شعار قسم مدونات

تأملات(1).. عن وهم امتلاك الحقيقة المطلقة!

مدونات - رجل تأمل تفكر

لا حدود للأفكار التي تجول في عقل كل فرد، بعضنا نجح في التعبير عنها بطريقة من الطرق؛ الموسيقى، الرسم، الكتابة، الخطابة، وغيرها، والبعض الآخر كتمها مكرها، بسبب حساسيتها، ربما، حاولوا إخفاءها إلى حين قد لا يأتي أبدا، ولكيلا ننتظر السراب، دعونا نفتتح بعض "محرمات الكلام"، عبر سلسلة "تأملات"، التي تتناول أفكارا شغلت بال كثيرين وكتب فيها كثيرون كل من جانبه، منها الجوانب "المحبوبة" ومنها "المنبوذة"، هي وجهات نظر قد تختلف وقد تتفق، على قارئها أن يستحضر بعض الأمور التي تعتبر بديهية: لست أدعي أني أملك الحقيقة، ولست أقول أنها خلاصة بحثي، لأني باحث إلى يوم تبلعني الأرض. وكلامي هنا من "داخل الدين" لا من خارجه. هي آراء قد تكون صوابا وقد تكون خطأ، ومن حق الجميع انتقاده.

موضوعنا في هذا المقال يدور في فلك مفهوم فضفاض واسع، هو الحقيقة، تلك الغامضة التي "يمتلكها" المسلم واليهودي والنصراني والبوذي والهندوسي والزرادشتي، ويعرفها الإسلامي والعلماني واليساري والليبرالي، هي نفسها التي "تحيطها علما" كل الملل والنحل والإيديولوجيات والأحزاب والمذاهب والمدارس وكل فئة، كلهم يملكون الحقيقة. 

قبل الخوض في النقاش لابد من إطلالة بسيطة على مفهوم هذا المصطلح. يعرف لنا الفيلسوف الفرنسي "أندريه لالاند" الحقيقة بأن لها خمس دلالات:
الأولى هي: الحقيقة هي خاصية كل ما هو حق.
الثانية: الحقيقة هي القضية الصادقة.
الثالثة: الحقيقة هي ما تمت البرهنة عليه.
الرابعة: الحقيقة هي شهادة الشاهد عما رآه أو ما سمعه.
الخامسة: الحقيقة هي الواقع.

إعلان

ومن خلال التعريفات السابقة، قد أضع قمسين للحقيقة، قسم متعلق بالمحسوسات وآخر بالغيبيات، وكلاهما يحوي أمورا مطلقة وأخرى نسبية، المطلقة في القسمين مثل الرياضيات وغالبية العلوم، ووجود خالق وجنة ونار. الأولى يمكن التوصل إليها بالتجربة والثانية يمكن معرفتها من خلال صورة هذا العالم باعتبارها جوهره، كما أشار إلى ذلك أريسطو، حين ربط بين معرفة حقيقة العالم المثالي بمعرفة العالم الواقعي الذي هو صورة للأول.

الحقيقة التي يراها المسلم مسلمة، ليست شيئا بالنسبة للنصراني، الذي يرى أن الله واحد بثلاث أقانيم، يصلي له ويعبده ويؤمن بالمسيح المخلص، ويأمل أن ينال مكانا في السماء، التي هي النعيم بالنسبة للمسلمين

الحقيقة السابقة، والتي قد يشير إليها البعض بأنها أم الحقائق وهي معرفة وجود الله، خالق هذا العالم الفسيح وموجده، وهي محل اتفاق كل الديانات، وما دونها فإن الأمور ستصبح عبارة عن حقائق محل نقاش بين الجميع، كل يمتلك تصورا للحقيقة ويعتقد أنه صاحبها وما عداه فهو باطل.

إن وهم امتلاك الحقيقة المطلقة عندنا نحن المسلمون يخفي عنا كثيرا من المعارف، الاستعلاء والتكبر على الغير يهلك صاحبه، الإسلام دين الله الحق، والإسلام هو الدين الوحيد، وهو الاستسلام والخضوع لله، والأمر ينطبق على كل الديانات السماوية التي وصفت بهذا الوصف في القرآن، كلها نزلت من عند الله. وحتى لو سلمنا جدلا بأن المسلم على حق وهو من سيدخل الجنة دون غيره، أليس في ذلك ادعاء بمعرفة الغيب؟ والاطلاع على ما سيفعله الله بهم؟ وإن لم نكن نعلم الغيب ولا أحد يدعي غير ذلك، ولا نجزم يقينا أن الله يعتبرنا أفضل من غيرنا، فلماذا نعتبر شعوب الديانات الأخرى أدنى منا؟

 

ولنذهب أبعد من ذلك، إن النصارى واليهود والهندوس يفوقوننا في كل شيء، وتعاليم الدين الإسلامي النبيلة تطبق عندهم ولا نرى لها أثرا سوى في "الأحوال الشخصية" في بعض البلدان، لديهم العدل، وعندهم الحرية والتي هي أسمى شيء منح للإنسان، والعيش الكريم وكرامة الأفراد، يمتلكون الأخلاق؛ والفرق بين "سندس القطان" و"إيلين إيرسون" يوضح ذلك، وبعيدا عن كل هذا، لنجزم أننا أعلى مرتبة منهم؛ هل الدين الإسلامي يأمر بالاستعلاء والتكبر على الغير من الديانات؟ والادعاء بأننا نمتلك الحقيقة، ليس الدينية فقط، بل حتى الدنيوية!؟

إعلان

نعم، القرآن حق من ربنا، لكن فهمه "حق" من عندنا، ما يعني أنه نسبي، وكل التفاسير ليست مطلقة، فما الفرق بين تفسير الضحاك لقوله تعالى: "وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ"، بأن المقصود من السفهاء: "الأطفال والنساء"، وقول شوبنهاور: إن "المرأة حيوان بشعر طويل وعقل قصير"، ما أحاول توضيحه أن الأمر لا يستدعي مهاجمة كل من تحدث، بدون حتى النظر إلى ما قاله. أما بخصوص من يقول إن الدين لا يقبل "النقاش"، الدين هو أكثر شيء يقبل النقاش لأنه متعلق بالجميع ومرتبط بمصير أبدي.

 

المثال الذي يضربونه أن الطبيب وحده من يتحدث في الطب ولا يمكن للعامي أن يدلي بدلوه فيه، نعم صحيح، ولكن الطبيب لا يعدني بالخلاص الأبدي وبالجنة وغيرها، والطبيب قد أذهب إليه وقد لا أذهب، أما الدين فمرتبط بمصير قد أندم إن لم أؤمن به، ولكي أؤمن به لابد لي من معرفته، ولمعرفته لا مناص من الشك والنقاش، وهكذا، ومن جانب آخر: ليس كل الناس أطباء ليناقشوا هذا المجال ولا كلهم مهندسون ليناقشوا الهندسة ولكن من حق كل متدين مناقشة دينه، للتخلص من الدين التقليدي، إسلاما أو نصارنية أو يهودية.

الحقيقة التي يراها المسلم مسلمة، ليست شيئا بالنسبة للنصراني، الذي يرى أن الله واحد بثلاث أقانيم، يصلي له ويعبده ويؤمن بالمسيح المخلص، ويأمل أن ينال مكانا في السماء، التي هي النعيم بالنسبة للمسلمين، وهي الجنة عند اليهود والزرادشتيين، والخلاص للبوذيين، "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ".

الحقيقة التي يراها المعارض السياسي على أنها لا تقبل النقاش، ويعتقد أنها واضحة وضوح الشمس وأن ظلم الرئيس لا يحتاج لأدلة، قد تكون لدى البعض مجرد "هرطقات"، وكلام عاري من أي صحة، والاحتاجات التي يظنها عدد كبير من الناس أنها واجبة وضرورة ملحة للمطالبة بالحقوق، هي عند آخرين مجرد صراخ لا يغني ولا يسمن من جوع، وعند فئة أخرى تحريضا ومحاولة لتخريب البلد، هي حقائق متكاملة الأركان عند الطرفين، وكلاهما يملك الأدلة الكافية التي تجعل منها حقيقة، بل حتى شخصيتك أنت سيدي القارئ، الحقيقة التي يعرفها الناس عنك ويظنونها قطعية، غير التي أنت تعلمها عن نفسك.

حقيقة الغيبيات (الميتافيزيقيا)، لا يملكها إلا الله، وكل ما يوجد لدينا على أساس أنه حقائق ليس سوى أفهام للناس، وآراء من هناك وهناك، متناثرة على جنبات طريق طويل
حقيقة الغيبيات (الميتافيزيقيا)، لا يملكها إلا الله، وكل ما يوجد لدينا على أساس أنه حقائق ليس سوى أفهام للناس، وآراء من هناك وهناك، متناثرة على جنبات طريق طويل
 

الحقيقة التي يعتقد الإسلاميون بأصنافهم أنهم يملكونها، وفق اجتهاداتهم، ولا "يلزمون" أحدا بها، ليست كذلك بالنسبة لغيرهم، فالإسلامي الذي انتمى لحركة أو تنظيم وغادره فيما بعد، ليس بالضرورة "استخباراتيا"، كما وصف الراحل أربكان الرئيس التركي الحالي أوردوغان، ولا "جاهلا" كما يوصف كثيرون من المغادرين، ولا "متساقطا على الطريق" ولا "الزبد الذي يذهب جفاء"، ولا حتى "قليل التربية"، فقد يكون (بحثه) (وضعتها بين قوسين لأنها دائما ما تكون محل استهزاء من البعض)، أوصله إلى شيء آخر، قطعا ليس حقيقة مطلقة، لكنه بالنسبة إليه الأقرب للصواب.

إعلان

الماركسي الذي غادر حزبه وراجع فكره، ليس بالضرورة يا رفيقي "خائنا"، أو "عميلا للنظام"، ولا حتى "تحريفيا"، فقد يكون عقله قد أرشده إلى ما يراه أقرب للحقيقة، أو اجتهاده أوصله إلى "تجديد" في الماركسية وتكييفها مع الواقع، والعلماني الذي صار إسلاميا والأخير الذي بات علمانيا، كل هذا لا يعني أنه: (كل عبارات السب والشتم والتجهيل والتخوين،) لا يعني كل ذلك، ففي التنوع حياة وفي الحياة تنوع وكلاهما يغذي الآخر.

حتما كل ما قلته ليس جديدا بالنسبة للجانب النظري لكل الأصناف التي ذكرت؛ ديانات وأحزاب وطوائف، وأجزم أن بعض الإسلاميين في فكرهم يؤمنون بأنه "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر"، وأن قول الكثرة ليس حقيقة بالضرورة، وأن وجود مفكرين يصدحون بآراء تخالف كل ما يعتقدون قد يحمل من الصحة الكثير، ولكن على المستوى التطبيقي لن تجد سوى القليل ممن تتجسد فيه هذه العبارات السامية أخلاقا ونهجا يسير عليه، الأمر ينطبق على اليساري واللبرالي وكل التوجهات والطوائف. 

حقيقة الغيبيات (الميتافيزيقيا)، لا يملكها إلا الله، وكل ما يوجد لدينا على أساس أنه حقائق ليس سوى أفهام للناس، وآراء من هناك وهناك، متناثرة على جنبات طريق طويل، والسيوف التي تنحر كل المتكلمين لا تختلف عن الأيادي التي قتلت "غاليليو غاليلي" بسبب دفاعه عن النظرية الكوبرنيكية، في الوقت الذي كان فيه كل أهل المعمورة يؤمنون بحقيقة "قطعية" وهي أن الأرض مركز الكون.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان