الذكاء العاطفي.. السر الخفي وراء القيادة المؤثرة

موظفون داخل شركة صينية لتكنولوجيا المعلومات
الكاتب: حين يخطئ موظف، لا ينشغل القائد بالبحث عن كبش فداء، بل يسأله بهدوء: ماذا تعلمت من هذه التجربة؟ (الجزيرة)

في أحد الأيام المزدحمة بالضغوط، دخل المدير قاعة الاجتماع. الجميع كان يتأهب لسماع عتاب قاس، فالمهام متأخرة والأخطاء كثيرة. لكن بدلا من الصراخ، جلس بهدوء وقال: "أعرف أن الأيام الماضية كانت متعبة، قبل أن نبدأ.. كيف حالكم؟"

تغيّر الجو كله. العيون المشدودة هدأت، والوجوه ارتخت، وكأن جملة قصيرة أعادت للقاعة إنسانيتها. لم يحلّ الرجل كل مشاكل العمل، لكنه لمس شيئا أعمق: قلوب فريقه.

وهذا الموقف، رغم بساطته، يفتح الباب على سؤال أعمق: ما الذي يجعل قائدا عاديا يترك هذا الأثر الكبير؟ هنا يتجلى ما قصده دانيال غولمان حين أكد أن القادة العظام لا يُعرفون بذكائهم العقلي وحده، بل بقدرتهم على قراءة المشاعر وإدارتها.

فالقيادة ليست جداول وأرقاما فحسب، بل فنَّ أن تجعل من حولك يشعرون أنك تراهم وتفهمهم.

حين يخطئ موظف، لا ينشغل القائد بالبحث عن كبش فداء، بل يسأله بهدوء: "ماذا تعلمت من هذه التجربة؟" فيحوّل الخطأ إلى فرصة للتعلم

ولعل هذا ما يفسر لماذا لا يغادر الناس أعمالهم دائما بسبب ضغط المهام أو قلة الرواتب. كثيرون يرحلون لأنهم لم يعودوا يشعرون بالتقدير. أتذكر موظفا قال لي يوما وهو يستقيل: "لم أشعر مرة أن مديري يراني إنسانا".

كان راتبه مرتفعا وبيئة العمل حديثة، لكن غياب الاهتمام الإنساني جعله يبحث عن مكان آخر. وإذا كان غياب التقدير قادرا أن يُطفئ الحماس، فإن وجود التعاطف قادر أن يُحيي حتى أصعب البيئات.

في عام 2014، وبعد فترة من تراجع مايكروسوفت، تولّى ساتيا ناديلا منصب المدير التنفيذي. أول ما فعله لم يكن إطلاق منتجات جديدة أو إعادة هيكلة، بل أطلق حملة داخلية بعنوان "الاستماع أولا". كان يحضر اجتماعات مطوّلة مع الموظفين فقط ليسمع قصصهم وتجاربهم، حتى حكى يوما أنه بكى حين سمع موظفة تشرح معاناة ابنها من الإعاقة.

هذه اللحظة لم تغيّر سياسته فقط، بل أعادت تشكيل ثقافة الشركة لتقوم على التعاطف والفهم. النتيجة؟ مايكروسوفت صارت من جديد واحدة من أنجح الشركات في العالم.

إعلان

وما فعله ساتيا ناديلا في مايكروسوفت لم يكن استثناء بعيدا، بل نموذجا عمليا لما يفعله أي قائد ذكي عاطفيا. فالقائد يبدأ دائما من الداخل: يعرف مشاعره قبل أن تتحكم به.

هناك فارق جوهري بين قائد يفرض الطاعة وقائد يُلهم الولاء. الأول يزرع الخوف لينال الانصياع، بينما الثاني يلمس القلوب فيدفع الناس للعمل

حين يغضب، لا يتظاهر بالصلابة، بل يعترف بغضبه ويؤجّل قراراته حتى يهدأ. وحين يخطئ، لا يختبئ خلف منصبه، بل يعترف بخطئه بشجاعة، فيمنح فريقه إذنا غير مباشر بأن يكونوا صادقين هم أيضا. ومع الوقت، يتعلم أن يزن كلماته قبل أن يقولها، وأن يختار ردوده بوعي.

لكن هذه المبادئ لا تبقى شعارات تُقال في الدورات التدريبية، بل تُختبر في التفاصيل اليومية.

حين يخطئ موظف، لا ينشغل القائد بالبحث عن كبش فداء، بل يسأله بهدوء: "ماذا تعلمت من هذه التجربة؟" فيحوّل الخطأ إلى فرصة للتعلم.

وحين يعلن عن تغييرات كبيرة قد تثير القلق، لا يتجاهل مشاعر الناس، بل يبدأ بالاعتراف بها قائلا: "أعرف أنكم قلقون، وهذا طبيعي". وحتى في أبسط اللحظات، حين يفتتح الاجتماع بالسؤال عن أحوال الفريق قبل عرض الأرقام، يكون قد أرسل رسالة أبلغ من أي خطة: أن الإنسان دائما يأتي أولا.

ومن هنا يظهر الفارق الجوهري بين قائد يفرض الطاعة وقائد يُلهم الولاء. الأول يزرع الخوف لينال الانصياع، بينما الثاني يلمس القلوب فيدفع الناس للعمل عن اقتناع. كما يقول سيمون سينك: القائد الحقيقي لا يدفع الناس إلى العمل، بل يجعلهم يريدون أن يعملوا.

القيادة الحقيقية ليست أوامر تُلقى ولا تقارير تُكتب، بل أثرا يترسخ في النفوس

وهذا المعنى يبدو أوضح في واقعنا اليوم، حيث العمل عن بُعد وضغوط الإنجاز والقلق من المستقبل أصبحت جزءا من يومياتنا.

في مثل هذه الظروف، يبرز الذكاء العاطفي كعامل حاسم؛ فهو الذي يحافظ على تماسك الفريق، ويخلق بيئة يشعر فيها الناس بالأمان والانتماء رغم كل التحديات. والنتيجة لا تُقاس فقط بارتفاع الإنتاجية، بل بتدفّق الإبداع واستمرار الاستقرار على المدى الطويل.

وفي النهاية، القيادة الحقيقية ليست أوامر تُلقى ولا تقارير تُكتب، بل أثرا يترسخ في النفوس. قد ينسى الموظفون تفاصيل الاجتماعات والمشاريع، لكنهم لا ينسون يوما جعلهم قائدهم يشعرون بأنهم مهمّون. وهذه هي القيادة المؤثرة فعلا… القيادة التي تكسب القلوب قبل العقول.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان