"حكاوي غزة" مبادرة يقودها جريح حرب عاشق للتراث والتاريخ

حكاوي غزة مسارات سياحية يقودها الشاب عبد العزيز البلبيسي (يسار) رائد موسى-الجزيرة نت
"حكاوي غزة" مسارات سياحية يقودها الشاب عبد العزيز البلبيسي (يسار) (الجزيرة)

غزة- "السياحة المعرفية.. مقاومة" كلمات قليلة تلخص دوافع مشاركين في "حكاوي غزة"، وهي مبادرة لشاب عشريني من ذوي الاحتياجات الخاصة، يقود مسارات تركز على الأجيال الشابة، تتجول على أبنية أثرية تاريخية في البلدة القديمة من مدينة غزة.

في مساحة تقدر بـ1.6 كيلومتر مربع -تعرف الآن "بالبلدة القديمة"، وكانت تاريخيا مركز غزة وقلبها النابض- توجد عشرات المباني الأثرية من مساجد ومنازل وأسبطة (السباط ممر ضيق مقوس بين منزلين) و"حمام السمرة" ومحلات تجارية، ويهدد بعضها الاندثار والتلاشي نتيجة التوسع العمراني الحديث.

وتهدف مبادرة "حكاوي غزة" -حسب ما يقوله القائمون عليها والمشاركون فيها للجزيرة نت- إلى الحفاظ على هذه المباني، وتعريف الأجيال الشابة بها، بوصفها جزءا من تاريخ غزة الضارب في أعماق الزمن، ليمتلك الشباب الفلسطيني المعرفة التي تمكنه من مواجهة المزاعم الإسرائيلية ومخططات تزييف التاريخ.

شغف الطفولة

بدأت حكاية عبد العزيز أيمن البلبيسي (19 عاما) مع عشق التاريخ والآثار منذ طفولته، عندما كان يصطحبه والده في جولات سياحية لأماكن أثرية وتاريخية. ويقول للجزيرة نت إنها "تروي حكايات حضارات كانت قائمة على هذه الأرض منذ آلاف السنين".

هذا الشاب كبر وأدرك قيمة ما تعلّمه من والده في صغره، ويجهله كثيرون من أقرانه ومن هم أكبر، فتولدت لديه فكرة "حكاوي غزة" كمبادرة غير ربحية، هدفها التعريف بتاريخ غزة التي كتب عنها على صفحات المبادرة على منصات التواصل الاجتماعي: "غزة.. المدينة التي لا تشبه أي مدينة في هذا العالم بكل ما فيها.. بسلامها وحربها.. بتناقضاتها وأحداثها وناسها.. وحتى في تاريخها وتراثها".

آثار إسلامية ومسيحية متلاصقة تشير إلى تاريخ عميق من التعايش في غزة-رائد موسى-الجزيرة نت
آثار إسلامية ومسيحية متلاصقة تشير إلى تاريخ عميق من التعايش في غزة (الجزيرة)

في غزة كثير من الحكايات والأسرار التي مهما اعتقدت أنك عرفتها ستتفاجأ بأنك لم تعرف سوى القليل؛ فتحت كل حجر من حجارتها قصة تتحدث عن أناس مرّوا فبنوا حضارة، ثم ذهبوا وتركوا آثارهم تتحدث عنهم، ومن هنا تم اختيار عبد العزيز "حكاوي غزة" اسما لمبادرته.

إعلان

ويقول "في حكاوي غزة سنحكي قصص من كانوا ومن مروا، ومن بنوا ومن دمروا. ستقف مذهولا أمام عراقة غزة التي نجهلها جميعا، وستسمع معلومات لم تصلك من قبل".

حمام السمرة الأثري الوحيد الباقي في غزة من الحقبة المملوكية-رائد موسى-الجزيرة نت
حمام السمرة الأثري الوحيد الباقي في غزة من الحقبة المملوكية (الجزيرة)

هذه الإرادة لدى عبد العزيز لم تنل منها الإعاقة التي تلازمه منذ مولده، فنقص الأكسجين تسبب له في عجز بساقيه وعدم القدرة على المشي الطبيعي، وكانت -حسب ما يقوله- إصابته عندما كان طفلا في الخامسة من عمره بشظايا صاروخ إسرائيلي خلال الحرب الإسرائيلية الأولى على غزة أواخر عام 2008 حافزا له للتميز، والاندماج في المجتمع وتلمس احتياجات أبناء جيله.

يدرس عبد العزيز في الجامعة تخصص "هندسة الأمن السيبراني"، ويقول "معركتنا مع الاحتلال تقوم على الوعي والمعرفة بكل شيء.. وكما يجب علينا معرفة تاريخنا ينبغي أن نواكب التطورات العلمية والتقنية".

مقاومة بالوعي والمعرفة

نجاح عبد العزيز في فترة وجيزة في الترويج لمبادرته أكسبها شهرة واسعة في أنحاء قطاع غزة، رغم أن مسارها السياحي يقتصر في الوقت الحالي على البلدة القديمة من مدينة غزة. ويقول إن عددا من المشاركين -وأغلبهم شباب- شاركوا في المسار مرات عدة، بعدما أعجبوا بما يتضمنه من حكايات ومعلومات لم يسمعوا بها من قبل، وحرصا منهم على اكتساب المزيد من المعارف عن آثار يجهلها كثيرون في غزة.

السير على الأقدام يعمق الإحساس بعمق الانتماء للمكان-رائد موسى-الجزيرة نت
السير على الأقدام يعمق الإحساس بعمق الانتماء للمكان (الجزيرة)

نعمة حسن كاتبة وروائية من مدينة رفح (أقصى جنوب القطاع) شاركت في أحد مسارات "حكاوي غزة"، وقالت للجزيرة نت "مشاركتي نابعة من حبي للسياحة الداخلية، والتعرف على أماكن لها أهمية تاريخية، وكذلك الرغبة في المعرفة اللازمة لدحض الروايات الإسرائيلية الزائفة".

وتنتمي نعمة لـ"جمعية المتحدين الثقافية الاجتماعية" في رفح، وتقوم بمسارات مماثلة في هذه المدينة الواقعة على الحدود الفلسطينية المصرية، وبها مواقع أثرية، وتقول إن "الغالبية من الغزيين ربما لم يسمعوا بها من قبل".

وبالنسبة لنعمة فإن السياحة المعرفية مهمة في صراع الوعي مع الاحتلال، وحسب رأيها فإن "الجيل الشاب بحاجة ماسة لمثل هذه المسارات السياحية المعرفية في ظل الكم الهائل من المعلومات المضللة التي يبثها العدو من أجل تزييف تاريخ الأرض الفلسطينية".

مبادرة نوعية خلاقة

نظم عبد العزيز وفريقه 6 مسارات ضمن مبادرة "حكاوي غزة"، برسوم رمزية تحفيزية، وتتسع يوما بعد يوم دائرة مشجعيه على الاستمرار، وتطوير المسار ليشمل أماكن أثرية وتاريخية في مدن أخرى في القطاع الساحلي الصغير.

هدى عابد باحثة مختصة في التراث والتاريخ كانت من أوائل داعمي مبادرة عبد العزيز، وشاركت في مساراتها الستة، وتقول للجزيرة نت "يستحق أمثال عبد العزيز من الشباب الواعد الواعي كل دعم لمبادراتهم الخلاقة التي تسهم في رفع الوعي المجتمعي، خاصة في أوساط الشباب".

وتحظى "حكاوي غزة" بإقبال متزايد، ويشارك في كل مسار لها بين 35 و50 مشاركا من الجنسين، مع تفوق لافت في مشاركة الفتيات والنساء.

وقالت هدى عابد إن المبادرة حققت صدى واسعا حتى في أوساط شركات ومؤسسات تجارية، إذ تطالب بتنظيم مسارات خاصة بعامليها وموظفيها، بوصفها "فكرة نوعية" تعتمد على السير على الأقدام في مساحة محدودة لا تتجاوز كيلومترين في نطاق البلدة القديمة، الأمر الذي يضفي أجواء مميزة على المشاركين، ويساعدهم على حفظ تاريخ وجغرافية المكان.

 

المصدر: الجزيرة

إعلان