الانهيار التاريخي لليرة اللبنانية.. 5 أسئلة وأجوبة

لبنان يتجه لتقليص دعم المواد الغذائية وزيادة أسعار المحروقات تدريجيا رغم انهيار الليرة

خرقت سرعة انهيار قيمة الليرة سقف المنطق في لبنان، وفي حين ترجح معظم التحليلات أن الأسوأ لم يأتِ بعد، يعيش اللبنانيون قلق توالي فقدان العملة الوطنية لقيمتها أمام الدولار، الذي تضاعفت تداولاته مقابل الليرة لنحو 10 مرات في غضون أقل من عامين.

وبعد عقود من ترويج أركان في السلطتين السياسية والنقدية لضمان استقرار الليرة وثباتها على 1507 ليرات رسميا، قارب سعر صرف الدولار بالسوق الموازية 15 ألف ليرة؛ مما أفقد العملة نحو 90% من قيمتها، بعد أن كسر قبل أيام فقط حاجز 10 آلاف ليرة كسابقة في تاريخ البلاد.

ويرى مراقبون أن كل أسباب الاحتجاجات الشعبية صارت مشروعة، غير أن لبنان لم يستعد مشاهد حراك 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، لتقتصر الوتيرة على تحركات متنقلة وقطع الطرق من قبل مئات المحتجين.

لكن عصف الانهيار قلب يوميات اللبنانيين رأسا على عقب، وهم يتكبدون خسائر باهظة في قيمة مدخراتهم ورواتبهم، بعد أن صار الحد الأدنى للأجور (650 ألف ليرة)، أي ما يوازي نحو 45 دولارا (كان قبل الأزمة يوازي 450 دولارا).

وهكذا، تقفز أسعار المواد الأساسية صعودا، في ظل فوضى كبيرة في التسعير بين متجر وآخر، إذ يفرض بعضها تقنينا قاسيا على أوقات استقبال المواطنين، في حين تلجأ أخرى لحجب الكميات المتوفرة من السلع المدعومة عن الرفوف التي أصبحت شبه فارغة من البضائع.

وما ضاعف المخاوف -أخيرا- إعلان وزير المالية في حكومة تصريف الأعمال غازي وزني أن لبنان يتجه لتقليص دعم المواد الغذائية، وسيزيد أسعار المحروقات تدريجيا، في محاولة لعدم المساس بالاحتياطي الأجنبي لدى مصرف لبنان، الذي بقي منه 16 مليار دولار.

في المقابل، ما زالت القوى السياسية تتراشق الاتهامات، ليبقى مسار تشكيل الحكومة عالقا عند خلافات داخلية ذات امتدادات إقليمية -حسب رأي كثيرين- رغم أهميتها كخطوة أولية لضبط عجلة الانهيار.

وأمام عجز اللبنانيين عن إعطاء وصف دقيق لواقعهم المظلم، طرحت الجزيرة نت 5 أسئلة على خبراء اقتصاديين ومصرفيين وفي التنمية والسياسات العامة، في وقت تدور فيه إشكاليات عديدة حول طبيعة الانهيار وخلفياته ومآلاته، وعن إمكانية توفير حلول في مرحلة تشكل منعطفا تاريخيا للبنان.

أسعار المواد الأساسية تقفز صعودا في ظل فوضى كبيرة بالتسعير بين متجر وآخر (الجزيرة)
  • ما الأسباب التي أدت إلى تدهور الليرة في هذا الوقت القياسي أمام الدولار؟

ترجع علياء مبيض، كبيرة الاقتصاديين للشرق الأوسط لدى مصرف جفريز إنترناشيونال (Jefferies International)، انهيار الليرة إلى ثلاثة أسباب:

أولا- هيكلية متعلقة بوهن الاقتصاد مع انكماش في النمو تعدى 25% في عام 2020، وتوقف التدفقات المالية من الخارج، والوضعية السلبية للعملات الأجنبية لمصرف لبنان، التي تجعل المصرف المركزي غير قادر على التدخل في سوق القطع أو لدعم المصارف؛ وتلفت إلى أن الحاجة للعملة الأجنبية لتمويل الاستيراد تفوق الموجود منها، "إذا أخذنا في عين الاعتبار أن بعض هذا الطلب لتمويل جزء من احتياجات الاقتصاد السوري أيضا".

ثانيا- لا تفصل مبيض انهيار الليرة عن غياب برنامج شامل للإصلاح المالي وإعادة هيكلة الدين والمصارف، خاصة أن طبع العملة هو المصدر الأساسي لتمويل حاجات القطاع العام، في ظل تدهور الإيرادات العامة من رسوم وضرائب، مما يزيد الكتلة النقدية بالليرة، ويؤدي إلى رفع الطلب على الدولار ويسرع تدهور سعر صرف الليرة.

ثالثا- تسبب فشل الإدارة السياسية الحالية للأزمة في مضاعفة الانهيار، فحملت الخسائر للمواطنين، مما عزز توقعات العملاء بأن الآتي سيكون أسوأ، وبالتالي زيادة الطلب على الدولار.

لكن زياد الصائغ، خبير السياسات العامة، يربط بين انهيار الليرة وتحلل الدولة في مساريها القضائي والإداري، ويضيف إليهما أسبابا أخرى، مثل تفكك القدرة على إدارة سياسة نقدية ومالية، وتمدد الأسواق المالية الموازية غير المنظمة، واستشراء الفساد، وانفلات التهريب عبر المعابر غير الشرعية؛ وكلها عوامل أدت -حسب رأيه- إلى تدهور قياسي لقيمة الليرة أمام الدولار، في ظل انعدام التوازن الاقتصادي، في حين يعيش اللبنانيون -وفق قوله- "أزمة ثقة مبنية على خيارات لا أخلاقية في تدمير البلد على كل المستويات".

وأحد المسببات البنيوية للانهيار -وفق الصائغ- أن الكتلة المالية كانت تحمي الاقتصاد، والمعادلة العلمية الواجب إرسائها هي أن الاقتصاد أساس الاستقرار المالي.

من جهته، يعتبر أديب نعمة، مستشار لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) السابق وخبير التنمية المستدامة، أن مستوى انهيار الليرة غير خاضع لأي منطق اقتصادي رغم المضاربات وشح الدولار في الأسواق، لكنه نتج عن تراكم سنوات من العجز المستمر بميزان المدفوعات وعدم وجود تحويلات كافية لتغطية الاستيراد من الخارج.

وعلى مستوى آخر، يربط خبير مصرفي واقتصادي (يتحفظ عن ذكر اسمه) الانهيار بإجراءات مصرف لبنان المركزي، مذكرا أن الاحتياطي من العملات الصعبة بلغ قبل حراك أكتوبر/تشرين الأول 2019 نحو 31 مليار دولار، ثم هبط في غضون أشهر لـ16 مليار دولار، وهذا الهبوط لا يعود -حسب الخبير- لتمويل المركزي نفقات دعم الاستيراد، بل بسبب عملية تهريب ضخمة للأموال وقعت في تلك الفترة.

وما أدى إلى استقرار مستويات انهيار الليرة في صيف 2020 بمعدلات تراوحت بين 8 و9 آلاف ليرة، يعود حينها -وفق الخبير- إلى ضخ المركزي كميات كبيرة من الدولارات في الأسواق، قاربت نحو 5 مليارات.

ومنذ ديسمبر/كانون الأول 2020، بدأ مصرف لبنان الحديث عن استنزاف الاحتياطي لديه، ولا يفصل الخبير انهيار الليرة عن أزمة المصارف اللبنانية التي لديها نحو 80 مليار دولار لدى المركزي، كما يربطه بانتهاء مهلة تعميم 154 في نهاية فبراير/شباط 2021- الذي يطلب فيه المركزي من المصارف زيادة رؤوس أموالها بنسبة 20% وتكوين سيولة بنسبة 3% لدى المصارف المراسلة بالخارج- ضمن خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي.

وقال الخبير "هذا الشرط صعب جدا، ويكلف المصارف نحو 3.3 مليارات دولار، مما يرجح أن التعميم شكّل ضغطا على الليرة، لأن سوق الصرافين بلبنان صغيرة، وأي طلب إضافي على الدولار يؤدي إلى ارتفاع سعر صرفه".

  • أمام ضبابية مستقبل الليرة اللبنانية، هل هناك توقعات لمزيد من الانهيار؟

يتشارك أديب نعمة مع رأي علياء مبيض، في أنه لا سقف لتدهور الليرة، في ظل غياب تطبيق فاعل لخطة إنقاذ اقتصادية واجتماعية شاملة من قبل حكومة لديها الكفاءة والخبرة اللازمة في التعامل مع مطالبات المواطن اللبناني والمجتمع الدولي سواسية، لاستعادة الثقة في الدولة ومؤسساتها.

غير أن زياد الصائغ يرى أن أي تكهن بمستقبل الليرة خطيئة علمية في ظل غياب مؤشرات قياس للأزمة، ويدعو لصب الاهتمام على المتلاعبين بالليرة، والمستفيدين من انهيارها، بمرصد يجمع بيانات متكاملة حول الوضع المأزوم، ويضع مقاربات إنقاذية، وهذا ما يجب أن يبادر إليه القطاع الأكاديمي عبر اقتحام هذه الأزمة بدل التفرج عليها، و"يسانده الرأي العام ككتلة تغيير حرجة".

  • كيف ينعكس انهيار العملة على الأسعار وتوفير السلع والخدمات للمواطنين؟

لأن لبنان يستورد نحو 80% مما يستهلك -وفق علياء مبيض- يصبح التدهور المستمر في سعر صرف الدولار أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع أسعار السلع وكلفة الخدمات، مما رفع تضخم الأسعار لمستويات فاقت 145%، ويرفع معدلات الفقر والعوز ويعزز عدم الاستقرار الأمني.

وبالتوازي مع انهيار العملة، تنهار القطاعات الحيوية من اقتصادية واجتماعية وأكاديمية، -حسب زياد الصائغ- وهذا الانهيار الشامل "يضيف لحالة التضخم ارتفاع معدلات البطالة والهجرة التي تفرغ المجتمع اللبناني من كفاءاته.

أما الخبير المصرفي، فيعتبر أن انهيار العملة يعزز الفوضى التي تعزز عمليات التهريب وتحرم اللبنانيين من مواد أساسية كالقمح والمحروقات، وتُفقد ثقتهم في الليرة، إذ بدأت تتفشى ظاهرة سعي المواطنين لشراء الدولار بأموالهم -مهما كانت زهيدة- من السوق السوداء، من أجل الحفاظ على قيمتها.

  • ما الحلول الممكنة لتجاوز انهيارات أخرى مترافقة مع انهيار الليرة؟

يرى زياد الصائغ أن وقف الانهيار يبدأ بمدخل دستوري، أي تشكيل حكومة متخصصين مستقلين، على أن تحمل برنامج عمل إصلاحيا، وإطلاق مسارات تنفيذه بالتعاون مع المؤسسات الدولية المعنية، وأن تكون إعادة تكوين السلطة بانتخابات نيابية في موعدها (2022) مهمة أساسية لاسترداد الدولة وتحريرها.

وما يحتاجه لبنان -في رأي أديب نعمة- هو تشكيل حكومة مستقلة بصلاحيات تشريعية من خارج المنظومة القائمة، تقود مرحلة انتقالية فيها خطة إنقاذ اقتصادي، ومالي، واجتماعي، وأي حكومة تشكلها السلطة الحالية لا يمكن التعويل عليها، لأنها أصل المشكلة ولا يمكن أن تصنع حلا، وإلا سيكون لبنان أمام خيارين: إما الدفع نحو مزيد من الفوضى، أو انتظار حدث إقليمي ودولي يفرض حلا عليه، أو مزيجا من الاثنين.

من جهتها، تعتبر علياء مبيض أن بعد عام ونصف العام من الانهيار المتمادي وتعطيل الحلول وخسارة أكثر من 10 مليارات دولار تضاف إلى خسائر فادحة تتعدى 80 مليارا، لا يمكن لأي حل إلا أن يكون جذريا، وقالت "علينا الابتعاد عن سياسة تضميد الجروح التي ستبقينا في حلقة مفرغة وتهدد السلم الأهلي، وانتهاج مقاربة شاملة لخطة اقتصادية ومالية واجتماعية تتوافق عليها مكونات المجتمع في إطار برنامج مع صندوق النقد الدولي".

أما الخبير المصرفي، فيذكر أن لبنان لم يبلغ عمق الأزمة، وإنما يعيش بوادرها الأولى، لأن مصرف لبنان ما زال يدعم بعض السلع، وهو يشارف على وقفه.

وبما أن لدى المركزي 16 مليار دولار، يقترح الخبير المصرفي أن يضع حدا لاستخدامها، وأن يلجأ لوزارة المالية لتصدر سندات بالعملة الأجنبية (يوروبوندز) بقيمة 1.5 مليار دولار، لمدة 3 سنوات، يكتتب فيها مصرف لبنان بفائدة ميسرة، مقابل أن يرفع يده عن ملف دعم الاستيراد، لتتولاه الدولة ممثلة في الحكومة، على أن ينحصر لدعم سلع أساسية فقط كالقمح والوقود وأدوية الأمراض المزمنة.

وفي مهلة 6 أشهر، يقترح الخبير أن تدفع وزارة المالية السلطة لمباشرة التفاوض مع صندوق النقد الدولي، لتحديد الفجوة المالية التي سيغطيها صندوق النقد، ليحصل على تمويل عاجل منه، ثم يجري تسديد المليار ونصف المليار في 3 سنوات، كي يتأهل لبنان للدخول إلى الأسواق المالية، أما إذا استمر استنزاف احتياطي المركزي، فـ"إننا ذاهبون لكارثة أكبر من الواقعة بكثير"، كما يضيف الخبير.

تداولات الدولار مقابل الليرة تضاعفت لنحو 10 مرات في غضون أقل من عامين (الفرنسية)
  • من الخاسرون والرابحون في هذا الانهيار؟

الخاسرون حتما هم المواطنون، وفق علياء مبيض، وتحديدا أصحاب الدخل المتوسط والمحدود، وهم يشكلون معظم الشعب، وقد تجلى ذلك في تجاوز معدلات الفقر 50% للمقيمين، وفقدان الأمن الغذائي والاجتماعي، أما الرابحون -وفق علياء مبيض- فهم الذين استطاعوا تحويل الكم الأكبر من مدخراتهم بالدولار للخارج، "إلا أنني لا اعتبر ذلك ربحا ما دامت مؤسسات الدولة والمجتمع ينهار".

ويؤكد أديب نعمة خسارة عموم اللبنانيين، والرابحون -وفق قوله- هم 1% الذين يملكون 50% من الودائع بالمصارف، أي من قادة السلطات المتعاقبة والمستفيدين شخصيا من تحلل الدولة بعد مراكمة الثروات.

ويلفت نعمة إلى أن التضخم يُربح فئات ويُخسر أخرى، خاصة أن من يملكون أموالا ضخمة بالدولار يستفيدون من انهيار الليرة لرفع قدراتهم الشرائية والدفع نحو الخصصة عبر شراء مزيد من الأراضي والعقارات.

لكن الخبير المصرفي يعتبر أن الخاسرين أيضا هم المودعون بالمصارف، أما الرابحون فهم بعض المقترضين بالليرة، إذ استطاعوا أن يسددوا قروضًا عبر شراء شيكات بالدولار بقيمة 30% من قيمتها قبل الأزمة.

ويبدو زياد الصائغ أكثر تفاؤلا، إذ يعتبر أن الخاسرين هم رعاة لبنان القديم الذي انتهى، والرابحون سيكونون بناة لبنان الجديد، لأن الشعب اللبناني يعيش مخاضا تأسيسيا، والصمود هو الأساس.

المصدر : الجزيرة