شعار قسم مدونات

بين فرشي التراب.. وسقفي السماء

blogs مشاري العرادة

ذات يومٍ كانونيّ خرجتُ أسير في الصباح لحاجةٍ ما، وإذ بالسماء قد بدأت توزع علينا هداياها بنعومةٍ ودفء، "ياله من صباحٍ لطيف ورومانسي" قلتُ في نفسي، وهممتُ بفتح أغنيةٍ ما لأسمعها، كنتُ قد اعتدت سماعها في هذا الفصل من السنة، وفيه نجد أنفسنا قد أصبحت أكثر حميمية مع كوب النسكافيه أو القهوة، والدفتر والقلم، والموسيقى والتأمل، لكني تذكرتُ ذاك العهد الحديث الذي كنت قد قطعته على نفسي  بألاّ أستغرق في تلك الأشياء التي تحفّز لديّ هذه الحالة وتستحفني على نبش كل القديم والحديث وعودة الاتحاد معه، فوضعتُ أغنيةً لا تليق بهيبة وكبرياء هذا الجو المتشح بالحزن والسكون أكثر.. وسرتُ.

 

عنّ في بالي حينها الكثير من الأناشيد والأغاني التي إن شئنا أم أبينا فلا مفرّ لنا من الاعتراف بأنّها صبغت شخصيتنا بشيء مما تتسم به اليوم، تذكرتُ وصف أحدهم يومًا قائلا: جيل هاني شاكر، في معرض حديثه عن البؤس والشكوى في واحة الحب، وتذكرتُ أناشيد "الأسيف وقوافل الشهداء" وغيرها بكل مالها وما عليها، ومضيتُ أسير على أنغامٍ لا تليق بالشتاء لكنها تجعلني أفي بوعدي الذي قطعت مع نفسي.

  

العرادة والدرس الحيّ
  
العرادة ذكّر محبيه بالقبر فسبقهم إليه (الجزيرة)
العرادة ذكّر محبيه بالقبر فسبقهم إليه (الجزيرة)

 
وبعدها بأيامٍ قليلة أعادني خبر وفاة المنشد الكويتي مشاري العرادة -رحمه الله- إلى الفكرةِ ذاتها، عمل النشيد أو لنقل الفنَ في النفس، ورأيت أنه من الصعب أن أتحدث عن عمله الفني وأثره في النفس، فإنه يكشف ذاك السر الخفي بيننا وبين الله في لحظاتٍ سِرنا فيها إليه وتُقنا لعفوه ورجوناه، أنغامه وكلماته كانت زادًا لنا في الطريق وصفحة لا يمكننا الحديث عن كثيرٍ من سطورها لأنها تلامس ذاك العمق المستور، في علاقتنا الاستثنائية معه، التي نحافظ عليها في طيات الخفاء بعيدًا عن جلبة هذا العالم المسعور بالانكشاف والانفتاح.

 

وأتحدث هنا بصيغة الجمع ليس تفخيمًا للأنا الشخصية بطبيعة الحال، وإنما تعبيرًا عن الأنا الجمعية التي تجلّت بتأثر مجموعٍ كبير من الشباب عقب وفاة العرادة رحمه الله إثر حادث سير، مستذكرين أنشودته التي اشتهر بها "فرشي التراب"، ومعبّرين بأشكال متعددة في وسائل التواصل الاجتماعي، تدور في جلّها في المدار ذاته، وهي أن نشيده كان رسالة بالكلمة والمضمون.

 

لقد أنشد العرادة فيها:

والأهل أين حنانهم؟!..  باعوا وفائي..

والصحب أين جموعهم؟!.. تركوا إخائي..

والمال أينَ هنائه؟!.. صار ورائي..

والاسم أين بريقه؟!.. بين الثناء.. ..

هذي نهاية حالي.. فرشي التراب.. يضمني.. وهو غطائي..

 

إلى آخر الأنشودة:

والخوف يملأ غربتي.. والحزن دائي.. أرجو الثبات وإنه.. قسمًا دوائي.. والرب أدعو مخلصًا.. أنت رجائي.. أبغي إلهي جنّة.. فيها هنائي..

كانت وفاة العرادة لفتةً  وعظَنا بها صاحبها حيًّا وميّتا، وهبنا الله إياها كتلك الإشارات الكثيرة التي نمر وتمر بنا يوميًّا، وتذكرنا بأنّ الحياة مهما ظنناها طويلة إلا أنها أقصر مما نتخيل

الكلماتُ والمعاني رقيقة بل حتى قد يجدها البعض لا تتلاءم مع خشونة الواقع الذي يتجه باطّراد نحو إعلاء الرسوم والمباني على حساب المعاني، ويقضي على تلك المساحة المعتدلة بين المعنى والمبنى، والروح والمادة، والأثر والاسم، وقد يراها البعض الآخر فسحةً للسوداوية ويعلّق عليها مآلات الفكر الإسلامي المتطرف اليوم بطريقة لا أجد لها تفسيرًا إلا توظيفًا خاطئًا للعمل وليس خطأ في العمل ذاته.

 

وإن كانت الأعمال الفنية تتجه في مرحلة سابقة إلى نكران الذات والأنا وتتسم بالحزن، إلى شطط الكثير منها إلى مرامي مغالية في التطرف وهدم الآخر وعلّة الحياة، فإننا الآن أمام حالة مشابهة من التطرف، ولكن على صعيد التشبث بالحياة والانطلاق فيها بالأنا المضخمة على رميم النحن، لذلك أعادتنا "فرشي التراب" و"يارجائي" إلى المواجهة الجديدة مع النفس والرب وحقيقة الحياة. شئنا أم أبينا، فحياتنا مهما طالت أم قصرت إلى زوال، ولا ينفي ذلك حرصنا على العيش والارتقاء والسعي والبناء فيها، كما لاينفي الأخير هذا حقيقة "الموت" و"طلب الرجاء"..

 

كانت لفتةً إذن وعظَنا بها صاحبها حيًّا وميّتا، وهبنا الله إياها كتلك الإشارات الكثيرة التي نمر وتمر بنا يوميًّا وتذكرنا بأنّ الحياة مهما ظنناها طويلة إلا أنها أقصر مما نتخيل، تمامًا كرحلتك إلى أهلك ووطنك من بلد الغربة صيفًا، تقضي معهم الشهر والشهرين أو لنقل الثلاثة وحين تحين لحظة الوداع تقول: ويحي ما لبثت إلا أياما معدودة!

 

بين الفناء والبقاء

ثمة أشياء عندما تحدث، نعرف منها كم أننا ضعفاء، وأنه لا طاقة لنا دون الله، وأنّ تلك الآمال الطويلة بين كافه ونونه مرهونة. ثمة أشخاص لمّا نفقدهم نهابُ أن نرى أثرهم ثانية لعمق أثرهم فينا! لأنهم لامسوا منّا تلك المساحات العميقة.. العميقة جدًا. بقدر الأثر والتصاقِ المعنى ستهاب فتحَ خزائنهم، شمّ ثيابهم، تصفحَ أوراقهم، قراءةَ حروفهم، سماعَ أصواتهم وكلماتهم وأنغامهم. ستهاب كل ذلك لأنه يضعك في الصورة الأولى يوم كنت متجردًا أمام أثره فيك!

 

يرحلون.. ونؤمن أكثر، أن أصحابَ الأثر، يسبقوننا وأثرهم يتوالد فينا وعلى ألسنتنا دعاءً لهم وذكرا! اللهم ارحم كل من رحلوا وتركوا فينا معنًى جميلًا
يرحلون.. ونؤمن أكثر، أن أصحابَ الأثر، يسبقوننا وأثرهم يتوالد فينا وعلى ألسنتنا دعاءً لهم وذكرا! اللهم ارحم كل من رحلوا وتركوا فينا معنًى جميلًا
 

يرحلون..

ونزداد وحشة.. يا ترى ماذا يرون الآن؟

يرحلون..

ونزداد يقينًا.. كم هي قصيرة إذ ظنناها طويلة!

يرحلون..

ونؤمن أكثر، أن أصحابَ الأثر، يسبقوننا وأثرهم يتوالد فينا وعلى ألسنتنا دعاءً لهم وذكرا!

اللهم ارحم كل من رحلوا وتركوا فينا معنًى جميلًا،

اللهم اجعلنا ممن أحسنوا فعلًا وقولًا حتى نلقاك وأنت عنّا راضٍ.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان