ينخدع كثير من المثقفين بشبهات الخطاب العلماني حول قضية الحاكمية، فهم ينتقدون شمولية الحكم بالشريعة ويتهمون الخطاب الديني بأنه أهدر السياق عند تأويله لآيات الحاكمية. ويستدل د. نصر أبو زيد على ذلك في كتابه "النص والسلطة والحقيقة" بثلاث دلالات، نناقشها كنموذج لتلك الشبهات:
الدلالة الأولى: اجتزاء النص والوقوف عند فواصل بعض آياته، على طريقة الوقوف على ﴿لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ﴾، حيث تم الوقوف عند قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾، ﴿الظالمون﴾، ﴿الفاسقون﴾، وفي هذا تجاهل لسياق الآيات من (41-50) على أساس أنها تمثل وحدة سردية واحدة.
والجواب: هذا قياس فاسد، ووجه فساده أن قوله تعالى: ﴿لا تقربوا الصلاة﴾ متصلة بما بعدها لفظًا ومعنى، فالجملة لم تتم والمعنى منقوص. أما قوله تعالى: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله..﴾ فجملة تامة المعنى، بل ومن ألفاظ العموم، وأتت على المعهود من القرآن، في تعميم الأحكام بعد الخطاب الخاص، كقوله تعالى في شأن الحجارة التي أرسلها على قوم لوط: ﴿مسومة عند ربك﴾، ثم قال: ﴿وما هي من الظالمين ببعيد﴾. وكقوله تعالى: ﴿كذلك نجزي كل كفور﴾. فهذه الفواصل تحمل من ألفاظ العموم ما يفيد السامع بمنع اختصاص الأحكام بما ورد في سياق الآيات من أفراد أو طوائف بل هي عامة في كل من تحقق بالوصف المشترك الذي علقت عليه تلك الأحكام.
أسباب النزول "آيات القرآن" لا تكفي وحدها لتخصيص الدلالة العامة للفظ القرآني، فآية التيمم لها سبب نزول، فهل نقصـر الحكم فيمن نزلت فيه الآية؟ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما سبق بيانه. |
الدلالة الثانية: التوسيع الدلالي لصيغة الفعل "يحكم"، بحيث يدل على المفهوم السياسي الحديث للحكم، المفهوم المرتبط بالدولة الحديثة، التي تعتمد في بنائها على مؤسسات المجتمع المدني، وفي هذا التوسيع ما فيه من إهدار النظام اللغوي للنص، الذي تدور صيغة "حكم" فيه في دائرة دلالية تعنى الفصل بين الخصوم في مشكلة خلافية جزئية.
والجواب نجمله في النقاط التالية:
أولًا: أليس هذا الخلط بين الوسائل والغايات، أو الآليات والأهداف، يعد تلبيسًا على القارئ، واستخفافًا بعقله؟! فمن المعلوم أن إنشاء مؤسسات المجتمع المدني يعد من قبيل الوسائل، التي يتوصل بها إلى تحقيق العدل، الذي هو غاية الحكم. أفتختلف تلك الغاية من زمان لآخر أم الوسائل هي فقط التي تختلف؟ وهل يوجد من يرفع شعار "إن الحكم لله" بقصد إلغاء مؤسسات المجتمع المدني؛ لأنها لم تكن موجودة في عهد النبوة؟ اللهم لا، إن من يرفع شعار "إن الحكم لله" إنما يقصد أن تسري في الخلق أحكام الله، التي أمر بها في كتابه وفي سنة نبيه، وهذا يختلف باختلاف طريقة الحكم، فالحكم شيء وطريقة الحكم شيء آخر، وقد أتى الشرع مفصلًا في الأول خلافًا للثاني.
ثانيًا: ما الدليل على أن صيغة "حكم" تدور في دائرة دلالية تعني الفصل بين الخصوم في مشكلة جزئية صغيرة؟ وما حد تلك المشكلة الصغيرة؟ إن أدنى اطلاع على لسان العرب الذي نزل به القرآن الكريم يكشف فساد هذه الفرضية التي عدوها مسلمة؛ فقد جاء في "لسان العرب" لابن منظور: «والعرب تقول: حكمت، وأحكمت، وحكمّت، بمعنى منعت ورددت، ومن هذا قيل للحاكم بين الناس حاكم؛ لأنه يمنع الظلم. قال الأصمعي أصل الحكومة رد الرجل عن الظلم، قال: ومنه سميت حكمة اللجام؛ لأنها ترد الدابة؟». فمهمة أي حكومة، مهما كان شكلها وهيكلها الإداري، هي منع الظلم وإقامة العدل. والعدل هو ما جاء به الله، والحق هو ما أنزل الله على رسوله، ﴿فماذا بعد الحق إلا الضلال﴾.
ثالثًا: الاستدلال بتعلق صيغة "حكم" بالظرف "بين" على أن الحكم يعني الفصل بين المتخاصمين، وأن الحكم مرتهن بقضية جزئية، وأنه لا شمولية في الدلالة للحكم بما أنزل الله، استدلال فاسد، ووجه فساده أن نفس الصيغة ونفس الظرف أتى في سياق الحكم والفصل بين المؤمنين والكافرين يوم القيامة، قال تعالى: ﴿فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (البقرة: 113)، فهل سيحكم الله بينهم في المشاكل الجزئية فقط دون قضايا الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية؟ وهل يمكن أن نعتبر الإيمان والكفر من القضايا الجزئية؟
رابعًا: ماذا سيفعل العلمانيون في قوله تعالى: ﴿وكذلك أنزلناه حكمًا عربيًا﴾ (الرعد: 37)؟ حيث جعل الله تبارك وتعالى القرآن كله حكمًا. إن حكم الله تعالى، كما هو معلوم عند علماء المسلمين، ينقسم إلى قسمين، الأول: كوني قدري، كما في قوله تعالى: ﴿والله يحكم لا معقب لحكمه﴾ (الرعد: 41). والثاني: شرعي، بمعنى الحلال والحرام، فلا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله. وهذا هو محل الاختبار في الدنيا، وينقسم الناس بسببه إلى مطيع وعاص.
الدلالة الثالثة: تجاهل أسباب النزول، التي يعتبرها الدكتور نصر أبو زيد أحد مستويات السياق الخارجي. يقول الدكتور في كتابه المشار إليه: "وهو السياق الذي يكشف الطبيعة السجالية للنص في اشتباكه مع يهود المدينة، أهل كتاب أسبق هو التوراة". والجواب يتلخص في محورين، الأول: مناقشة مدى أثر أسباب النزول في تحديد الدلالة المستنبطة، والثاني: بيان ما وقع فيه نصر أبو زيد من إهدار للسياق.
يكون من المناسب أن تنحى خواتيم الآيات منحى العموم؛ لتؤكد المراد من ذكر فظائع اليهود، وهو عدم السير على خطاهم المردية، والعظة والاعتبار بما حل بهم من العذاب. |
أما المحور الأول: فمن المعلوم أن الأصل في أسباب النزول أنها لا تحصر الدلالة أو تقصـرها على الواقعة التي نزلت بسببها الآيات. أو بعبارة أخرى إن أسباب النزول لا تكفي وحدها لتخصيص الدلالة العامة للفظ القرآني، فآية التيمم لها سبب نزول، فهل نقصـر الحكم فيمن نزلت فيه الآية؟ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما سبق بيانه.
أما المحور الثاني: فإن السياق الداخلي هو الحاكم على السياق الخارجي؛ لأن الدلالة اللفظية هي الأصل، وما عداها قرائن، تساعد في توضيح الدلالة وتعيين المراد. وقد أهدر نصر أبو زيد السياق الداخلي حينما جعل سياق الآيات هو الاشتباك مع يهود المدينة، حيث إن تلك الآيات من (43-47) تدخل ضمن إطار عام يسبقها ويلحقها. هذا الإطار العام هو تقرير وجوب الانقياد لشرع الله والاستسلام لأمره، ومن هنا يفهم ذكر اليهود وتبديلهم للشـرائع على أنه نموذج من التاريخ لمن أمرهم الله فعصوه، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ومن ثم يكون من المناسب أن تنحى خواتيم الآيات منحى العموم؛ لتؤكد المراد من ذكر فظائع اليهود، وهو عدم السير على خطاهم المردية، والعظة والاعتبار بما حل بهم من العذاب. ولنقرأ سويًا الآيتين رقم (38،39)، يقول الله مخاطبًا المسلمين: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما..﴾ فهذا حد من حدود الله فرضه على المسلمين، ثم أعقبه بذكر حال أهل الكتاب الذين بدلوا وغيروا، فحكم الله عليهم بالكفر والظلم والفسوق، ثم خاطب نبيه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ ﴾ ثم أكد في الآية التالية ﴿ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ﴾، فكل ما خالف شرع الله فهو هوى.
وبعد هذا العرض الموجز لسياق الآيات يتبين لنا من الذي أهدر السياق وأسقط المعاني من الخارج، ولوى أعناق النصوص لتوافق معان معدة مسبقًا.