"عضوا على الرصاصة بالنواجذ".. صحفي فرنسي: هكذا حاولت إسرائيل تصفيتي مثل شيرين أبو عاقلة

الصحفي الفرنسي جاك ماري بورجيه عند إصابته برصاصة إسرائيلية في رام الله، 21 أكتوبر/تشرين الأول 2000 (الجزيرة)

باريس- "في مرمى قناص إسرائيلي، اغتيلت الزميلة مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة في جنين، كان سلاحها الكلمة والخبر الذي ترغب في توصيله إلى العالم". أعادت الوقائع شريط ذكريات قاسية ومشاهد عنيفة عاشها الصحفي الفرنسي جاك ماري بورجيه في مدينة رام الله، بتاريخ 21 أكتوبر/تشرين الأول 2000، عندما تلقى رصاصة إسرائيلية على بعد سنتيمترات من قلبه.

في حوار وشهادة خاصة للجزيرة نت، يقول بورجيه "لست هنا لأقارن مصيري بمصير زميلتنا العزيزة شيرين، إلا أنني أرى نفسي ميتا بين الأحياء".

لم تفكر بجدية في العيش بأميركا رغم حصولها على جنسيتها (الأوروبية)
جاك ماري بورجيه: اغتيال شيرين أبو عاقلة مشابه لما حدث معي عندما حاول الاحتلال قتلي بدم بارد عام 2000 (الجزيرة)

وقائع متشابهة والجاني واحد

قبل أكثر من 20 عاما، سافر بورجيه إلى غزة لتغطية بداية الانتفاضة الثانية لمجلة "باري ماتش" (Paris Match) الفرنسية رفقة المصور تييري إيش، ثم توجه إلى رام الله حيث جلس في شرفة أحد مقاهي الساحة العامة الهادئة لشرب عصير "ليمونادا" والتقاط بعض الصور قبل العودة إلى باريس.

وبينما كان جالسا، تلقى بورجيه رصاصة في الرئة اليسرى بالقرب من القلب، ويقول عن ذلك "نفذ قناص إسرائيلي أمر اغتيالي من سطح فندق ’سيتي إن‘، لقد أرادوا التخلص مني وقتلي بدم بارد".

بصوت مثقل بالذكريات المؤلمة، يقول بورجيه إنه كان يحتضر عندما حاول شبان فلسطينيون نقله إلى المستشفى حيث أخبره الجراحون الفلسطينيون أن حالته خطرة وطالبوا الإسرائيليين بعلاجه لعدم توفر الإمكانات الطبية اللازمة لديهم، إلا أن الإسرائيليين رفضوا القيام بذلك. وعلى الرغم من التضييق المتعمد، فإن المعجزة حدثت؛ إذ استطاع الجراحون الفلسطينيون إنقاذ حياته بما لديهم من إمكانيات محدودة.

وقد تابع الرئيس الفلسطيني آنذاك الراحل ياسر عرفات، الذي كان موجودا حينها في غزة، حالته الصحية وتواصل مع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك الذي ضغط على رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود باراك، لترتيب عملية نقل بورجيه بطائرة خاصة إلى تل أبيب ثم إلى باريس.

يقول بورجيه "لم أكن ضحية رصاصة طائشة، وإنما متعمدة وقاتلة، وأعتقد أن هذه من بين الفرضيات التي تخص قضية الزميلة أبو عاقلة. صحيح أنني لا أملك دليلا على كلامي، لكن ما مررت به كان مشابها لما حدث لها إلى حد كبير".

يذكر أن بورجيه قام بتغطية العديد من البؤر الساخنة، بدءا من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، مرورا بحروب لبنان وفيتنام والسلفادور والنزاعات في أفريقيا، فضلا عن تغطية الانتفاضتين الأولى والثانية في فلسطين.

الصحفي الفرنسي جاك ماري بورجيه مع الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عام 1988 (الجزيرة)

رواية إنكار ورعب إسرائيلي

وعن قضية اغتيال شيرين أبو عاقلة، يقول بورجيه "كما توقعت تماما، سيحاول الإسرائيليون المشاركة في التحقيق للحصول على الرصاصة واستبدالها بأخرى، وفق سيناريوهات جاهزة تتكرر في كل مرة، وهم مستعدون للقيام بتحقيق لإظهار أنفسهم في صورة إنسانية، إلا أن كلامهم كله كذب وأوهام".

وفي ظل الروايات الإسرائيلية المتغيرة بشكل مستمر، يشير بورجيه إلى أنها تعكس صورة الإنكار والرعب الذي يعتري المسؤولين الإسرائيليين.

وهو ما كان جليا -أمس الجمعة- عندما اعتدت شرطة الاحتلال الإسرائيلي على موكب تشييع شيرين، فلقد "صدمت بالمشهد كثيرا إلا أنه لم يفاجئني على الإطلاق، لأنه خير دليل على طبيعتهم الحقيقية التي تعكس معاملتهم الهمجية بوجوه بشرية.. وكأنهم يريدون موتا ثانيا لصحفية لا تُقهر".

ويشير بورجيه إلى أن شهادته في قضية الزميلة شيرين تهدف إلى الوقوف أمام الأكاذيب التي يروج لها الجانب الإسرائيلي وإعطاء فسحة من الأمل لأولئك الذين أحبوا شيرين بصدق.

بورجيه: صدمت كثيرا من اعتداء الشرطة الإسرائيلية على موكب حمل جثمان شيرين أبو عاقلة (الجزيرة)

الرصاصة.. كلمة السر

وقد نصح الصحفي الفرنسي مندوب فلسطين في بروكسل، حسن البلوي، أن يشدد على المشرفين على التشريح الجنائي بتوخي الحذر والمحافظة على الرصاصة باعتبارها كنزا ثمينا حتى لا يتم استبدالها بأخرى ويتغير مجرى التحقيق بالكامل.

ويوضح بورجيه أنه "إذا استطعت اليوم إثبات أن محاولة اغتيالي تمت على يد قناص إسرائيلي، فهذا بفضل الرصاصة ’إم 16‘ (M16) التي أخرجت من جسدي، والتي أكد خبراء أنها من صنع ’الصناعات العسكرية الإسرائيلية‘ (IMI). وفي حالة العزيزة شيرين، سيفضي تحليل الرصاصة إلى الوصول إلى الحقيقة".

ويتابع بورجيه "بما أنني مدني، فهذا يعني أن ما حدث لي كان جريمة حرب. وبالقدر نفسه، فإن الزميلة أبو عاقلة هي الأخرى ضحية جريمة حرب، استنادا لتعريف اتفاقية جنيف".

ويضيف "أرى أنهم بدأوا في تغيير ادعاءاتهم، وهي نفسها التي استخدمت في تبرير محاولة اغتيالي. عند مشاهدة مقطع الفيديو الذي يوثق إطلاق النار عليها، كنت على يقين أنه تم إطلاق رصاصات ’إم 16‘، لأنها أحدثت صوتا جافا وعاليا للغاية. وهنا تيقنت أن الإسرائيليين كانوا وراء هذه الجريمة لأن هذه أسلحتهم".

ويعتقد الصحفي الفرنسي أن الرصاصة -التي أودت بحياة الزميلة أبو عاقلة- أطلقت من بندقية "5,56" التي تصنعها إسرائيل، ويرى أن ادعاءات قوات الاحتلال بأن الفلسطينيين يملكون السلاح نفسه، وبالتالي هم من أطلقوا النار عليها، عارية من الصحة، ومحاولة فاشلة للتملص من المسؤولية".

الضغوط الأجنبية

ويقول جاك ماري بورجيه إن جنسية الزميلة شيرين الأميركية لم تدفع الولايات المتحدة إلى التحرك بالشكل المطلوب للتنديد بما حدث "أعتقد أنه لو حدث الفعل الإجرامي نفسه في أوكرانيا على يد جنود روس، لكانوا أقاموا الدنيا ولم يقعدوها"، مستدركا "أن القانون الأميركي بشكل عام قوي، سواء مع بايدن والبيت الأبيض أو بدونهما، وهذا سيعطي مصداقية وثقلا للتحقيقات".

ويصف الصحفي الفرنسي وسائل الإعلام التي نقلت وعززت الرواية الإسرائيلية بأنها "وسائل صهيونية"، سواء كانت عبر الإنترنت أو منصات التواصل الاجتماعي؛ لأنها لا تريد توجيه أصابع الاتهام لإسرائيل ما دام التحقيق لم يكتمل بعد، و"هؤلاء يأملون أن تطول مراحل التحقيق لأشهر إلى أن تصبح قضية شيرين في طي النسيان".

واستذكر بورجيه صورة الشهيد محمد الدرة، وهو يحتمي بظهر والده من رصاص الاحتلال، مشيرا إلى أن هذه كانت المرة الأولى التي شاهد فيها هذا الكم الهائل من الصور والاهتمام الإعلامي الذي وصلت أصداؤه إلى كل بقاع العالم. كما أشاد بالشبان الفلسطينيين الذين حاولوا إنقاذ أبو عاقلة وزميلتها شذى.

ويتوقع الصحفي المخضرم أن اغتيال الزميلة أبو عاقلة سيهدد العلاقات الدبلوماسية التي حاولت إسرائيل تعزيزها مع بعض الدول العربية "التي وصلت إلى مرحلة لا تمكنها من التغاضي عن الأمر الآن؛ لأننا بصدد الحديث عن جريمة حرب، بما أن اتفاقية جنيف تمنع إطلاق النار على مدنيين، بما في ذلك الصحفيين".

إسرائيل تريدني ميتا

وبشأن أسباب محاولة تصفيته، يقول بورجيه إنه حصل عام 1991 على وثائق سرية من أحد أعضاء المخابرات الإسرائيلية (شين بيت) وفيديو التشريح الخاص بملياردير يدعى روبرت ماكسويل، وهو رجل إعلام بريطاني كان متورطا في قضايا شائكة.

وبما أن ماكسويل كان يعاني الإفلاس، فكر في بيع أسلحة دمار شامل لإيران أو العراق بفضل علاقاته القوية مع الاتحاد السوفياتي. وعليه، قرر الموساد بالتعاون مع أميركا إقصاء ماكسويل وقتله. وتم ذلك على متن يخته في إسبانيا. وجدير بالذكر أن ماكسويل تم تشريح جثته في تل أبيب ودفن بالقرب من القدس لأنه كان يهوديا.

يشرح بورجيه "قررت حينها نشر الفيديو الذي أحدث عاصفة على مستوى العالم، وأشرت به إلى أن ماكسويل اغتيل على يد المخابرات الإسرائيلية. وتجنبت لسنوات السفر لإسرائيل بعد تحذيري مرارا بعدم الذهاب إلى هناك، قبل أن أتوجه إليها عام 2000 لتقديري أن الأمور هدأت وأن السلطات الإسرائيلية ستقوم باستجوابي بشكل روتيني، إلا أنهم حاولوا قتلي لمعاقبتي على ما فعلته قبل 9 سنوات لأنهم لا ينسون أي شيء"، على حد تعبيره.

يخبرنا بورجيه أنه التقى الزميلة شيرين في رام الله وغزة، وفي القدس في فناء فندق "أمريكان كولوني" الذي كان قصر لورانس العرب سابقا. ويصفها بأنها كانت صحفية شجاعة، واتسمت دائما بالكرم وكانت مستعدة دائما لمساعدة الآخرين.

"شيرين أبو عاقلة.. عشقت عملها فأبدعت، رحلت عن الدنيا ليضمها ثرى القدس، لكنها ستبقى خالدة في ذاكرة العالم".

المصدر : الجزيرة