في هذا المكان نرى قوة العقل الباطن وتجبّره حين يثور ويستلم زمام الأمور، فتختل موازين الوعي والمنطق وتغيب الأعراف وواضعوها. ولا يبقى إلا الجنون الذي يسكن كل واحد منا لكن لا يراه الآخرون لوجود ألف حاجز وحاجز ورقابة صارمة تمنعه من أن يطفو على السطح. ولو أطلق الناس العنان لأنفسهم غير آبِهين بالقوانين وأعراف العقل والمجتمع لأصبحنا شعوبا من المجانين مع تفاوت في الدرجات.
تخيل لو أنك تفصح عن كل فكرة تجول بخاطرك دون توقف ودون اعتبار لأي شيء، كيف سترى نفسك وكيف سيراك الآخرون؟ هذا يدفع المرء إلى التفكر في عبثية الكثير مما يحدث لنا وما نؤمن به وما بإمكانه الوقوع في أية لحظة ونحن نثمل بوهم تحكمنا التام في ذواتنا بوعيها ولاشعورها.
في عنبر الأمراض النفسية.. تدور قصص لا تحكى أبدا، تبقى حبيسة الجدران وساكنيها، معتقة في قناني العيب والعار ولا يجرؤ أحد على الحديث عنها أو عن هؤلاء. |
قد نفقد السيطرة في أية ثانية دون سابق إنذار، وفقدان السيطرة على مستوى اللاشعور يجعل منك أحمقا في نظر عائلتك وأصدقائك وكل الذين يصادفونك من قريب أو بعيد، أحمقا وليس مريضا، أحمقا ربما لا يشفى أبدا.
هناك احتمال فعلي ألا يشفى المريض النفسي أبدا أو أن تزيد أعراضه قوة فيزيد مرضه تطرفا، لكن ليس السبب أن أمراض النفس لا تشفى-رغم أن أغلبها "مزمن" لكن يمكن حد الأعراض وتحقيق استقرار كلي أو جزئي- بل لأن السبب الحقيقي وراء ظهور المرض لم يعثر عليه بعد والعقاقير كثيرا ما تنهزم أمام جبروت الألم والصدمة والحزن العميق الذي يكسر الروح ويهوي بها إلى قعر الجحيم، جحيم التيه والضياع ودوامات لا تعرف كيف تخرج منها، خصوصا إذا كان السبب دفينا ولم يتم الوصول إليه بل تم فقط ترويض الأعراض قليلا.
هناك، تدور قصص لا تحكى أبدا، تبقى حبيسة الجدران وساكنيها، معتقة في قناني العيب والعار ولا يجرؤ أحد على الحديث عنها أو عن هؤلاء. وأقرباؤهم، أجل أقرباؤهم ترى على وجوههم تعابير لا يُسبر قعرها، ألم ومعاناة وبعض أمل مجهول معلق بقرارات الأطباء وتوجيهاتهم.
لكن ما لا يمكنك التغاضي عنه هو نهر الحب المُوجع الذي لا ينضب، رغم كل الألم ووقاحة المجتمع وتفاهاته تراهم كالجبال لا تتزحزح قواعدها يشقون بالصبر دروب أمل في دجى الألم. يؤازرون ذويهم حتى النهاية، تارة يبتسمون ويضحكون وتارات يشهقون وجعا ينبعث من كل شرخ في أعماق الروح.
لدي مريضة أوكلتها إليّ الطبية المشرفة علينا-نحن طلبة الطب- تفقدني توازني. فالطبيبة المقيمة تخبرني أن التشخيصات التي آل إليها تفكيري صائبة، وثقتها في التحليل جعلتني أثق بدوري فيه لكن الأمر زاد غموضا في رأسي وأمسى يحيرني جدا.
ربما لأنني ما زلت في بداياتي وتعوزني التجربة ونفاذ البصيرة أو أن التفكير في أسباب الأمور وبواعثها قد يفقدك صوابك أو لربما يوصلك إلى طريق جديد. أترك العنبر عند الظهيرة وتبقى الأفكار تتلاعب بي: لماذا وكيف وماذا لو؟ وأسئلة مستعصية جدا أحس معها قصورا شديدا في فهمي وحدسي.
مريضتي لا تظهر أية ظواهر غريبة أو متطرفة تجعلك تثق في تحلليك وتمضي في ذلك الاتجاه، هي طبيعية "إلى حد ما". تستقبلني كل صباح، بل وتبحث عني إذا ما تأخرت وتناديني بابنتي وبصدق تنظر إلى أعمق ما فيّ، وتكمل معي حديثا سلسا يبدأ حيث انتهينا في اليوم السابق وتجيب عن أسئلتي برزانة حتى أنها تجيب عن أكثرها لفا ودورانا وبثقة أبدا لا أجرؤ على مناقشتها.
والأمور استعصت عليّ أكثر يوم التقيت زوجها، شخص مهذب ورصين وطيب الخُلق، قبِل أن يتحدث إليّ رغم معرفته أنه يساعدني أكثر مما قد أساعده. ما لم أتوقعه هو أن يمطرني بوابل من الأحداث والتفاصيل التي ستقلب موازيني. لم يفاجئني كثيرا كون مريضتي مصابة بانفصام الشخصية بل فاجأني كون ماضيها طبيعيا جدا ولم تشبه أية مآس أو انتكاسات كانت لتكون نقطة البداية والشرارة التي أيقظت المرض، وحجر الزاوية في فهم السبب وراء الأعراض والتصرفات الغريبة.
الأمر الذي يصعب الأمور في اختصاص الأمراض النفسية هو كون الحقيقة أحيانا مجهولة ومعلقة بخيط رفيع يتأرجح بين حكايات المريض وأقربائه. |
فيأتي السؤال ملحا محيرا: لماذا؟ أليس لكل نتيجة سبب؟ هادئا كان وهو يحكي لي مأساة دامت أربع عشرة سنة، بين تحسن وانتكاسة، اختار فيها زوجتَه في كل مرة بانفصامها ومعاناتها وهزالها واتهامها إياه بأنه سبب فجائعها.
حين صارحتُه بما تقوله زوجته عنه وبأن أقوالها لا تبدو أبدا كاذبة أو مجاورة للصواب والمنطق، سألني: أما كان في استطاعتي أن يتخلى عنها؟ ولمعت دمعتان يتيمتان في مآقيه ثم استرسل مسائلا: أأنا أتخلى عنها؟ تحرك شيء ما في داخلي لكن كان يجب أن اتّزن وألتزم بقواعد المهنية، اعتدلت في مجلسي وأطرقت أستمع لقصة جالت بي في ربوع الحيرة بكل دهاليزها وشعابها..
الأمر الذي يصعب الأمور في هذا الاختصاص هو كون الحقيقة أحيانا مجهولة ومعلقة بخيط رفيع يتأرجح بين حكايات المريض وأقربائه -هذا حين تكون أعراض المريض لا تسمح بتقييمه سريريا- والصعوبة الأخرى تظهر عندما تحاول فهم السبب وراء المرض ولا تجد سببا أو بالأحرى لا يتجلى لك.
مروري من هنا لم يكن دون أثر، فقد جعلني أعيد النظر في كثير من أفكاري. وفكرة ربما سترافقني دوما هي أن الحد الفاصل بين التعقل والجنون رفيع جدا إلى حد مرعب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.