المجد العلمي للمرأة في الحضارة الإسلامية.. 270 فقيهة بمكة و54 شيخة للإمام ابن حَجر وجادلت كبار العلماء وخطبت على المنابر
ترجم الحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) -في كتابه ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘- لـ170 محدِّثة منهن 54 شيخة له، وقال الإمام نجم الدين ابن فهد المكي (ت 885هـ/1480م) إنه أخذ العلم عن 130 شيخة، ولتلميذه الإمام السخاوي (ت 902هـ/1496م) حوالي 85 شيخة ذكرهن في كتابه ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع‘، وشيخات معاصره الحافظ السيوطي (ت 911هـ) يصلن إلى 44 شيخة.
هذه الإحصاءات الرقمية تؤشر إلى رسوخ حضور النساء في الحياة العلمية الإسلامية وقوة تأثيرهن في أوساطه، كما توضح تلك العينات النسائية المكثفة -المترجَم لها من قبل أولئك الأعلام- حرصَ المجتمع العلمي على إبراز ذلك الإسهام النسوي المعرفي وتوثيقه والتنويه باتساعه، ومن ثم فإن الحديث عن "الموَّقِّعات عن الله" من أهل الفتوى والدراية العلمية النسوية سوف يجد له مسوِّغاً ومتَّسعاً لمتانة القاعدة العلمية للنساء في الحضارة الإسلامية، وكذلك لقبول مجتمع الرجال بهذا الوجود العلمي النسوي بل والاعتزاز به وبالأخذ عن ربّاته.
وبالتالي فإن حضور المفتيات والفقيهات في المجال العام الإسلامي كان جزءاً من هذا الكل المعرفي النسائي الزاخر، حيث لم يخلُ قُطر من أقطار الإسلام في عصر من العصور من فقيهات "موقِّعات عن الله". ولعل من أسباب هذا الحضور المتميز أن تمكين النساء لم يكن ينتظر قرارا سياسيا، ولا سلطة تُصدر قانونا يرخص لهن بممارسته والتمتع بميزته، لأنه لا حجر شرعيا في الأصل على النساء في التعلم والتعليم، بل ثمة واجب مُلقى عليهن في طلب العلم ونشره، وأيضا فإن إطلالات المرأة العلمية كان مستندها العملي الرئيس الخبرات العلمية لأمهات المؤمنين ونظيراتهن من الصحابيات العالمات وتلميذاتهن من النساء التابعيات.
فقد كنّ جميعهن من الركائز المعرفية التي قامت عليها مبكرا نهضة العلوم الإسلامية بما فيها من رجال العلم ونسائه، وانطلاقا من تلك الدفعة العلمية الكبيرة في عصر الصحابيات والتابعيات تجذرت تلك المشروعية لنشاط المرأة المجتمعي بما فيه إسهامها المعرفي؛ فقد نقل الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) أن "الذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله ﷺ مئة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة"، وذكر منهم نحو اثنتين وعشرين مفتية.
وإذا كانت بعض المناصب الشرعية -مثل القضاء- تحتاج إذنا سياسيا حتى لمتولِّيها من الرجال؛ فإن ممارسة الإفتاء خاصة والتعليم عامة لا يحتاج إلى إذن لا للرجل ولا للمرأة، ويكفي فقط أن يُعرف ممارِسه أو ممارِسته بالكفاءة والنزاهة داخل المجتمع العلمي، كما أن نفاذ الرأي العلمي لا يعود إلى جنس القائل بل إلى قوة حجته واستقامته الشرعية.
وهذه الشروط الموضوعية هي التي أهلت الحضارة الإسلامية لأن تكون فضاء خصبا لمئات من الفقيهات والمفتيات والمحدِّثات والأديبات والشاعرات… إلخ، حيث تشير الأرقام إلى أن عدد الفقيهات اللائي كانت لهن علاقة بمكة المكرمة -إقامةً أو جوارا أو زيارة خلال القرن التاسع الهجري/الـ15م وحده- بلغ زهاء 270 فقيهة!!
لكن رغم هذا الحضور الراسخ للنساء في الأوساط المعرفية الإسلامية فإن كتب الفقه أهملت ذكر أقوالهن الفقهية ومذاهبهن، ما عدا أقوال أمهات المؤمنين -وبالأخص عائشة- وبعض نساء صدر الإسلام. وثمة أسباب عدة لهذا الإهمال لعل أشهرها زهد الكثير من الفقيهات في الكتابة والتأليف العلمي، وأسباب أخرى تتعلق بمناهج الفقهاء وتعاملهن مع "المشهور" من الأقوال العلمية والآراء الفقهية، وهو ما كان متعذِّرا على النساء في ظل ظروف المجتمعات الإسلامية القديمة؛ فكل ذلك جعل الغلبة للرجال على النساء في ذكر الرأي الفقهي المدوَّن.
ومع تلك الجوانب السلبية التي اعترت المسيرة العلمية لمعظم "الموقعات عن رب العالمين" فإن تأثيرهن في العقل المعرفي الإسلامي ظل حقيقة لا تُنكَر، بل تُذكَر موثَّقة بالتدوين ومعضَّدة بالأسانيد المعتمَدة والمسلسَلة بأئمة الرجال قبل النساء!! ومن ثم فإنه لا مسوِّغ للجدل الذي يحتدم أحيانا في البلاد العربية والإسلامية بشأن تعليم المرأة المسلمة، أو تعيين دُورِ ومؤسساتِ الإفتاء الرسمية نساءً "مفتياتٍ" بين مؤيد ومعارض؛ وهو جدل عززته عوامل متعددة بينها تحكّمُ سلطان العادة باعتبار أغلب المفتين والفقهاء عبر التاريخ كانوا رجالا، وكذلك الخلطُ في أذهان الناس بين وظيفتيْ الإفتاء والقضاء، حيث دار خلاف بين الأقدمين في جواز تولي المرأة منصب القضاء، ولم تكن الفتوى كذلك.
وتلك العوامل هي ما يجعل الحاجة قائمة للعودة إلى أيام المجد العلمي للحضارة الإسلامية؛ لكشف العلاقة الوثيقة التي قامت بين النساء والإفتاء والفقه وشتى فنون العلم الشرعي، والتعرف على مظاهر تلك العلاقة تنظيرا وممارسة. وذلك تحديدا ما تسعى إليه هذه المقالة -التي وثّقت بالأسماء الإسهامَ العظيم لـ20 شخصية من نساء العلم والفتوى- راصدةً تجليات التأثير النسوي في الحياة العلمية للمجتمعات الإسلامية، وما كُنّ عليه من حضور بارز ومتميز زاحمن به الأئمة من الرجال، بل وأسهمن به -أحيانا كثيرة- في تكوين هؤلاء الأئمة.
إفتاء نسوي مبكر
يطلق الإمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ/1350م) مصطلح "التوقيع عن الله" على ‘صناعة الفتوى‘ التي أشبعها بحثا في كتابه ‘إعلام الموقعين عن رب العالمين‘. وللفتوى وممارستها شروط لخصها لنا الإمام النووي (ت 676هـ/1277م) بقوله في ‘آداب الفتوى والمفتي والمستفتي‘: "شَرط الْمُفْتِي كَونه مُكَلّفا مُسلما ثِقَة مَأْمُونا، متنزِّها عَن أَسبَاب الْفسق وخوارم الْمُرُوءَة، فقيهَ النَّفس سليمَ الذِّهْن رصينَ الفِكر صَحِيح التَّصَرُّف والاستنباط متيقظاً، سواءٌ فِيهِ الحرُّ وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة". فمدار الفتوى إذن في الإسلام يرجع فقط إلى الملكة العلمية، والوازع الأخلاقي، وصحة النظر والاستنباط.
ولم يكن التصدي للإفتاء في التاريخ الإسلامي يحتاج إلى قرار سياسي بالتعيين عكس القضاء، لأن الفتوى في تعريفات الفقهاء هي: "الإخبار بالحكم الشرعي لا على وجه الإلزام"، كما لم يكن الإخبارُ بالحكم الشرعي يحتاج إلى إذنٍ إلا من علماء يشهدون للتلميذ والتلميذة باستحقاقهما لهذه الدرجة العلمية، التي يطلق على صاحبها في اصطلاحهم لقب "المفتي" أو "العالم" أو "الفقيه". ولم يكن إطلاق الألقاب عند الأقدمين سهلا، خصوصا الألقاب التي تترتب عليها مسؤوليات بحجم الفتوى التي يتحمل صاحبها مسؤولية "التوقيع عن رب العالمين".
ولذا نجد الإمام القاضي عياض اليحصبي (ت 544هـ/1149م) يقول في ‘ترتيب المدارك‘: "لا نرى أن يُسمَّى طالبُ العلم فقيهاً حتى يكتهل، ويكمل سنه، ويقوى نظره، ويبرع في حفظ الرأي، ورواية الحديث وتبصُّره، ويميز طبقات رجاله، ويحكم عقد الوثائق، ويعرف عللها، ويطالع الاختلاف، ويعرف مذاهب العلماء والتفسير ومعاني القرآن؛ فحينئذ يستحق أن يسمى فقيهاً، وإلا فاسم ‘الطالب‘ أليق به". ومن هذا نعلم أن كل امرأة موصوفة بالفقه في كتب التراجم تستحق الإفتاء، كما نصت هذه الكتب على أن نساء كثيرات تولين الإفتاء.
وقد ذكر العلامة ابن القيم أن "الذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول الله ﷺ مئة ونيف وثلاثون نفسا، ما بين رجل وامرأة"، وذكر منهم نحو اثنتين وعشرين مفتية، وهن حسب ترتيب فتاواهن قِلةً وكثرةً: أم المؤمنين عائشة، وأم المؤمنين أم سلمة، وأم عطية، وأم المؤمنين صفية، وأم المؤمنين حفصة، وأم المؤمنين أم حبيبة، وليلى بنت قانف الثقفية، وأسماء بنت أبي بكر، وأم شَريك، والحولاء بنت تُوَيْتْ الأسدية، وأم الدرداء الكبرى، وعاتكة بنت زيد بن عمرو، وسهلة بنت سهيل، وجويرية أم المؤمنين، وميمونة أم المؤمنين، وفاطمة بنت رسول الله ﷺ، وفاطمة بنت قيس، وزينب بنت أم سلمة، وأم أيمن الحبشية حاضنة رسول الله ﷺ، وأم يوسف وهي حبشية كانت تخدم رسول الله ﷺ، والغامدية.
والباحث في تاريخ الإفتاء عبر العصور الإسلامية يدرك أن هذا العدد -بنسبته المئوية المرتفعة- من "الموقعات عن رب السماوات" يعكس مدى حضور المرأة ودورها فقها وإفتاءً في العصر النبوي، وهذا الحضور أو الازدهار يؤكد لنا مقولة عبد الحليم أبي شقة (ت 1416هـ/1995م) التي جعلها عنوانا لموسوعته الرائدة: ‘تحرير المرأة في عصر الرسالة‘.
المرأة وصناعة الفتوى
تجلَّى حضور النساء النوعي بين ممارسي الإفتاء في القرن الأول الهجري/السابع الميلادي في فقه أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ/679م) التي عدها مؤرخو الفتاوى ضمن الصحابة السبعة المكثرين في "التوقيع عن الله"، وذلك لأنها كانت "أفقه نساء الأمة على الإطلاق"؛ كما وصفها ابن القيم في ‘إعلام الموقعين‘.
وقال عنها الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘سير أعلام النبلاء‘: "لا أعلم في أمة محمد ﷺ -بل ولا في النساء مطلقا- امرأة أعلم منها". ولأنها أيضا حسبما أثبته صاحب ‘الطبقات الكبرى‘ ابن سعد البصري (ت 230هـ/845م) "استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر (ت 13هـ/635م) وعمر (ت 23هـ/645م) وعثمان (ت 35هـ/656م) وهَلُمَّ جَرًّا إلى أن ماتت"، و"كان الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ عمر وعثمان بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السُّنن"، وذكر الذهبي 177 ممن "حدث عنها" فيهم 18 امرأة والبقية من الرجال صحابة وتابعين.
كان لقرب عائشة -رضي الله عنها- من رسول الله ﷺ دور كبير في كثرة مروياتها حديثا وإفتاء، وقد أكثرت من رواية الأحكام الفقهية حتى قال الحاكم النيسابوري (ت 405هـ/1015م) -فيما ينقله عنه الإمام بدر الدين الزركشي (ت 794هـ/1396م) في كتابه الآتي ذكره- أنها "حُمل عنها رُبع الشريعة".
وحسب إحصائية أوردها الذهبي -ضمن ترجمة عائشة في ‘سير أعلام النبلاء‘- فإن مجمل "«مسند عائشة» يبلغ: ألفين ومئتين وعشرة أحاديث (2210)، اتفق لها البخاري ومسلم على: مئة وأربعة وسبعين حديثا (174)، وانفرد البخاري بأربعة وخمسين (54)، وانفرد مسلم بتسعة وستين (69)"، وهو ما يعني أن مجموع أحاديثها في الصحيحين 297 حديثا "لم تُخرِّج غير الأحكام منها إلا يسيرا"؛ طبقا للإمام المحدِّث بدر الدين العَيْنى (ت 855هـ/1451م) في ‘عمدة القاري شرح صحيح البخاري‘.
ومجمل مرويات عائشة من صحيحيْ البخاري ومسلم حوالي "مئتين ونيفا وسبعين حديثا لم تخرج غير الأحكام منها إلا يسيرا"، وجمع الشيخ سعيد فايز الدخيل فقهها وفتاواها في مجلد ضخم سماه: ‘موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين.. حياتها وفقهها‘.
وقد اشتهرت عائشة بفتاوى استقلت بها وآراء فقهية انفردت بها، ومن ذلك انفرادها بفتوى عدم التفريق بين ولد الزنا وغيره في إمامة الصلاة ما دام هو الأقرأ لكتاب الله والأفقه في الشرع، إذْ ترى أنه "ليس عليه من خطيئة أبويه شيء، ﴿وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾؛ (سورة فاطر/ الآية: 18)"؛ وفقا لما نقله عنها ابن أبي شيبة (ت 235هـ/849م) في كتابه ‘المُصَنَّف‘.
ومن انفراداتها النسوية قولها بجواز سفر المرأة بدون محرم مطلقا إذا أمنت على نفسها من الفتنة، فقد روى ابن أبي شيبة "عن الزهري [أنه] قال: ذُكر عند عائشة المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، فقالت عائشة: ليس كل النساء تجد محرما". ويلاحظ الشيخ سعيد الدخيل -في كتابه عن فقه عائشة المذكور سابقا- أن كثيرا من فتاواها "ينطلق منها بصفتها أنثى فقيهة متميزة، لأنها عاشت مع الرسول ﷺ تحت سقف واحد، وعلمت منه ما لم يعلمه غيرها من الرجال".
لم يكن دور عائشة الفقهي مقتصرا على الإفتاء والتحديث بالسنن فحسب؛ بل كانت تناظر الصحابة وتستدرك على فتاوى كبارهم مثل أبيها أبي بكر الصديق وعمر الفاروق؛ وقد جمع الإمام الزركشي (ت 794هـ/1392م) استدراكاتها على الصحب الكرام في سفر ممتع بعنوان: ‘الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة‘. كما خرَّجت عائشة مفتياتٍ مارسن الإفتاء بعدها، وأخذ عنها الفقه والعلم خلق كثير بعضه من نساء أهل بيتها مثل: أختها أم كلثوم وحفصة بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر (ت 58هـ/679م).
وطبقا للذهبي في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘؛ فإن ممن تخرجن على يد عائشة وحملن راية الإفتاء بعدها: "عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية (ت 98هـ/718م)… تريبة عائشة وتلميذتها…، وكانت عالمة فقيهة حجة كثيرة العلم"؛ و"صفية بنت شيبة (ت نحو 86هـ/706م).. الفقيهة العالمة أم منصور القرشية". ومنهن "أم الدرداء الصغرى.. الفقيهة (ت بعد 81هـ/701م)، واشتهرت بالعلم والعمل والزهد"، وقد اتفق العلماء "على وصفها بالفقه والعقل والفهم والجلالة"؛ كما يقول الإمام النووي في ‘تهذيب الأسماء واللغات‘.
عالمات يخرّجن المشاهير
في عهد التابعين؛ اشتهر في المدينة النبوية سبعة علماء أجلاء بلقب فقهاء المدينة السبعة، وتفيدنا كتب التراجم بأخذ كل واحد من هؤلاء السبعة المشاهير العلمَ عن فقيهات؛ فسعيد بن المسيّب (ت 94هـ/714م) أخذ عن عائشة وأم سلمة؛ وعروة بن الزبير (ت 74هـ/694م) أخذ عن أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق (ت 73هـ/693م) وعن خالته أم المؤمنين عائشة التي "لازمها وتفقه بها"؛ كما في ‘سير أعلام النبلاء‘للذهبي الذي يذكر أيضا أن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (ت 107هـ/726م) تربّى "في حِجر عمته أم المؤمنين عائشة وتفقه منها وأكثر عنها"؛ وسابعهم الفقيه الشاعر عُبيد الله بن عبد الله الهذلي (ت 98هـ/718م) أخذ العلم عن عائشة وأم سلمة.
لم يُؤثر عن الأئمة الأربعة تعلمٌ ذو بال على أيدي النساء؛ إلا أن إمام المدينة مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) أخذ عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص (عائشة الصُّغرى المتوفاة 117هـ/736م)، وأخذت عنه هو ابنته فاطمة التي ذكرها الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842هـ/1440م) في رواة ‘موطأ‘ أبيها، وقال: "كانت لمالك ابنة تحفظ علمه…، وكانت تقف خلف الباب فإذا غلط القارئ [من طلبته] نقرتْ الباب فيفطن مالك فيرد عليه". وكان سبب انصراف الإمام الأعظم أبي حنيفة (ت 150هـ/768م) إلى الفقه والفتوى سؤال وجهته إليه امرأة.
وفي العصور اللاحقة نجد أن شخصية فقهية عظيمة مثل الإمام أبي محمد ابن حزم الأندلسي (ت 456هـ/1065م) -الذي عُرف بمذهبه الظاهري وتفننه في سائر العلوم- يحدثنا -في كتابه ‘طوق الحمامة‘- عن دَور النساء في تكوينه العلمي الأولي؛ فيقول: "ولقد شاهدتُ النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن…؛ وهن علمنني القرآن، وروينني كثيراً من الأشعار، ودربنني في الخط". وهذه الصحبة المبكرة من هذا العلَم الفذ للنساء جعلته أحد أكابر محللي النفس البشرية في التاريخ القديم، وخصوصا الأمور المرتبطة بالنساء.
وحين نتّجه شرقا -في القرن الخامس الهجري/الـ11م نفسه- نجد رجلا بحجم "حافظ المشرق" الإمام الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) يسمع الحديث من الفقيهة المحدثة طاهرة بنت أحمد التنوخية (ت 436هـ/1045م)، وقد ترجم الإمام ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) -في كتابه ‘معجم النسوان‘- لـ80 شيخة تتلمذ عليهن.
وقال الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- إن الحافظ السِّلَـفي (ت 576هـ/1180م) "سمِع من النساء بأصبهان… ولم يسمع ببغداد من النساء سوى ثماني شيخات"، وجمع أحد طلابه معجما لشيخاته؛ والإمام الذهبي نفسه روى عن عدة نسوة ذكرهن في معجم شيوخه.
كما صرّح الإمام عمر بن فهد المكي الهاشمي (ت 885هـ/1480م) بالأخذ عن 130 شيخة، وترجم -في كتابه ‘الدر الكمين بذيل العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين‘- لـ286 امرأة كانت معروفة في المجال العام بمكة المكرمة، وكثير منهن شيخات لعدد من أعلام العلماء. كما ترجم -في كتابه ‘الدر الكمين بذيل العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين‘- لـ286 امرأة كانت معروفة في المجال العام بمكة المكرمة، وكثير منهن شيخات لعدد من أعلام العلماء.
وترجم الحافظ ابن حَجَر العسقلاني (ت 852هـ/1448م) لـ170 محدثة في كتابه ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘ منهن 54 شيخة له، وفي كتابه ‘التقريب‘ ترجم لـ824 امرأة ممن اشتهرن بالرواية. ولتلميذه السخاوي (ت 902هـ/1497م) حوالي 85 شيخة ذكرهن في ’الضوء اللامع لأهل القرن التاسع’، وشيخات معاصره الحافظ جلال الدين السيوطي (ت 911هـ/1505م) يصلن 44 شيخة.
وإذا كان الإمام ابن شهاب الزهري (ت 124هـ/743م) قد اشتُهر عنه قولُه: "الحَدِيثُ ذَكَرٌ يُحِبُّهُ ذكور الرِّجَالُ وَيَكْرَهُهُ مُؤَنَّثُوهُمْ"، حسبما يرويه ابنُ قُتيبة الدِّينَوَري (ت 276هـ/889م) في كتابه ‘تأويل مختلف الحديث‘؛ فإن الإمام الذهبي رسّخ في أذهان الناس مقولته في ‘ميزان الاعتدال‘: "وما علمتُ في النساء مَنْ اتـُّهِمتْ [بوضع الحديث] ولا مَنْ تَرَكوها" لعلة في روايتها.
وهاتان المقولتان تعبِّران عن زمانيْ قائليْهما ثقافيا؛ ففي زمن الزهري كان الحديث صنعة متمحّضة للرجال، وفي زمن الذهبي انتشرت المحدِّثات في العالم الإسلامي، وخصوصا في الأسَر العلمية لأن الرحلة في طلب العلم والحديث لم تكن متاحة لربات الخدور.
ولغة الأرقام تقول إن عدد المحدثات -في القرنين السابع والثامن الهجرييْن/الـ14 والأ15م- وصل في مصر والشام حوالي 334 محدِّثة، أخذ عنهن مشاهير المحدّثين في ذلك العصر ممن ضربنا لهم الأمثال بابن عساكر وابن حجر وغيرهما؛ وعموما لا يوجد مشتغل بالحديث في تلك العصور إلا وأخذ -على الأقل- عن امرأة محدّثة.
مفتيات عبر القرون
وإذا تطرقنا إلى مجال الفقه وصناعة الفتوى تحديدا؛ فسنجد أنه لم يخلُ قُطر من أقطار الإسلام في عصر من العصور من وجود نساء "موّقعات عن الله"؛ ففي القرن الثالث الهجري نلاقي في القيروان "فقيهتَيْ تونس" -حسب تعبير المؤرخ للثقافة التونسية حسن حسني عبد الوهاب الصمادحي (ت 1388هـ/1968م)- الأولى: أسماء بنت أسد بن الفرات (توفيت نحو 250هـ/864م) التي تعلمت على يد أبيها وكان عالما إماما وقاضيا عظيما، وشاركت في مجالس المناظرة والسؤال التي كان يعقدها، وتفقهت على مذهب أبي حنيفة الذي كان أبوها خبيرا به رغم شهرة في المذهب المالكي.
أما فقيهة تونس الثانية فهي خديجة بنت الإمام سحنون (توفيت نحو 270هـ/883م) المؤسس الثاني للمذهب المالكي وناشره في الغرب الإسلامي، وصفها مترجم رجال الفقه المالكي القاضي عياض -في ‘ترتيب المدارك‘- بأنها: "من خيار الناس".
وغير بعيد عن تونس وفي العصر نفسه؛ نجد في مصر الفقيهة أخت إسماعيل بن يحيى المُزَني (توفيت 264هـ/878م) -ناصر المذهب الشافعي (ت 204هـ/819م)- التي كانت تنافسه وتناقشه، ومن طريف أثر منافستها له أنه أغفل ذكرها فكانت لا تُعرف إلا بـ"أخت المزني".
وأفاد السيوطي -في ‘حسن المحاضرة‘- بأنها "كانت تحضر مجلس الشافعي"؛ فقد علق الفقيه الشافعي أبو القاسم الرافعي (ت 623هـ/1226م) -في ‘العزيز شرح الوجيز‘- على قولٍ "رواه المزني في ‘المختصر‘ عمن يثق به عن الشافعي"؛ بقوله: "وذكر بعض الشارحين أن أخته روت له ذلك عن الشافعي… فلم يحب تسميتها".
وكما أغفل أخوها المزني اسمها؛ فإن كتب التراجم أهملت أخبارها وتاريخ وفاتها، سوى ما قاله السيوطي من أنها "ذكرها ابن السبكي (= تاج الدين السُّبْكي المتوفى 771هـ/1370م) والإسْنوي (= جمال الدين الإسْنوي المتوفى 772هـ/1370م) في الطبقات"، أي كتاب «طبقات الشافعية» لكل منهما. والظاهر أنها هي والدة الإمام أبي جعفر الطحاوي الأَزْدي الحنفي (ت 321هـ/933م)؛ إذ إن المزني خاله ولم يُذكر له غيرها من الأخوات.
وفي الأندلس؛ ذكر مؤرخها ابن عُميرة الضبي (ت 599هـ/1203م) -في ‘بُغْية الملتمِس‘- فاطمة بنت يحيى بن يوسف المُغامي (ت 319هـ/931م) فوصفها بأنها "عالمة فقيهة ورعة، استوطنت قرطبة وبها توفيت…، ولم يُرَ على نعش امرأة ما رُئي على نعشها" من كثرة المشيعين.
وفي العراق؛ يترجم ابن الجوزي -في ‘المنتظم‘- لأم عيسى بنت إبراهيم الحربي (ت 328هـ/940م) التي "كانت عالمة فاضلة تفتي في الفقه"، ويقول الذهبي -في ‘العِبَر‘- إن أمة الواحد ابنة القاضي الحسين المحاملي (ت 377هـ/988م) "برعت في مذهب الشافعي، وكانت تفتي مع أبي علي بن أبي هريرة" شيخ الشافعية (ت 345هـ/956م).
وفي خراسان بأقصى الشرق؛ تخبرنا كتب التراجم عن أم الفضل عائشة بنت أحمد الكُـمْساني المروزية (ت 529هـ/1135م) التي وصفها أبو سعد السمعاني (ت 562هـ/1167م) -في ‘التحبير في المعجم الكبير‘- بأنها "امرأة عالمة فقيهة…، سمعت جدتها عيني بنت زكريا المكي الهلالي".
وفي القرن نفسه نقرأ عن "العالمة.. التقية شهدة بنت أحمد" الإبَري (ت 574هـ/1178م)، وقد "برعت في العلوم…، اشتهر فضلها في الآفاق ونما بالعراق، ولها مشاركة في كثير من العلوم ولا سيما الفقه..، وكانت تجلس من وراء حجاب وتقرئ الطلاب، وتتلمذ عليها خلق كثير".
ومن أشهر الفقيهات اللاتي مارسن الفتوى وتركن بصمات في المذهب الحنفي: المفتية فَاطِمَة بنت علاء الدين السَّمرقَنْدِي (توفيت نحو 580هـ/1184م) مؤلفِ كتاب ‘تحفة الفقهاء‘ المتوفى 540هـ/1145م، وزَوْجَة الإِمَام عَلَاء الدّين الكاساني (ت 587هـ/1193م) صَاحب كتاب ‘بدائع الصنائع‘.
فمؤرخ طبقات فقهاء الحنفية محمد بن محمد بن نصر الله القرشي الحنفي (ت 775هـ/1373م) يخبرنا -في ‘الجواهر المُضِيَة في طبقات الحنفية‘- أن فاطمة السمرقندية هذه "تفقهت على أَبِيهَا وحفظت مصنفه ‘التُّحْفَة‘.. [و] كَانَت تنقل الْمَذْهَب نقلا جيدا، وَكَانَ زَوجهَا الكاساني رُبمَا يهم في الْفتيا فَتَردهُ إِلَى الصَّوَاب وتعرّفه وَجه الخطأ فَيرجع إِلَى قَوْلهَا.. وَكَانَت تُفْتِي… وَكَانَت الْفَتْوَى أَولا يخرج عَلَيْهَا خطها وَخط أَبِيهَا السَّمرقَنْدِي، فَلَمَّا تزوجت بالكاساني صَاحب ‘الْبَدَائِع‘ كَانَت الْفَتْوَى تخرج بِخَطِّ الثَّلَاثَة"، أي توقيعاتهم.
ألقاب ذات مغزى
ووفقا للأديبة اللبنانية زينب فواز العاملي (ت 1332هـ/1915م) في كتابها ‘الدر المنثور في طبقات ربات الخدور‘؛ فإن فاطمة بنت الإمام السيد أحمد الرفاعي الكبير (ت 609هـ/1212م) كانت "فقيهة في دين الله"، وكذلك المحدِّثة العظيمة زينب بنت عبد الرحمن بن الحسن النيسابورية الشهيرة بـ"زينب الشَّعْرية" (ت 615هـ/1218م)، والتي "أدركت جماعة من أعيان العلماء، وأخذت عنهم رواية وإجازة…، وممن أجازها.. الزمخشري (ت 538هـ/1143م) مؤلف [تفسير] ‘الكشاف‘، وممن أجازتهم من أكابر العلماء العلامة المؤرخ.. قاضي القضاة ابن خلّـكان (ت 681هـ/1282م)". وقد ترجم لها الذهبي -في ‘السِّيَر‘- فقال: "الشيخة الجليلة مُسنِدة خراسان…، وسمِعتُ بإجازتها من جماعة" من المحدِّثين!!
وقد اشتهر القرن الثامن الهجري/الـ14م بكثرة المحدثين والفقهاء الموسوعيين، وتسعفنا الموسوعة التي ترجم فيها الحافظ ابن حجر لأعيان هذا القرن -وهي كتابه ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘- بتراجم لكثير من الفقيهات والعالمات والمحدّثات، كما تقدم. وقد شاع في هذا العصر إطلاق أسماء وألقاب على العالمات ذات دلالة طريفة، ومن تلك الأسماء والألقاب: سِتُّ العلماء، وست الفقهاء، وست القضاة، وست الكَتَبة، وست الوزراء، وست الملوك.
وممن أطلِقت عليهن تلك الألقاب: سِتّ الْعلماء بنت شيخة رِبَاط درب المهراني (ت 712هـ/1312م)؛ وسِتّ الْفُقَهَاء أمة الرَّحْمَن ابْنة إِبْرَاهِيم الصالحية الحنبلية (ت 726هـ/1326م)؛ وسِتّ الْفُقَهَاء بنت الْخَطِيب شرف الدّين العباسي (ت 765هـ/1364م)، حدثت هِيَ وأخوها عَلَاء الدّين مَعَ الْحَافِظ أبي الْحجَّاج جمال الدين المَزِّي (ت 742هـ/1341م) بأجزاء من ‘أمالي الْجَوْهَرِي‘؛ وأختها سِتّ الْقُضَاة بنت الْخَطِيب.
كما ترجم الحافظ الذهبي -في ‘تاريخ الإسلام‘- للمحدِّثة "حُلَلُ بنتُ الشيخ أبي المكارم محمود بن محمد بن محمد بن السَّكَن البغداديّة، وتُدعى ستَّ المُلوكِ (ت 621هـ/1224م)"، وأما في كتابه ‘العِبَر‘ فقد ترجم للمحدِّثتيْن: "ست الملوك فاطمة بنت علي بن علي بن أبي البدر (ت 710هـ/1310م)"، ومعاصرتها "مُسنِدة الوقت ست الوزراء بنت عمر بن أسعد بن المُنْجَى التنوخية (ت 716هـ/1316م)"، والتي وصفها -في كتابه ‘تاريخ الإسلام‘- بأنها "شيختنا ستّ الوزراء"!!
وقد حصر بعض الباحثين عدد الفقيهات اللائي لهن علاقة بمكة المكرمة وحدها إقامةً أو جوارا أو زيارة -خلال القرن التاسع الهجري/الـ15م- فبلغن زهاء 270 فقيهة، وبمطالعة الجزء الأخير من كتاب ‘الضوء اللامع لأهل القرن التاسع‘ يتبين لنا أن عدد النساء اللاتي ترجم لهن السخاوي يصل إلى 1080 سيدة في هذا القرن وحده وممن بلغته أخبارهن، وقد كان معظمهن من الفقيهات المحدثات. وهذا يدل على أن الجهد النسائي في جانب الفقه والفتوى يحتاج لإعادة رصد وتدوين وتقييم.
ومن بين أعيان القرن العاشر الهجري/الـ16م؛ تبرز لنا "الشيخة.. العالمة العاملة" أم عبد الوهاب عائشة بنت يوسف الباعوني الدمشقية (ت 922هـ/1516م) التي اشتهرت بـ"عائشة الباعونية"، ووصفها المؤرخ نجم الدين الغزي (ت 1061هـ/1650م) -في ‘الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة‘- بأنها من "أفراد الدهر.. حُملت إلى القاهرة ونالت من العلوم حظاً وافراً، وأجيزت بالإفتاء والتدريس".
وفي القرن الحادي عشر الهجري/الـ17م؛ تلاقينا بمكة المحدثة قريش بنت عبد القادر الطبري (ت 1107هـ/1695م) التي كانت "فقيهة.. من بيت علم كبير..، كانت تُقرَأ عليها كتب الحديث في منزلها"؛ كما يقول المؤرخ الزِّرِكْلي (ت 1396هـ/1976م) في ‘الأعلام‘. وقد ذكر أيضا أن العلامة المغربي محمد عبد الحي الكتاني (ت 1382هـ/1962م) عدّها -في ‘فهرس الفهارس والأثبات‘- من "مسانيد الحجاز السبعة الذين قويت بهم شوكة الحديث في القرن الحادي عشر [الهجري/الـ17م] وما بعده".
واعظات يعتلين المنابر
توقف مؤرخو القرن الثامن الهجري/الـ14م كثيرا عند حياة أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية (ت 714هـ/1314م) التي سُمي بها "رباط البغدادية" بالقاهرة عند تأسيسه سنة 684هـ/1285م؛ فوصفها الذهبي -في ‘سِيَر أعلام النبلاء’- بأنها "الشيخة المفتية الفقيهة العالمة.. الحنبلية"، وقال -في كتابه ‘العِبَر‘- إنها كانت "سيدة نساء زمانها".
وذكر المؤرخ صلاح الدين الصفدي (ت 764هـ/1362م) -في ‘أعيان العصر‘- أنها "كانت تصعد المنبر وتعظ النساء… [و] انصلح بها جماعة نساء في دمشق…، [ثم] تحولت بعد السبع مئة إلى مصر، وانتفع بها في مصر من النساء جماعة، وبعُد صيتها".
ومن وظائف ذلك الرباط الذي سُمي باسمها أنه كانت "تُودَع فيه النساء اللاتي طُـلّقن أو هُجرن، حتى يتزوّجن أو يرجعن إلى أزواجهنّ صيانةً لهنّ، لما كان فيه من شدّة الضبط وغاية الاحتراز والمواظبة على وظائف العبادات".
وعن علاقة هذه المفتية الحنبلية البغدادية بالفقه؛ يقول الصفدي: "تفقهت عند المقادسة (= عائلة حنبلية توارثت أجيالها العلم) بالشيخ شمس الدين (المقدسي أبو محمد «شيخ الحنابلة» المتوفى 682هـ/1283م) وغيره… وكانت تدري الفقه وغوامضه الدقيقة ومسائله العويصة".
وقد بلغت من حضورها العلمي والفقهي أن رجلا بحجم الإمام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م) كان "يتعجب من علمها وذكائها"، كما يفيدنا تلميذه الذهبي الذي ورث عنه الإعجاب بهذه السيدة العالمة حتى قال عنها في ‘العِبِر‘: "وكان لها قبول زائد ووقْع في النفوس"، وقال في ‘السِّيَر’: "وقد زرتها وأعجبني سمتها وتخشعها". أما الحافظ ابن حجر فجزم -في ‘الدُّرَر الكامنة في أعيان المئة الثامنة’- بأنها "قلّ من أنجب من النساء مثلها"!!
وقبل هذه الجليلة البغدادية؛ نجد شيخة دمشقية أخرى كان صعود المنبر سببا في تسميتها بـ"العالمة"، وهي أم الفقيه الشافعي شهاب الدين الأنصَارِيّ (ت 672هـ/1273م) قاضي الخَلِيل الذي استفاد من مكانة والدته العلمية فاشتهر بين الناس -قبل تصدره العلمي- بِـ"ابْن العالمة".
ويروي المؤرخ قطب الدين اليُونِيني (ت 726هـ/1326م) -في ‘ذيل مرآة الزمان‘- أن "سبب تسميتها بالعالمة: أن الملك العادل الكبير [الأيوبي] لما تُوفي في سنة خمس عشرة وستمئة (615هـ/1218م) نظروا امرأة تتكلم في العزاء، فذكروها وأنها من الصلحاء، فأتوا في طلبها فتبرأت من ذلك لعدم خبرتها بما يليق بذلك الحال، فألزموها وأخذوها مكرَهة، وكانت تحفظ كثيراً من ‘الخُـطَب النُّـباتية‘ (= خُطب الشيخ ابن نُباتة الفارقي المتوفى سنة 374هـ/985م).
قالت: وكنت أسأل الله تعالى في الطريق ألا يفضحني في ذلك المحفل وأنا أرجف فَرَقاً من ذلك. قالت: فلما حضرتُ وصعدت المنبر سُرِّيَ عني، فقرأت شيئاً من القرآن وخطبت بـ‘خطبة الموت‘…، وهي من طنّانات الخُطب؛ فاتفق في ذلك المجلس من البكاء.. ما لم يتفق في غيره. واشتهرت تسميتها بالعالمة".
وحسب تراجم الذهبي في ‘تاريخ الإسلام‘؛ فإنه قد لُقِّب بـ«ابن العالمة» عَلَمان آخران، أولهما: "أحمد بن الحسن بن هبة الله أبو الفضل ابن العالمة عُرف بالإسكاف (ت 530هـ/1136م)"، ثم أسبغ عليه الصفات الفضل التالية: "شيخ، صالح، مقرئ، إمام، فقيه، مجوّد، قَنوع، خيّر، حَسَن التّلاوة، محدِّث".
والطبيب البارع نجم الدين أحْمَد بن سعد بن حلوان (ت 652هـ/1252م) الذي كان "يُعرف بابن العالِمة: دُهْن اللّوز (بنت نورنجان ت 614هـ/1217م) الّتي كانت عالمةَ دمشق" على الإطلاق، وأفرد لوالدته هذه ترجمة فقال إنها "شيخةُ العُلَمَاء بدمشق وكانت لها حَظْوة". وذكرها ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- فوصفها بأنها "الشيخة الصالحة العابدة الزاهدة شيخة العالمات بدمشق… وجعلت أموالها وقفاً" لوجه الله تعالى.
واللافت أننا نجد مجالس للمحدّثات والشيخات العالمات كانت مفتوحة للطلبة في هذا الشهر الكريم؛ إذ يُخبرنا المحدّث والمؤرخ عَلَم الدين البِرْزَالي (ت 739هـ/1338م) أنه سمع الحديث من شيخته أسماء بنت محمـد الدمشقية (ت 733هـ/1333م). وفي ذلك يقول الصفدي -في ‘أعيان العصر‘- نقلا عن البِرْزالي: "قرأتُ عليها مجلس شهر رمضان في رمضان سنة ثلاث وثمانين [وستمئة (683هـ/1284م)]، وقرأتُ عليها قبل موتها بأربعة أيام. فبين التاريخين أكثر من خمسين سنة. وكانت امرأة مُباركة متيقظة، كثيرة البر والصدقة والمعروف".
زهد في التأليف
رغم هذا الحضور العلمي اللافت للنساء في مختلف العصور؛ فإن كتب الفقه أهملت ذكر أقوال هؤلاء العالمات الفقهية ما عدا أقوال أمهات المؤمنين وبالأخص عائشة، كما تجاهلت ذكر مذاهب كثير منهن. وذلك الإهمال راجع -في رأينا- إلى أربعة أمور؛ الأول: أن الفقهاء اعتمدوا في نقل الأقوال على شهرة القائل وتصدره، ولذا لم ينقلوا في كتب الخلاف إلا عن "مشاهير أئمة الأمصار". والثاني: أن أغلب الفقيهات كُنّ في كنف والد أو زوج عالميْن كبيرين، فكانت شهرتهما ومكانتهما تغطيان على ذلك التميز النسوي.
الأمر الثالث: أن النساء العالمات نادرا ما ألّـفن كتبا، وللكتب وحدها القدرة على إبقاء الأقوال حية وخالدة. والرابع: أن المرأة -في ثقافة الاجتماع العربي- تعتبر "عورة"، ويرى بعض الدارسين أن العرب سرعان ما استعادوا عادات ما قبل الإسلام في قضايا المرأة والاجتماع، ولذا وجدنا الإمام المزني -كما سبق القول- لم يصرح باسم أخته، وهو رجل من قبيلة مُزينة المضرية.
وقد استطاع بعض الباحثين -بعد جهد جهيد- أن يحصر فقط اسم 36 مؤلِّفة منذ القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي وحتى القرن الثاني عشر الهجري/الـ18م، وأغلب تلك المؤلفات غير موجود وإنما ذَكرت عناوينَه كتبُ التراجم استطرادا. وهذا العدد الضئيل جدا يعكس زهد العالمات في كتابة مؤلفات تحفظ علمهن، وقد جعل ذلك الزهدُ كتبَ التراجم -وخصوصا كتب طبقات الفقهاء- تهمل ذكرهن.
وقد تعجب الباحث محمد خير رمضان يوسف -بعد جولاته في كتب تراجم فقهاء المذاهب- من إهمالها للنساء الفقيهات وأخبارهن؛ فكتاب ‘الجواهر المضية في تراجم الحنفية‘ -لمحيي الدين ابن نصر الله القرشي الحنفي (ت 775هـ/1373م)- يحتوي حوالي 2115 ترجمة، ومع ذلك لم يجد فيه هذا الباحث من تراجم النساء سوى خمس فقيهات، وفي كتب التراجم المالكية لم يجد ترجمة لأي امرأة!!
وكذلك كتاب ‘طبقات الشافعية الكبرى‘ للسبكي (ت 771هـ/1370م) فإنه ضاق بمجلداته العشرة عن ذكر أي فقيهة شافعية، ووحده الإسنوي ذكر "أخت المزني" التي لا يُعرف اسمها. وليس في ‘طبقات الحنابلة‘ لابن أبي يعلى (ت 526هـ/1132م) ذِكرٌ لأي فقيهة حنبلية، وقد عوّض عن ذلك بذكر النساء اللواتي كُنّ يسألن الإمام أحمد بن حنبل (ت 241هـ/850م) تحت عنوان: "ذكر النساء المذكورات بالسؤال لإمامنا أحمد".
وهذا الإهمال للتاريخ العلمي للنساء نلمحه أيضا في عدة قضايا أندلسية؛ الأولى: خبر أم الإمام أبي الوليد الباجي (المتوفى 474هـ/1071م)، فقد كانت فقيهة ولم تـُذكر في كتب التراجم إلا بعلاقتها بابنها الذي صححت تاريخ مولده، كما نقل ذلك ابن عساكر الدمشقي في ‘تاريخ دمشق‘. والقضية الثانية: نجدها في التراجم التي خص بها المقري التلمساني (ت 1041هـ/1632م) -في ‘نفح الطيب‘- حوالي عشرين سيدة من مشهورات الأندلس.
ففي تلك التراجم الأندلسية تتجلى صور الإهمال بكل وضوح وأسف باستثناءات قليلة؛ فغالب من ذكرهن المقري كان يورد اسمها مفردا بما يشبه اللقب مع نسبتها لإحدى المدن الأندلسية، مع إغفال كامل لبقية المعلومات المتعلقة بالاسم الثلاثي، وتاريخ الميلاد، وعلى من تأدبن وتعلمن، ومتى توفين.
وأغرب شيء في ذلك الإهمال تلك الحكاية التي حكاها المقري بصيغة التمريض في نهاية ذكره للمشهورات الأندلسيات، قال: "وحُكي أن بعض قضاة [مدينة] لوشة كانت له زوجة فاقت العلماء في معرفة الأحكام والنوازل…، وكان في مجلس قضائه تنزل به النوازل فيقوم إليها فتشير عليه بما يحكم به"!!
وأما القضية الثالثة؛ فتتجلى في الميزة التي اشتهر بها أهل الغرب الإسلامي وهي جمعهم لمختلف فتاوى علمائهم في كتاب واحد، مثل ‘المِعْيار المُعْرِب والجامع المُغْرِب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمَغرب‘ لأبي العباس الوَنْشَريسي (ت 914هـ/1508م)، ولم تذكر مجلداته الاثنا عشر أي فتوى لأي فقيهة، وهكذا اقتدت به موسوعات الفتاوى التي جُمعت بعد عصره!!