبية الداخلية السياسية والدينية التي كانت تعصف بملوك أوروبا، وفي الوقت الذي حث فيه البابا ملوك أوروبا لنجدة لويس، كان مارتن لوثر ينصح الأمراء البروتستانت بتجنب هذا الصراع.
وبعد أن هاجمت القوات العثمانية القلعة من جهات ثلاث؛ حوصرت قرابة 3 أشهر حتى سقطت بلغراد عام 1521، فكانت أول حصن على نهر الدانوب يأخذه الأتراك من الأوروبيين، ثم ألحقها سليمان بولاية البوسنة، وقد أحدث هذا السقوط أثرا بالغا في نفوس الأوروبيين ظهر في حصار فيينا.
أغرت الخلافات الأوروبية الداخلية السلطان سليمان بالدخول على خط الصراع الفرنسي الإسباني بين فرانسوا الأول وشارل الخامس (شارلكان) الذي هزم غريمه الفرنسي في معركة بافيا عام 1525 وأسره.
مما أجبر شارل الخامس على القبول بالتوقيع على معاهدة مذلة في مدريد، فقام فرانسوا الأول بالدخول في حلف عميق مع العثمانيين استمرت آثاره قرابة 3 قرون.
وكان من آثار هذا الحلف أن طلب فرانسوا الأول من السلطان سليمان مهاجمة المجر من أجل تشتيت جيوش شارل الخامس التي تشكل ضغطا كبيرا على الفرنسيين.
وقد صادفت هذه المطالبة رغبة قوية عند السلطان في غزو وسط أوروبا، فسار باتجاه بلاد المجر يتقدم جيشا قوامه نحو 100 ألف مقاتل حتى وصل إلى موهاج (موهاكس؛ تقع جنوب المجر على الضفة الغربية من الدانوب)، وقد كانت نتيجة هذه المواجهة صادمة للأوروبيين، فقد انتصرت القوات العثمانية خلال ساعتين فقط على جيش يقدر بضعف عددهم وعلى أرضهم.
ثم تحرك السلطان وجيشه شمالا حتى دخلوا بودابست في سبتمبر/أيلول 1526، معلنا بذلك تبعية المجر للإمبراطورية العثمانية.
بعد فترة وجيزة أعاد شارل الخامس وأخوه سيطرتهم على المجر، فجرد سليمان جيشا كبيرا لاستعادتها منهم، غير أنه رغب -إضافة إلى استعادة المجر- بتأديب ملوك الهابسبورغ (سلالة من أقوى ملوك أوروبا في العصور الوسطى) فقام بمغامرة كبرى وحاصر عاصمة ملكهم فيينا عام 1529م.
غير أن استماتة الأوروبيين في الدفاع عن المدينة حالت بينه وبين تحقيق ذلك، وظلت الحرب بينه وبينهم سنوات حتى أعاد حصار فيينا مرة أخرى عام 1532 ولم يتمكن كذلك من السيطرة عليها لطول خطوط الإمداد بين جيشه وعاصمة بلاده.
وبعد نحو عقد من الحصار الثاني لفيينا اشتبك الهابسبورغ مع العثمانيين مرة أخرى، غير أنهم خسروا هذه المرة قلاعا وأراضي واسعة لصالح العثمانيين، مما أجبرهم على دفع الجزية لسليمان بعد توقيعهم اتفاقية ألزمت شارل الخامس بالتخلي عن لقب إمبراطور واكتفائه بلقب ملك إسبانيا.
وقد كان من نتيجة هذا الصراع أن صار سليمان أكبر ملوك أوروبا وصاحب الدور الريادي في السياسة على مستوى القارة كلها.
الشرق في مرمى سهام سليمان
اصطدمت طموحات الدولة الصفوية الناشئة في بلاد فارس بقوة الدولة العثمانية الراغبة بالتوسع، وما إن أمن العثمانيون حدودهم مع الأوروبيين نسبيا حتى تفرغوا للصفويين الذين زعزعوا ترسيم الحدود بين الدولتين الذي أجراه السلطان سليم في معركة جالديران.
فقتلوا والي بغداد العثماني، وانتزعوا ولاء والٍ تركي لصالحهم مقتطعا أرضا عثمانية ضمها إلى حوزة الصفويين.
اندلعت الحرب العثمانية الصفوية واستمرت لأكثر من عقدين، شن فيها العثمانيون عددا من الحملات ضموا فيها قلاعا ومدنا وأراضي واسعة إلى إمبراطوريتهم من أبرزها تبريز (شمال إيران) وبتليس ووان (شرق الأناضول).
وفي الحملة الثانية استعاد سليمان السيطرة على بغداد وأنهى الوجود الصفوي في غرب بلاد فارس، وفي الثالثة استولى العثمانيون على أرمينيا وعلى أراض في أقصى شرق الأناضول، وعلى قلاع في جورجيا، وانتهت باتفاقية سلام بين الطرفين.
أذعن الصفويون لعدد من مطالب السلطان سليمان، كان منها حظر اللعن الذي كانوا يكيلونه للخلفاء الراشدين، ومنع الغارات التي كان يشنها الموالون لهم على الأراضي العثمانية، كما نصت على اعتراف الصفويين بسيطرة الدولة العثمانية على عدد من المدن التي سيطرت عليها قواتهم منها البصرة وبغداد وشهرزور ووان وبتليس وأرضروم.
اصطدمت جميع الحملات بخطة الشاه الصفوي القائمة على تجنب المواجهة مع العثمانيين، مما يؤكد أنها كانت حروبا لإشغال العثمانيين عن حروبهم مع الأوروبيين غربا.
ودل على ذلك كلام سفير الملك فرديناند شقيق الملك شارل الخامس في بلاط سليمان حيث قال "إن المجابهة الفارسية هي ما يحول بيننا وبين الخراب، فالترك مغرمون بالهجوم علينا، لكن الفرس يضطرونهم إلى التراجع، فهذه الحرب التي تدور معهم لا تتيح لنا سوى الراحة وليس الخلاص".
القوة البحرية العثمانية
كان للأسطول البحري دور لا يقل أهمية عن نظيره البري، ومنذ انضمام خير الدين بربروس إليه؛ صار الأسطول العثماني الأوسع سيطرة على البحر المتوسط، الذي كان ميدانا مفتوحا للنزاعات الأوروبية والصراعات بين القوى المختلفة بين ضفتيه الشمالية والجنوبية.
ومن أبرز المهام التي كلف السلطان سليمان قائد أسطوله البحري بها إنفاذ رحلات إلى شواطئ إسبانيا من أجل إنقاذ آلاف من المسلمين الذين اضطهدتهم إسبانيا بعد انتصارها عليهم أواخر القرن الـ15.
وقد زادت هذه الحملات العداوة بين الهابسبورغ ملوك أوروبا والسلطان سليمان، كما كانت استعانة فرانسوا الأول ملك فرنسا بسليمان سببا في إشعال عدد من الحروب بينه وبين شارل الخامس، غير أنها كانت هذه المرة في البحر.
وبقيادة بربروس استعاد فرانسوا مدنا ساحلية من أيدي الإسبان كانوا قد احتلوها في وقت سابق.
وأكبر هذه المعارك البحرية بين الطرفين كانت معركة بروزة/ بريفيزا 1538، والتي حشد لها بابا الفاتيكان بنفسه للقضاء على الوجود العثماني في المتوسط، وخسر الأوروبيون ليكون البحر المتوسط تحت السيطرة العثمانية.
وامتد نفوذ الأسطول البحري لكسر الحصار الذي فرضه البرتغاليون على شواطئ التجارة بين رأس الرجاء الصالح والشواطئ الغربية والجنوبية للبلاد العربية.
وقد كانت الأسباب الداعية للهجوم العثماني على البرتغاليين كثيرة من أبرزها تهديد الأسطول البحري البرتغالي للديار المقدسة بعد سيطرته على البحر الأحمر، كما أن احتمال التحالف بين البرتغاليين والصفويين كان يتزايد باستمرار بعد الضربات التي شنها سليمان على الأراضي الصفوية.
إضافة إلى ذلك، شكلت الاستغاثات من مسلمي الهند الذين كانوا يتعرضون للخطرين المغولي والبرتغالي ضغطا معنويا على السلطان سليمان، وسببا في تعجيل الصدام بين الطرفين.
تحركت الأساطيل العثمانية من مصر بقيادة واليها لطرد البرتغاليين من البحر الأحمر، وقد تمكن العثمانيون من السيطرة على البحر الأحمر، لكنهم فشلوا في تأمين الطريق البحري نحو الهند.
وذلك لأسباب كان منها عدم وجود الرغبة القوية عند السلطان سليمان بالتوسع نحو الأراضي الهندية، فلم يكن في خطته أكثر من تأمين الديار المقدسة من خلال السيطرة على البحر الأحمر.
وقاتل سليمان البرتغاليين في الخليج العربي دون أن ينتزعه بصورة تامة من سيطرتهم، وقد وجّه اهتمامه البالغ للسيطرة على اليمن التي كانت غارقة في الفوضى والصراعات المحلية حتى استطاع أن يضمها إلى سلطانه حيث كانت تشكل بوابة النفوذ الجنوبية نحو إمبراطوريته الواسعة.
اسم القانوني
لم تشغل الحروب السلطان سليمان القانوني عن تنظيم شؤون دولته، فقد كانت كثير من السياسات المحلية والخارجية قبل حكمه تُعرف في وقت الحاجة إليها ويُجتهد لاستنباطها من مظانها دون وضعها في قوالب قانونية.
حتى جاء السلطان سليمان فأحدث ثورة قانونية واسعة شملت كثيرا من جوانب السياسة والإدارة والعسكر، وغطت جوانب تتعلق بالبيئة والتنظيمات المغرقة في المحلية.
وأصدر سليمان القانوني مدونة قانونية عرفت بـ"قانون نامة"، راعى فيها ظروف كل قُطر من أقطار دولته وأعرافه، وحرص على أن تكون متفقة مع الشريعة الإسلامية، وأن تكون فيها أدلة مباشرة من القرآن الكريم والسنة النبوية، وقد كان من وراء هذه المدونة مجموعة من علماء الدولة على رأسهم شيخ الإسلام أبو السعود أفندي.
وقد ظل العمل بهذا القانون -بعد أن وصل إلى مرحلته النهائية- ساريا حتى مطلع القرن الـ19.
ومن أبرز ما احتواه هذا القانون ما يتعلق بالرعايا (وهم غير المسلمين الذين يعملون في الأراضي العثمانية) والإقطاع الذي فاق القانون الأوروبي إلى درجة أن كثيرا من العمال النصارى الذين كانوا يعملون في أراضي الإقطاعيين الأوروبيين هاجروا إلى الدولة العثمانية للعمل في ظل قانون الإقطاع الذي سنه السلطان سليمان القانوني.
كما سنّ السلطان عددا من القوانين المتعلقة بالعقوبات الجنائية والشرطة والضريبة والمصادرات الواقعة على من يستغل وظيفته العامة للتربح وغيرها من الأمور التي لم تكن معهودة في ذلك العصر، وقد بلغت القوانين التي ضمتها هذه المدونة قرابة 200 قانون.
وفاته
لم يتوقف السلطان سليمان القانوني عن القتال والتوسع إلا قليلا من الوقت أمضاه في إدارة شؤون دولته حتى صارت الدولة الأكبر مساحة والأقوى نفوذا والأكثر تنظيما.
وفي آخر أيامه في صيف عام 1566 غادر سليمان عاصمته للمرة الأخيرة متوجها إلى بلاد الهابسبورغ لقتالهم في جنوب بلاد المجر، لكنه لم يكن قادرا على امتطاء جواده، فحمله جنده على المحفة وصولا إلى أرض أعدائه الذين نشبت بينهم وبينه المعركة الأخيرة في حصن سكتوار.
ولم يسعه الوقت لسماع نبأ الانتصار، فقد وافته المنية في خيمته قبل أن يُجهِز جيشه على جيش خصومه، الأمر الذي اضطر وزيره إلى إخفاء نبأ وفاته 48 يوما عن جنوده حتى يتم لهم النصر، وكانت وفاته في سبتمبر/أيلول 1566.
ولهذا السبب نزعت أحشاء سليمان ودفنت في خيمته ليتمكنوا من حفظ الجسد المحنط الذي ظل يتنقل من معسكر إلى آخر وصولا إلى بلغراد، حيث تأكد الوزير من استتباب وضع السلطنة في يد خليفة سليمان بأمان، وهنالك أعلن الوفاة.
دفن السلطان سليمان القانوني في مسجد السليمانية بإسطنبول، والذي بناه المعماري الشهير سنان، وقد أعلنت الحكومة التركية في عام 2015 العثور على المكان الذي دفنت فيه أحشاؤه جنوب المجر.