صورة الرئيس في مخيال التونسيين.. هل ستكون الانتخابات الرئاسية فرصة لمراجعتها؟

Tunisian police officers and security personnel shout slogans and hold flag during a protest in Tunis ,Tunisia 25 January 2016. Several thousand Tunisian police marched in protest to the presidential palace on Monday to demand more pay in the latest pressure on Prime Minister Habib Essid's government after a week of riots over joblessness. REUTERS/Zoubeir Souissi

في أعراف الدول الديمقراطية، أو تلك التي تسعى لاكتساب منوال حكم ديمقراطي رشيد وتوطينه؛ لا يكون اختيار المرشحين لأهم المناصب السيادية -كرئاسة الجمهورية أو رئاسة الحكومة- اختيارا اعتباطيا ولا مرتجلا أو فجائيا، بل يخضع لنوع من الفرز المتدرّج، ومراكمة الخبرة والاختبار التي تقدّم المترشّح تدريجيا للرأي العام، فيكتسب نوعا من المقبولية وإثبات الكفاءة في إدارة الملفات وتنفيذ المهمات الكبرى.

ويكون ذلك مدخلا موضوعيا لبناء نوع من الشرعية والمشروعية المستمدة من القدرة على الاتصال والتأثير، وكفاءة الأداء ومهارة الإصغاء الجيد لمشاغل المواطنين، والاستقراء السليم لواقع البلاد وكيفية التصرف في مقدراتها وإمكانياتها.

إن الترويج بأساليب مبتذلة وممجوجة لكون شروط الانتقاء السليمة للمرشح الأبرز للرئاسيات هي عملية اتصالية دعائية في المقام الأول، إنّما هو نوع من المغالطة التي تفرغ أنظمة الحكم الحديثة من أهم مقوماتها وخصائصها التي تضفي عليها المصداقية والشرعية.

فآلية الانتقاء عبر الانتخاب يجب ألا تتحول إلى نوع من خداع الجماهير والالتفاف على إرادتهم، بأن يكون من يمثلهم فاقدا للموصفات التي تحترم عقد التفويض باحترام شروط الأهلية والاقتدار والنجاعة في شخص من يبحث عن نيل ثقة الناخبين.

إن تجربة الحكم في تونس مرحلةِ ما بعد الاستعمار تعطينا صورا مختلفة إلى حدّ التناقض في اختيار من يتولّى سدة الحكم، فقد مثّل الحبيب بورقيبة -في نظر التونسيين بمختلف انتماءاتهم- صورة فيها توافق كبير بين مؤهلات القائد وخصاله ومنسوب "الكاريزما" لديه، وتوقعات الشعب منه وقدرته على إشباع نسبة مرتفعة من تلك التوقعات.

ولولا طول فترة حكم بورقيبة وتحوّلها إلى مَلَكية مقنّعة فقد خلالها جانبا كبيرا من ملكاته، وتخلّصه غير المشروع أحيانا من منافسيه أو خصومه السياسيين؛ لمثّل الصورة المُثلى والإطار المرجعي الذي يستحضره   التونسيون كلّما انشغلوا باختيار رئيس جديد لهم.

وخلافا لتلك الصورة؛ فإنّ الرئيس الثاني زين العابدين بن علي بدا فاقدا لأهم لتلك الخصال والمؤهلات القيادية من خطابة وقدرة على الإقناع، ومن المستوى الرفيع في الزاد الثقافي والسياسي الذي تعكسه خطابات بورقيبة. وقد التجأ لسدّ تلك النواقص إلى اجتناب الاحتكاك العفوي بالجماهير وعدم اعتماد الخطابة العصماء، إذ استبدلها بالتخفي وراء مستشاريه فلا ينطق إلا بما يكتبون له ويرسمون له من خطوات وحركات، حتى بدا أقرب للدمية منه للقائد.

إن الترويج بأساليب مبتذلة وممجوجة لكون شروط الانتقاء السليمة للمرشح الأبرز للرئاسيات هي عملية اتصالية دعائية في المقام الأول، إنّما هو نوع من المغالطة التي تفرغ أنظمة الحكم الحديثة من أهم مقوماتها وخصائصها التي تضفي عليها المصداقية والشرعية. فآلية الانتقاء عبر الانتخاب يجب ألا تتحول إلى نوع من خداع الجماهير والالتفاف على إرادتهم، بأن يكون من يمثلهم فاقدا للموصفات التي تحترم عقد التفويض

لقد كان خطابه الأخير قبل الفرار -رغم إعداده باللهجة التونسية الدارجة- فاقدا للعفوية والقدرة على الارتجال، فنظرات عينيه وحركاته تدلّ على ارتهانه للسند المكتوب، دون أي استخدام لثقافته الشخصية التي ما كانت تؤهله للعب دور الرئيس بالاقتدار الذي أظهره بورقيبة.

ولذلك كانت تحرجه أي مقارنة ببورقيبة، وألزم فِرَقه الصحفية لعقود اجتناب أي شكل من أشكال تلك المقارنة لأنّ الفرق بينهما شاسع، وكان يستبدل بالمقارنة ما وضعه صنّاع حملاته الدعائية من صور مركبة، محكومة باشتراطات الثناء وتلميع الصورة وصنع أمجاد جلها وهمي، من خلال إخفاء منسوب هام من الحقيقة كان ظهوره سيغيّر النّظرة والمنظور.

بعد تغيير 14 يناير/كانون الأول 2011، وإثر ارتباكات الأشهر الأولى؛ ساد الاعتقاد بأن آلية انتقاء من سيقود البلاد التونسية ستتغير، وبقي الاهتمام منصبا على اتجاه التغيير؛ فهل ستكون القوى المنتصرة للثورة هي المؤهلة للقيادة؟ أم إن لقوى النظام القديم أكثر من طريقة للعودة لمقاليد السلطة ومواصلة سيطرتهم عليها مدًى جديدا؟ وهل سيكون لذلك تأثير على ما سيكون عليه الرئيس من خصائص وكفايات وقدرات؟

إن زخم الحراك الثوري رجّح مطلب التغيير، فأفرز الترويكا بقيادة النهضة لقيادة المرحلة الانتقالية، لكن ذلك تزامن مع بروز ثنائيات ضبابية في تطبيق معايير دقيقة لاختيار القيادة. ومن تلك الثنائيات هل يكون القائد حداثيا/تقدميا أو إسلاميا/محافظا؟ منتصرا للثورة ومطلب التغيير أم من أنصار النظام القديم؟

وقد أفرز ذلك جدلا عقيما بشأن "الهوية والنمط المجتمعي"؛ فبدل أن يتعمق النقاش حول ملامح القيادة المناسبة للمرحلة كأفراد يتّسمون بمؤهلات قيادية وقدرات اتصالية، وتصورات واضحة لنوعية الحلول الملائمة لأزمات المجتمع المتفاقمة؛ بدل ذلك تاه النقاش حول دوائر الانتماء قديمة أو جديدة ممن هم مع هذا المحور أو ذاك.

وضمن تلك السياقات؛ لم يقع التعامل مع المترشحين للمراكز القيادية -كحمادي الجبالي والمنصف المرزوقي ومصطفى بن مصطفى- باعتبار مؤهلاتهم وبدائلهم، بل باعتبارهم من داخل المنظومة القديمة أو خارجها، وباعتبارهم مع ذلك الاختيار أو ضده دون اهتمام بالبرامج ولا الخيارات.

وقد انفجرت تبعا لذلك موجات مطلبيّة مغالية وإضرابات واعتصامات شلّت البلاد، فأدخلتها ضمن شروط قيادة الأزمات التي لا تبحث عن حلول جذرية للمشاكل التي قامت من أجلها الثورة؛ بل أصبحت منشغلة بإطفاء الحرائق والنأي بالبلاد عن الانهيار، خاصّة بعد إطلالة العمليات الإرهابية كفاعل مؤثر ومعمق للإرباك، وما أعقبها من اغتيالات سياسية واستهداف للمؤسسات الأمنية والعسكرية.

تلك العوامل مجتمعة تضافرت من أجل تعطيل مسار الانتقال الديمقراطي والدعوة الصريحة لعودة النظام القديم؛ فهو الأقدر -في نظر أنصاره- على تقديم الحلول الأمنية والتنموية.

وقد دارت انتخابات 2014 ضمن مناخ من التجاذب والصراع المحتد من أجل التخلص من "الحكام الجدد"، والانتصار للنظام القديم باعتماد "التصويت النافع" الذي أوصل الباجي قائد السبسي وحزبه إلى سدّة الحكم.

وقد عمد مديرو الحملة الانتخابية للباجي إلى إحياء كل مآثره البورقيبية شكلا ومضمونا، بالتذكير بانتصاره للمرأة التي كان دورها فاصلا في ترجيح كفة الباجي ضد منافسه المرزوقي؛ كما وقع التركيز على استدعاء أجمل ما في الرصيد الرمزي لبورقيبة وضخّه في رصيد الباجي باعتباره امتدادا له.

الدعوات المبكرة التي كانت تستعجل خلافة الرئيس الباجي في حزبه وفي رئاسة البلاد، حرّكتها دوائر المقربين من حزبه وحتى من عائلته. فما وقع من سعي لخلافة بورقيبة منذ سبعينيات القرن الماضي وانتهى بالانقلاب عليه سنة 1987، هو نفسه تكرر مع الباجي من أول يوم مسك فيه مقاليد رئاسة الجمهورية. فكان ذلك أحد محرّكات المؤامرات التي تحاك للبلاد والتي لم تحسم إلّا بالوفاة الفجائية للرئيس الباجي؛ وهي نفس العوامل التي تحرّك اليوم نوايا التأثير على اختيار خليفة له

لقد تمثّل المرشح الباجي -كأحسن ما يكون- مآثرَ بورقيبة في الخطابة والارتجال والاستشهاد بالنصوص القرآنية، والإحالة إلى كل ما في الماضي من قواسم مشتركة تجلب انتباه التونسيين باعتماد صور ورموز اشتغل عليها الإعلام التونسي لعقود، بقواعد أقرب إلى الدعاية منها إلى الإعلام، وذلك من أجل ترسيخها في الذاكرة والوجدان.

وهو ما أسهم في نجاح الباجي أيما نجاح في عملية التماهي مع بورقيبة، خاصة أنّ ذلك لم يكن -في منظورنا- مفتعلا، بما أن الباجي كان شخصية من دعامات حكم بورقيبة، ومن المتشبعين بروح سياساته فيما عدا نظرته لخيار الديمقراطية التي تمايز فيها الباجي عن بورقيبة، إذ كان من الأقلية التي طالبت بانتهاجها منذ سبعينيات القرن الماضي.

وقد أظهر حين اعتلى السلطة سنة 2014 أنه لم يتنكر لتلك القيم، بدليل أنّه لم يستجب للإغراءات الإماراتية/السعودية حين استمالته لتطبيق نسخة معدلة مما وقع في مصر بتونس، فلم يتجاوب مع ذلك؛ وهو ما سيسجَّل علامة فارقة للتاريخ السياسي للرئيس الراحل الباجي.

إنّ الدعوات المبكرة التي كانت تستعجل خلافة الرئيس الباجي في حزبه وفي رئاسة البلاد، حرّكتها دوائر المقربين من حزبه وحتى من عائلته، وتجلّى فيها التاريخ وكأنّه يعيد نفسه. فما وقع من سعي لخلافة بورقيبة منذ سبعينيات القرن الماضي وانتهى بالانقلاب عليه سنة 1987، هو نفسه تكرر مع الباجي من أول يوم مسك فيه مقاليد رئاسة الجمهورية.

فكان ذلك أحد محرّكات المؤامرات التي تحاك للبلاد والتي لم تحسم إلّا بالوفاة الفجائية للرئيس الباجي؛ وهي نفس العوامل التي تحرّك اليوم نوايا التأثير على اختيار خليفة له منذ اللحظات الأولى لوفاته، ومع انطلاق تنظيم ترتيبات مراسم دفنه.

لا شكّ أنّ الذين سارعوا بطريقة فجائية ومكثّفة لتقديم ترشيح عبد الكريم الزبيدي، وأوهموا غيرهم بأنه الأنسب للعب دور الرئيس؛ يريدون أن يصنعوا منه رئيسا بالقوة، ولا يؤمنون بأنّ الأدوار تساس بالكفايات والقدرات، فقد دفعوا فيما مضى ببن علي ليلعب دور الرئيس دون أن تكون له لا القدرات ولا الكفايات الأساسية لذلك.

وقد دفع الشعب التونسي الثمن غاليا كلما تقلّد المناصب الأهم غيرُ المؤهلين لها، وستكون مخلفات ذلك أفدح إذا ما كرّرنا الخطأ من جديد. ولن تغني من المخاطر إحاطة الرئيس نفسَه بأعداد وفيرة من الخبراء.

إنّ إصرار أنصار النظام القديم على أن لا خوف من ألا تتوفر في الرئيس أرفع المؤهلات والقدرات، بدعوى أنّ فريقه المساعد هو من سيتولّى مباشرة الأمر نيابة عنه؛ يمكن أن يحرم البلاد من أن تساس بأحسن قياداتها، ويسمح بالتالي لأحزمة الوصوليين من أن تتسرب من كل منافذ الضعف في مؤهلات الرئيس وقدراته، فيوجهوا أداءه ويتحكموا ضمنيا في مقدرات البلاد، كما فعلوا زمن الرئيس الأسبق بن علي.

تلك الاعتبارات هي التي تجعلهم يتهافتون اليوم لإعادة إنتاج نفس المنظومة، والدّفع بممثلها إلى القمة. أليست ملامح الزبيدي أقرب ما تكون إلى النسخة المعدلة للرئيس المرتجى، نسخة ترضيهم وتصل لهم ما انفصل من تجربة النظام القديم؟

من الإجحاف ربط نقص الكفايات المؤهلة للرئاسة بعبد الكريم الزبيدي فحسب، والتخفيف من حدتها أو إغفالها في حالة جلّ المرشحين الآخرين، فالعيوب شائعة وتكاد تتقاسمها أغلبيّة المترشحين؛ لذلك علينا أن نعترف بوجود فراغ في التصورات التي تحدّد لنا ملامح من يجب أن يكون رئيسا. إنّنا لم نحدد المواصفات الملائمة والكفايات المطلوبة لمن يرغب في تحمل تلك المسؤولية.

يجب أن نتنازل عن "الطوباوية" الدستورية التي تجعل من الترشح لرئاسة الجمهورية حقا متاحا لكل التونسيين. وعلينا الفصل بين الحق في المواطنة، والحق في تبوؤ أهم المراكز في قيادة البلاد؛ فالأولى حقّ متاح للجميع يُجرَّم الحرمان منه، أما الثانية فهي استحقاق يناله الأكثر أهلية واقتدارا.

نحن نُدعى إلى التخلّي عن "النزعة التقديسية" التي أرساها أنصار الرئيس على مرشحهم ضمن سياقات "المجاهد الأكبر" والرئيس الملهم" و"حامي الحمى والدين"، وغيرها من خطابات الدعاية التي كرّسها النظام القديم. كما علينا التفكير في التقليص من الامتيازات المادية والعينية للمسؤولين بصفة عامة، وما يخصّ منها الرئيس من قصر مشيد وراتب مرتفع وعشرات الامتيازات الأخرى.

إصرار أنصار النظام القديم على أن لا خوف من ألا تتوفر في الرئيس أرفع المؤهلات والقدرات، بدعوى أنّ فريقه المساعد هو من سيتولّى مباشرة الأمر نيابة عنه؛ يمكن أن يحرم البلاد من أن تساس بأحسن قياداتها، ويسمح بالتالي لأحزمة الوصوليين من أن تتسرب من كل منافذ الضعف في مؤهلات الرئيس وقدراته، فيوجهوا أداءه ويتحكموا ضمنيا في مقدرات البلاد، كما فعلوا زمن الرئيس الأسبق بن علي. وتلك الاعتبارات هي التي تجعلهم يتهافتون اليوم لإعادة إنتاج نفس المنظومة

إنّ العقل المدبّر لتلك الامتيازات ينطلق من خلفية أن الشعب في خدمة الرئيس، وهي خلفية تنسجم مع الأنظمة السياسية التي تنظر إلى الشعب كرعية، وهي قاسم مشترك بين كل الأنظمة العربيّة، إلاّ ما أرادت ثورات الربيع العربي إصلاحه فوقّع التصدي لها بكل الأشكال.

وتبقى التجربة التونسية هي خطّ التماس في الدفاع عن مطلب تغيير الأنظمة السياسية، حتّى نعود للأصل حيث يكون "الرئيس في خدمة الشعب"، وحتّى تسري روح ذلك المبدأ في كل التشريعات والترتيبات، لأنّ إعادة إنتاج الدكتاتورية تتسلّل من تلك التشريعات والترتيبات حين تتحول إلى مطية لاسترضاء الرئيس وإشباع غروره وعليائه، ولكم في حياة الرئيس بورقيبة وخلَفه مِن بعده ما يغني عن كل استدلال.

قد لا تكون الظرفية ملائمة اليوم لمراجعة ترتيبات اختيار الرئيس وغيره من مراتب القيادة، ولا لإعادة النظر في الامتيازات التي تهدر من إمكانيات الدولة وتقدم لهم وهم يباشرون عملهم، وتستمرّ كامتيازات موصولة لهم حتى بعد تقاعدهم.

لكن ألا يكرّس المسؤولون الكبار في الدولة بتلك الطريقة نزعة فيها تهافت على نيل الغنائم قبل ضمان تقديم الواجب وحماية مقدرات البلاد؟ أليست تلك الصورة التي نصدّرها للتونسيين عن ملامح مسؤوليهم وخصائصهم أقرب لأولوية تحقيق المنفعة قبل تقديم الخدمة؟

إنّه إرث ثقيل أنتج تصورات انحرفت بضوابط الحكم الرشيد، وهي تصورات بالغت منظومة بن علي في تكريسها حتى تكاد تتجذر، وهو ما يفترض مراجعة الصورة والتصور لأنّ تمثّلات التونسيين لمسؤوليهم أقرب إلى الحضيض، لأنهم "متهمون حتى تثبت براءتهم".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.