تحول النظام الدولي.. وفرصة العرب في دور إستراتيجي

تحول النظام الدولي.. وفرصة العرب في دور إستراتيجي



يحدث حاليا تشكيل سلبي للنظام العالمي الجديد، نقول تشكيل سلبي بمعنى تشكيله على قاعدة الإخفاق في تشكيله باللغة التي أراد الطرف الأميركي الذي اعتبر وفقاً للمحافظين الجدد وحقبة بوش الابن أن على الولايات المتحدة التي انتصرت في الحرب العالمية الثالثة أن تتفرد بالنظام الدولي، وهو ما شكل مفارقات لم تتح لهذا التصور الأيديولوجي أن ينجح ومنها أن الاقتصاد العالمي متعدٍ للجنسيات.

"
عملية الانتقال من نظام الاستقطاب في الحرب الباردة إلى نظام لما يتبلور بعد، تكشفت بصورة توحي بأن هذا الانتقال قد تم من نظام القطبين إلى نظام القطب الواحد، ثم البدء بالبحث عن نظام عالمي آخر
"

وتعديه هذا وتعدديته لا يسمحان بالتفرد، كما أن وجود دول عظمى متخمة بالسلاح النووي لا يجعل للاقتصاد الأميركي أن يفرض كلمته الأخيرة في حكم النظام العالمي. وليس أخيرا القول إن الأزمة العالمية التي انكشفت مع نهاية عام 2008 لا تفسح المجال أمام القول إن النظام العالمي سيحكم من دولة واحدة، فهل نحن مقبلون على نظام عالمي متعدد الأقطاب؟ ربما، ولكن أين هو موقع العرب من هذ النظام؟

شكل الانتقال من نظام عالمي إلى نظام عالمي آخر تبعات على الدول الضعيفة والصغيرة. وكانت تلك التبعات جزءا لا يتجزأ من عملية وراثة النفوذ وإعادة توزيعه أو تعيينه أو كجزء من عملية صعود قوى جديدة.

وكان الانعكاس الأكثر وضوحا في المنطقة العربية، ليس فقط كارثة للإمبراطورية العثمانية، وإنما لاعتبار هام يتصل بكونها -وتحديداً في منطقة الشرق الأوسط- على محور تقاطع بين آسيا وأفريقيا وأوروبا. ومناطق الاتصال الحضارية إما أن تكون مهيأة لأن تقيم حضارات أو أنها في حال سحب مفاعيل تلك القيامة، سرعان ما تصبح ساحة عمليات للصراع الدولي وموطئ نفوذ رئيسي كمانع حمل حضاري منها.

ولعل المسألة تتجاوز فلسفة التاريخ إلى الوقائع السياسية والإستراتيجية التي دفعت ثمنها المنطقة، فالانتقال إلى نظام سلام المئة عام 1813-1914 إلى نظام عصبة الأمم بنهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918، كلف المنطقة العربية إعادة توزيع النفوذ بديلاً من الإمبراطورية العثمانية وصولا إلى تقسيمها وفق اتفاقية سايكس بيكو وإطلاق وعد بلفور.

وكان للانتقال من نظام عصبة الأمم المتحدة إلى نظام هيئة الأمم المتحدة الذي تبلور بعد الحرب العالمية الثانية أن دفعت المنطقة العربية ثمنه بإقامة دولة إسرائيل تنفيذا لوعد بلفور، أي كاستكمال لثمن لم يدفع في النظام السابق.

وانعكس تفاهم يالطا على المنطقة التي كسبت استقلالها تباعاً، لتدخل تحت مظلة الاستقطاب الأميركي (الذي ورث بريطانيا)–السوفياتي، ولتصبح منطقة إنتاج النفط تحت النفوذ الأميركي، بينما اعتبرت منطقة الشرق الأوسط ساحة عمليات للعبة مط النفوذ أو سبره أو الضغط لهذه الدولة أو تلك.

وبينما كانت فرنسا وبريطانيا تنسحبان كدولتين عظيمتين في المنطقة إلى الدرجة الثالثة والرابعة في المقياس الدولي، كانت آثار وجودهما القديم الجديد تزيد الأعباء الناجمة عن الحرب الباردة بين العملاق الأميركي ونظيره الروسي، في استخدام بليغ لجملة معقدة من صراعات النفوذ وردود الفعل بحثا عن الهوية الوطنية المستقلة لدول تريد الانعتاق ويحكمها ثقل تاريخها الحضاري ومستقبلها.

كان ذلك استنزافا نوعياً للبشر والمقدرات ليس له نظير بالقياس إلى حاجات التنمية، ففي قراءة قريبة لتكلفة الصراع في الشرق الأوسط في الأعوام العشرين الأخيرة فقط من عمر هذا الصراع الطويل، فإن الرقم يقارب 12 تريليون دولار (strategic for site group) وهو لا شيء قياساً لتكاليف الصراع نفسه، مضافاً إليها تكاليف التنمية الموهومة أو المتباطئة وتكاليف التلاعب بأسعار الثروات.. والفاتورة تطول وهي ليست موضع بحثنا.

كما أنه لا أهمية لإقامة بكائية حولها على اعتبار أن لكل الحروب تكاليف، والحروب في خاتمة المطاف هي قافلات التاريخ. ولكن ما يهمنا هنا أن منطقتنا كانت موضعاً مباشراً لجزء هام من نتائج الانتقال من نظام عالمي إلى نظام عالمي آخر، ولا تزال.

المهم في الأمر أن عملية الانتقال من نظام الاستقطاب في الحرب الباردة إلى نظام لما يتبلور بعد، تكشفت بصورة توحي بأن هذا الانتقال قد تم من نظام القطبين إلى نظام القطب الواحد (1990-2006) ثم البدء بالبحث عن نظام عالمي آخر، وهو تقسيم ينسجم مع الرؤية الأميركية التي تعتبر سقوط الاتحاد السوفياتي كان إيذانا بنهاية نظرية المحافظين الجدد بهذا الخصوص.

ولكن واقع الأمر أن هذه المرحلة كانت مرحلة انتقالية طالت بين نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية ونظام ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وهذا التبلور المتباطئ جراء اعتبارات عديدة أهمها نظام الردع النووي وأخيراً الانهيار المالي والاقتصادي لعام 2008.

وقد أظهر هذا التباطؤ أهمية المنطقة العربية، إذ استخدمت كحقل عمليات انتقال إلى نظام القطب الواحد وهو ما لم ينجح، مما يعكس نوعاً من انغلاق القضاء الإمبراطوري الأميركي.

ومهما كان من أمر الانتقال سواء من نظام الحرب الباردة إلى نظام القطب الواحد ومن ثم من نظام القطب الواحد إلى نظام آخر لم يتبلور، يتوقع أن يكون نظاماً متعدد الأقطاب لم تتعفن صورته بعد، فإن مجرد اختيار العراق فلبنان وفلسطين وبالتالي سوريا كساحة عمليات لذلك الانتقال يعني أن الوضع النهائي لعملية التبلور سوف يكون على حساب المنطقة العربية والصراع العربي الإسرائيلي بامتياز.

المؤكد على الأقل في الصورة الإجمالية الحالية أن المراحل الانتقالية لا تكون فيها شبكة من التفاهمات الدولية قد أرسيت، وهذا يترك هامش الحركة للدول الصغيرة، وهو ما يطرح على بساط البحث كيفية استثمار الفرصة لكي تحقق هذه الدول مصالحها القديمة والإستراتيجية.

"
الانفلات الدولي في المراحل الانتقالية ليس متحققا تماما في منطقة الشرق الأوسط التي تبدو كأنها على موعد تارة مع الحرب وتارة مع اختبار السلام كجزء من متممات عملية بلورة النظام الدولي
"

ولكن من الملاحظ أن "الانفلات" الدولي -بمجاز القول- في المراحل الانتقالية ليس متحققا تماما في منطقة الشرق الأوسط التي تبدو وكأنها على موعد تارة مع الحرب وتارة مع اختبار السلام كجزء من متممات عملية بلورة النظام الدولي.

ومع ذلك فإن عدم التوصل حتى الآن إلى توافق دولي حاسم على طريقة سايكس بيكو أو يالطا، والحاجة إلى الاستمرار لسنوات في بلورة ذلك النظام في مرحلة ما بعد سقوط أيديولوجية عهد جورج بوش الابن ومحافظيه الجدد، في ظل نظام معقد من التشابك والتنابذ تدخل فيه دول كبرى طرفاً نوعياً كروسيا والصين (رغم صمتها العسكري السياسي وصوتها العالي اقتصاديا) إضافة إلى دول أخرى ومصالح أخرى هنا وهناك، وتجاذب وتنابذ لا يتوقف ويكاد لا يوحي بالرسو على نظام دولي متعثر الولادة.. كل ذلك يتيح للعرب أن يصنعوا جزءاً من مستقبلهم بشرط شبه وحيد هو الاشتباك العقلاني في قضاياهم.

نقول الاشتباك العقلاني في قضاياهم وهو ما لا يعني بأي حال من الأحوال الحروب بالضرورة، مع ما تفرضه آلية الانتقال من حروب مباشرة أو حروب بالوكالة (على لبنان وفلسطين 2002 وغزة أخيراً 2008/2009).

يمكننا أن نخلص إلى أن العرب قد انقسموا في مرحلة الانتقال سابقة الذكر والأخيرة حصراً إلى رؤيتين:

1- رؤية عقلانية تعتبر أن توخي المواجهة مع الحركة القادمة إلى المنطقة يقلل الخسائر ويجعل الاشتباك الدبلوماسي جزءا من منظومة الاستقرار، ويدرج هذه الدول في المنظومة دون اعتبار متزايد للمكانة أو للدور مستفيدة من كل الأدوار المطروحة على اعتبار أن موقع التحالف مع الولايات المتحدة وأوروبا يقلل من احتمالات دفع الأثمان الباهظة. وهي رؤية تستطيع أن تتخذها دول ليست في حلبة الصراع الأساسي (العربي–الإسرائيلي).

2- رؤية عقلانية إرادية ترى ضرورة التدخل دائماً لتغيير ميزان القوى دون التورط في معارك لا تحسب موازين القوى، على اعتبار أن الثابت الوحيد في السياسة هو المتغير، وعليه فإن الاشتباك لا التورط في أحداث المنطقة وحده هو الذي يفسح المجال أمام اقتناص مكانة إقليمية لخدمة المصالح العربية.

والسؤال الآن هو: هل يمكن أن تكون هناك أحداث فاعلة ومناوئة يقودها العرب ويكون لهم بالتالي فيها دور فاعل في عملية الصياغة القادمة بدلاً من أن يكونوا "مفعولا به" وسمادا لسياسات الآخرين؟ وهل يمكن أن تكون هناك سياسة عقلانية خارج دائرة الوجدانيات السياسية والتحليلات والمواقف الأيديولوجية التي ترفض أن تلج العصر وتفهم لغته؟

على المستوى السياسي فإن انسحاب الأميركيين من العراق يعني عبر السنوات القادمة تقديم فرص وتحديات بأنها هي التي تشكل المنفذ لتشكيل صورة العرب في هذا العالم الجديد.

ستخلق عملية الانسحاب هذه فراغا جزئيا، وعلى اعتبار أن الجغرافيا السياسية لا تحتمل الفراغ، فإن ملأه سيكون إما أوروبيا أو إقليميا أو عربيا أو من الجميع.

فرنسا تتحرك على هذا الصعيد بهجوم ساركوزي على السياسات الإقليمية لم نعهده منذ انهيار نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وروسيا تلوح بدور واضح ومضمر من خلال تأييدها وتسليحها لبعض الدول المناوئة للمشروع الأميركي. أما إيران وتركيا فقد تقدمتا بدور إقليمي لم يعهد لهما من قبل.

ثمة فرصة عربية تبدو يتيمة لسوريا في المرحلة المقبلة، فرصة قد تكون رائدة من خلال دور لها في العراق بعد دورها في قطع الطريق على المشروع الأميركي في المنطقة بدعمها مقاومتي لبنان وفلسطين والرضا -على طريقة أن اللبيب بالإشارة يفهمُ- السياسي ذي المغزى نفسه في خاتمة المطاف، عن مقاومة العراقيين غير المتورطة مع تيار القاعدة.

وهذا الدور قد يُستتبع بما يحيي آمالا بقيام بنية وحدوية إذا أمكن استثمار وإدارة الصرع بكل أوجهه بصورة مناسبة.

"
النظام الدولي ربما قد ينتقل من حالة الردع السكوني إلى حالة أخرى، وهذا يعني أنه بقدر ما تتراجع حالة القسر والإكراه الدوليين يبدو الاستقرار ممكنا بمعنى من المعاني
"

هل هنالك فرصة للسلام؟ المسألة المطروحة الآن على النظام العالمي الجديد هي ذاتها التي طُرحت على مترنيخ وكاستيلري من أجل صياغة سلام عالمي عام 1813، وهي ذاتها التي طرحت على العالم بعد إزالة هتلر عام 1945، والآن تعيد طرح ذاتها، وتتلخص في كيفية إقامة نظام للسلم العالمي بمراعاة ما يلي:

1- أكثر العصور بحثا عن السلام هي أكثرها تعرضا للقلق، لأن السلام ليس هدفا في حد ذاته ولكنه ينشأ كنتيجة لقيام نظام دولي مستقر.

2- الاستقرار الذي يصنع السلام لا يجيء إلا نتيجة الرضا بشرعية دولية مقبولة تصونها ترتيبات عملية واتفاق على الوسائل والأهداف المسموح بها في السياسة الدولية.

3- إذا لم تكن العدالة الدولية أساس نظام السلم العالمي، فإن نظام الأمر الواقع لن يعدو أن يقدم سلماً بالإكراه، وهو سلم قابل للانتهاء في زمن ما، الأمر الذي يجعل النظام العالمي الجديد مجرد مرحلة انتقالية كسابقيه، وهذه هي على ما يبدو طبيعة الأشياء.

4- من المؤكد أن النظام العالمي الجديد يميل إلى إقامة التوازن العالمي بالانتقال من استعمال القوى لإبقاء التوازن، إلى إرادة استعمال القوة الكامنة.

ولكن السؤال هو: هل يمكن لنظام الردع أن يبقي توازنا دوليا لفترة طويلة، دون اعتبارات التثوير الناتج عن انسداد الآفاق بالنسبة لطرف واقع تحت نير هذا الردع ومساوئه؟ وبالتالي فإذا كان نظام استخدام القوة غير كاف لإبقاء التوازن والاستقرار السياسي العالمي، فهل يمكن أن يتنبأ النظام العالمي الجديد باستمرار هذا التوازن والاستقرار في ظل نظام الردع؟

من المؤكد أن هذا غير ممكن، ولهذا فإن النظام الدولي ربما قد ينتقل من حالة الردع السكوني إلى حالة أخرى، وهذا يعني أنه بقدر ما تتراجع حالة القسر والإكراه الدوليين يبدو الاستقرار ممكنا بمعنى من المعاني، فهل يقضي أو يخفف نظام الكتل والتعاون الدولي من سمة كهذه ويحقق درجة أعلى من العدالة الدولية؟ بل هل يمكن أن يتحقق هذا عبر مشروعات ناجحة باسم مشاريع مارشال تحقق للشعوب إمكانية إقامة ديناميكية دائمة في واقعها بدلاً من العفن الذي يؤدي إلى "الثورة".

5- إرادة التوازن والسلم العالميين تطرح على النظام العالمي الجديد التساؤل الذي طُرح على مترنيخ عام 1813 فيما يتعلق بالنمسا، وهو: هل يمكن إقامة المطلوب من توازن دولي بعدما ثبتت استحالة قيام سلم منفرد؟ وبالتالي هل هناك من إمكانية فعلية لسلم عالمي جماعي؟

ولكن السؤال يبقى مطروحاً حول مدى إمكانية الدولة في النظام العالمي الجديد على أن تقيم ضرباً من العدالة الاجتماعية الداخلية، وضرباً من التوازن العدلي في العلاقات الدولية، وهما شرطان لقيام هذا الاستقرار.

فإذا كانت الدول الاشتراكية قد ودعت حلمها العدلي لصالح الديمقراطية، فهل تؤدي خبرة المشروع العدلي المطعّم بالديمقراطية إلى نموذج أكثر عدالة؟ والسؤال الأكبر: هل ستكون هناك صيغة لعدالة عالمية أو لضروب منها على الأقل، أم أن التوجه سيكون نحو إرساء الأمر الواقع؟

وهنا تكمن الإشكالية والسؤال الأكبر حول إمكانية استمرار النظام الدولي الجديد بدون أزمات بنيوية خطيرة. ولكن الطبيعة الحقيقية للسياسات أنها لن تفضي إلى المأمول والمحلوم به، بل إلى ما هو ممكن ومطلوب لتوازنات مرحلية.

كل هذا لا يعني أن الطريق معبدة وأن أمل العمل الوحدوي بالمعنى السياسي لا النظري ولا الوجداني، قد ولى.

نحن أمام فرصة كبيرة، وبخلافها سنعود مادة لسياسات الكبار إلى أن نلج مرة أخرى في انتقال من نظام دولي إلى آخر.

هل نستطيع القول إن الفكر يمكنه أن يصنع مادة لواقع مغاير؟ هذا نوع من الطموح المبالغ فيه. ولعل أكثر ما يمكن أن يقدمه الفكر اليوم هو الإشارة إلى الظرف التاريخي علها تتاح الفرصة لاقتناص ذلك من أصحاب القرار أنفسهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.