روسيا تطور علاقاتها المغاربية من بوابة الاقتصاد والسلاح

epa05212585 Russian President Vladimir Putin (R) meets with Moroccan King Mohammed VI (L) in the Kremlin in Moscow, Russia, 15 March 2016. Moroccan King Mohammed VI is on official visit in Moscow. EPA/MAXIM SHIPENKOV / POOL
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (يمين) خلال استقباله ملك المغرب محمد السادس بموسكو في مارس/آذار 2016 (الأوروبية)
زهير حمداني
 
لم يكن حضور روسيا السوفياتية ضعيفا بمنطقة المغرب العربي في العقود الماضية، لكن علاقاتها بدوله كانت متباينة يفرضها المنطق الأيديولوجي واصطفافات مرحلة الحرب الباردة، وتغلغل النفوذين الفرنسي والأميركي، قبل أن تحصل التحولات الكبيرة بسقوط الاتحاد السوفياتي، ونهاية الأيديولوجيا كحامل أساسي للعلاقات.
 

وشهدت العلاقات الروسية المغاربية مرحلة جديدة مع حقبة الرئيس فلاديمير بوتين، والعودة الروسية إلى الساحة الدولية من بوابة المصالح الاقتصادية، ثم مع مرحلة الربيع العربي وما بعده، وتزامن ذلك مع برود في العلاقات المغاربية مع أوروبا، وغموض مرحلة حكم باراك أوباما وبعده دونالد ترمب أميركيا.

 
وخلال الحقبة السوفياتية، كانت العلاقات مع بلدان المغرب العربي تقوم على الفرز الأيديولوجي والمقاربة بين ثنائية الرجعي والتقدمي، وتبعا لذلك كانت متينة مع الجزائر وليبيا بحكم الطبيعة "الثورية" لنظام الحكم فيهما، مقابل برود في العلاقة بين موسكو والمغرب وتونس وموريتانيا.
 
والمقاربة الروسية الجديدة للعلاقات مع بلدان شمال أفريقيا العربية في السنوات الأخيرة لم تعد قاصرة على الجزائر وليبيا، لكنها أصبحت تتجه لإقامة علاقات تعاون وثيقة مع جميع بلدانه، خاصة المغرب، رغم وجود لاعبين كبار في حلبة المنافسة، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا، ودخول الصين بقوة على الخط.
 
وأصبحت روسيا تتجه إلى تطوير الاستثمارات والمبادلات التجارية والتنسيق في مجالات الغاز والتكنولوجيا النووية السلمية وتعزيز التعاون الأمني في مكافحة الإرهاب، خاصة على خلفية الأزمة في ليبيا، بالإضافة إلى محاولة استقطاب هذه البلدان إلى تبني رؤيتها للشأن الدولي في ظل وضع أقرب إلى حرب باردة جديدة.

الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أثناء استقباله نظيره الروسي ديمتري مدفيديف أثناء زيارته الجزائر عام 2010 (الأوروبية)
الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة أثناء استقباله نظيره الروسي ديمتري مدفيديف أثناء زيارته الجزائر عام 2010 (الأوروبية)

الجزائر.. حجر الزاوية
وتعد العلاقات بين روسيا -وريث الاتحاد السوفياتي منذ عام 1991- والجزائر هي الأكثر عمقا واستقرارا في منطقة المغرب العربي، إلا ما فرضته مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي ومعه المعسكر الشرقي، التي تزامنت مع حقبة ما يعرف بالعشرية السوداء في الجزائر من 1991 إلى 2002.

 
ومرت العلاقات الجزائرية الروسية ببعض الهزات، ومن أبرز أسبابها مسألة تسوية ديون الاتحاد السوفياتي لدى الجزائر، وقضية فشل صفقة طائرات الميغ 29، التي اتضح وجود عيوب فنية فيها، وقضية شركة الاتصالات الروسية "فيبلكوم" التي اشترت حصة كبرى في شركة "جيزي" الجزائرية، وتمت تسوية هذه القضايا لاحقا.
 
والجزائر -بحكم حجمها الجغرافي وعدد سكانها وثرواتها- تعد حلقة رئيسة في سياسة موسكو المغاربية، وهي إضافة الى طابعها العسكري البارز تحمل أبعادا أخرى سياسية واقتصادية لا تقل أهمية بالنسبة إلى قادة الكرملين منذ العهد السوفياتي.
وخلال زيارة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى موسكو في أبريل/نيسان 2001، تم إعلان الشراكة الإستراتيجية بين البلدين، وكانت الاتفاقية الأولى مع دولة عربية، والثانية من نوعها بعد اتفاق مماثل أبرمته روسيا مع الهند.
 
وفي سياق البحث الروسي عن تعزيز التعاون والشراكة، زار الرئيس بوتين الجزائر في مارس/آذار 2006 -وهي الأولى من نوعها لرئيس روسي- ليوقع صفقة تعاون ضخمة بلغت قيمتها 6.3 مليارات دولار، كما تمت تسوية الديون الروسية على الجزائر، التي تقدر بنحو 4.7 مليارات دولار، مقابل عقود تسليح جديدة.
 
وفي فبراير/شباط 2008، زار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة موسكو لتأكيد تعزيز التعاون العسكري والاقتصادي، كما قام الرئيس ديمتري مدفيديف بزيارة للجزائر في أكتوبر/تشرين الأول 2010 لتعزيز العلاقات والاتفاقات في المجالين العسكري والاقتصادي، كما لم تنقطع الزيارات الدبلوماسية والعسكرية بين مسؤولي البلدين.
وفي حين كانت المبادلات التجارية بين الجزائر وروسيا ضعيفة نسبيا (نحو 835 مليون دولار عام 2015)، تعد الجزائر من أكبر مستوردي السلاح الروسي مع الصين والهند، وأبرمت مؤخرا صفقة جديدة بقيمة 2.8 مليار دولار، شملت طائرات مقاتلة ومروحيات ودبابات متطورة ومنظومات دفاع جوي حديثة وفرقاطات.
 
ويعمل البلدان أيضا على تنسيق مشترك في مجال الغاز، بحكم تأثيره الاقتصادي والسياسي عالميا، حيث توفر روسيا نحو 30% من حاجة الاتحاد الأوروبي، والجزائر 12%، وهما يعملان على إنشاء منظمة للبلدان المُصدرة للغاز، رغم المعارضة الشديدة من العواصم الغربية.
  
العقيد الراحل معمر القذافي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في طرابلس عام 2008 (الأوروبية)
العقيد الراحل معمر القذافي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في طرابلس عام 2008 (الأوروبية)

ليبيا والنفوذ المهدد 
بدأت العلاقات بين ليبيا والاتحاد السوفياتي منذ عام 1955، وشهدت تطورا كبيرا بعد تولي العقيد الراحل معمر القذافي السلطة عام 1969.

 
لكن هذه العلاقات شهدت فتورا خلال فترة الحظر الغربي على ليبيا منذ مارس/آذار 1992، وتزامنت مع فترة تحول وارتباك على الصعيد السياسي والاقتصادي في روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
 
وبعد رفع العقوبات على ليبيا نهائيا عام 2003، استمرت العلاقات في فترة ركود جراء محاولة القذافي التوجه غربا وعقد علاقات مع فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا، ودخول شركات النفط والغاز مثل "إيني" و"توتال" منافسا "لغاز بروم" و"لوك أويل" الروسيتين.
 
ومثلت زيارة الرئيس فلاديمير بوتين إلى ليبيا في أبريل/نيسان 2008 مرحلة جديدة في العلاقات، حيث تم خلالها إلغاء الديون الليبية المقدرة بنحو 4.6 مليارات دولار، مقابل إبرام عقود جديدة ومربحة للشركات الروسية، خاصة شركة غاز بروم، وشركة السكك الحديدية، إضافة إلى توقيع صفقة أسلحة وتحديث معدات بأكثر من ثلاثة مليارات دولار.
 
وجاءت زيارة القذافي إلى موسكو في 31 أكتوبر/تشرين الأول 2008 -وهي الرابعة بعد أعوام 1976 و1981 و1985- ليستمر التعاون مستقرا بين البلدين، قبل أن تأتي رياح الربيع العربي، وتدخل دول غربية وتطيح بالقذافي عام 2011، وبالعلاقات بين البلدين، وخسرت روسيا جراء ذلك عقودا بنحو أربعة مليارات دولار، وسوقا للسلاح، وبلدا حليفا ومتناغما مع السياسات الروسية.
 
وتسعى روسيا حاليا لاستعادة نفوذها في ليبيا بالتنسيق مع مصر، من خلال تعميق التعاون السياسي والعسكري مع اللواء المتقاعد خليفة حفتر، ومجلس النواب في طبرق والحكومة التابعة له في البيضاء (شرق البلاد)، وسط تنافس مع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
 
‪ملك المغرب محمد السادس مع الرئيس فلاديمير بوتين بالكرملين مارس/آذار 2016‬ (أسوشيتد برس)
‪ملك المغرب محمد السادس مع الرئيس فلاديمير بوتين بالكرملين مارس/آذار 2016‬ (أسوشيتد برس)

المغرب.. قفزة نوعية
ويمكن القول إن علاقات روسيا التي تتوثق مع المغرب تشكل التحول الأبرز في مقاربة روسيا لدبلوماسيتها مع البلدان المغاربية في السنوات الماضية.

 
وكانت هذه العلاقات محكومة خلال الحقبة السوفياتية بالعامل الأيديولوجي، بحكم أن المغرب كان شريكا للولايات المتحدة، ومنحازا إلى الكتلة الغربية كنموذج سياسي واقتصادي، بينما كانت روسيا تركز على الجزائر، وبحكم الخلاف المغربي الجزائري حول قضية الصحراء الغربية، يمكن فهم ضعف العلاقات الروسية مع الرباط. 
 
ورغم الفتور الذي شهدته العلاقات بين البلدين، بحكم ظروف الحرب الباردة والتكتلات التي فرضتها، وسخونة العلاقات بين روسيا السوفياتية والجزائر؛ فإن العلاقات في حدها الأدنى والزيارات الدبلوماسية لم تنقطع، حيث زار الزعيم الراحل ليونيد بريجنيف المغرب في فبراير/شباط 1961، في حين قام الملك الراحل الحسن الثاني بزيارة موسكو في أكتوبر/تشرين الأول 1966.
 
وتعد الزيارة التي قام بها الملك محمد السادس في 2002 إلى موسكو، والتي توجت بالتوقيع على اتفاقية شراكة إستراتيجية؛ التطور الأكبر في العلاقات بين البلدين، ثم جاءت زيارة الرئيس الحالي فلاديمير بوتين للدار البيضاء في سبتمبر/أيلول 2006 لتؤكد هذا المنحى التصاعدي في العلاقات الثنائية.
 
وجاءت الزيارة الثانية للملك محمد السادس إلى روسيا في السادس من مارس/آذار 2016، لتعزيز الشراكة الإستراتيجية التي تم التوقيع عليها إبّان الزيارة الأولى، حيث يسعى كلا الطرفين لمواكبة التحولات الجيوسياسية وتحقيق مكاسب جيوسياسية غير خافية في الظرفية الحالية التي يمرّ بها البلدان.
 
وتتزامن محاولات روسيا للنفاذ إلى المغرب -منطقة النفوذ التقليدية لفرنسا والولايات المتحدة- مع وقت بدأ فيه المغرب أيضا بحث توسيع علاقاتها الدولية في جميع الاتجاهات والانفتاح أكثر على موسكو، خاصة بعد توتر في علاقاتها مع أوروبا.
 
وشهدت المبادلات التجارية بين البلدين تطورا كبيرا، حيث تضاعفت 12 مرة بين سنتي 2001 و2010، لتنتقل من نحو مئتي مليون دولار إلى أكثر من 2.5 مليار دولار سنويا؛ مما جعل المغرب شريكا تجاريا كبيرا لروسيا في أفريقيا والعالم العربي.
 
والأهم في العلاقات المغربية الروسية أنها تجاوزت المسائل التجارية والثقافية والسياحية والغاز والنفط والطاقة النووية السلمية إلى التعاون العسكري، حيث تشير التقارير إلى أن المغرب بصدد عقد صفقة عسكرية مع روسيا تشمل غواصة وطائرات مروحية وصواريخ بحرية متطورة، لتكسر بذلك الاحتكار الأميركي الفرنسي للسوق المغربية.
 
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف استقبل نظيره التونسي الأسبق رفيق عبد السلام بموسكو في يونيو/حزيران 2012 (الفرنسية)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف استقبل نظيره التونسي الأسبق رفيق عبد السلام بموسكو في يونيو/حزيران 2012 (الفرنسية)
تونس.. التعاون المطرد
وعلى عكس المغرب، كانت العلاقة بين تونس وروسيا -سواء في الزمن السوفياتي أو بعده- باردة رغم حفاظها على وتيرة طبيعية، ويبرز ذلك عبر غياب أي زيارة رسمية بين رؤساء البلدين، واستثناء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تونس من زيارته التي شملت الجزائر والمغرب عام 2006، وليبيا عام 2008.
 
ففي الحقبة البورقيبية (حكم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة من 1956 إلى1987) اقتصرت العلاقات على الجوانب الثقافية والعلمية ومبادلات تجارية ضعيفة، باعتبار أن بورقيبة كان ميالا إلى النموذج الغربي، واستمرت تلك السياسة زمن حكم الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي (1987-2011).
 
وأدت تداعيات الربيع العربي والمتغيرات الدولية والأزمات المستفحلة -خاصة في ليبيا- إلى تطور ملحوظ في العلاقات الروسية التونسية، حيث تعدّدت زيارات وزراء الخارجية التونسيين من عهد الترويكا (حركة النهضة وشريكيها في الحكم حزب المؤتمر والتكتل الديمقراطي) إلى الحكومة الحالية إلى موسكو.
 
وزار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف تونس عام 2014، حيث أعلن توقيع مذكرات تفاهم في قطاعات السياحة والطاقة النووية السلمية وحماية البيئة، كما جرى الحديث عن مشاريع أخرى كبرى.
 
ووفق وزارة الخارجية الروسية، فإن المبادلات التجارية بين البلدين أصبحت بحدود 1.2 مليار دولار، في حين ارتفع عدد السياح الروس إلى تونس إلى أكثر من ستمئة ألف عام 2016، مقابل أقل من ثلاثمئة ألف في الأعوام السابقة.
 
وحسب ما أوردته وزارة الخارجية التونسية، فمن المنتظر التوقيع على اتفاقيات لاعتماد الروبل الروسي والدينار التونسي في المبادلات الثنائية، وفتح خط بحري مباشر بين البلدين، مما يكثف المبادلات التجارية وتدفق السياح.
 
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء استقباله نظيره الموريتاني أحمد ولد تكدي بموسكو في يونيو/حزيران 2014 (رويترز)
وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء استقباله نظيره الموريتاني أحمد ولد تكدي بموسكو في يونيو/حزيران 2014 (رويترز)

موريتانيا.. آفاق جديدة
أما مع موريتانيا فلم تشهد العلاقات الثنائية تطورا ملفتا في ظل أي من الرؤساء الذين تعاقبوا على حكم البلد، وكانت شبه راكدة خاصة في فترة حكم الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطايع (1984-2005)، لكن العلاقات في السنوات الماضية تشهد تطورا أسوة ببقية بلدان المغرب العربي، ولو بدرجة أقل.

 
ولا تتجاوز المبادلات التجارية بين البلدين حاليا سبعين مليون دولار، وفق أرقام وزارة الخارجية الروسية، لكن زيارات وزراء الخارجية الموريتانية تكررت إلى روسيا في السنوات الأخيرة، للبحث عن تطوير للتعاون، إضافة إلى زيارات متبادلة لوفود برلمانية.
 
وكانت زيارة وزيرة الخارجية السابقة الناها بنت حمدي ولد مكناس في يونيو/حزيران 2010 الأولى من نوعها لوزير موريتاني إلى موسكو، وأعقبتها زيارة سلفها الوزير أحمد ولد تكدي في يونيو/حزيران 2014.
 
وتجمع بين روسيا وموريتانيا اتفاقية للتعاون في مجال صيد الأسماك البحرية والإنتاج السمكي، وتم بالاشتراك مع المصارف التجارية الروسية في مدينة نواديبو بناء مصنع لتعليب الأسماك، كما تسهم شركة "باشنيفت" الروسية في عمليات التنقيب عن النفط والغاز.
 
وبالمقارنة مع العقود الماضية، يبدو أن روسيا وسعت آفاق تعاملها مع المغرب العربي وفتحت مجالات أكبر للتعاون، وهو ما تنتهجه أيضا دول المغرب العربي، التي تجاوزت القيود السياسية القديمة باتجاه تنويع الشركاء، لكن المنطقة تبقى دائما فضاء واسعا للتنافس بين القوى الاقتصادية العظمى.
المصدر : الجزيرة