حين يذكّرنا القرآن بنعمة الطعام والأمن، فلا يذكرهما ترفًا ولا رفاهًا، بل يضعهما على رأس قائمة الضرورات التي لا تقوم حضارة بدونها، ولا تستقيم حياة في غيابها، وليس ذلك من باب الامتنان العابر، بل بوصفهما شرطين مسبقين لأي إمكانية لنشوء مجتمع مستقر، قادر على إنتاج الثقافة، ومراكمة التاريخ، والتفكير في المستقبل.
قال الله تعالى في خطابه لقريش: ﴿الَّذِيٓ أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَءَامَنَهُم منْ خَوْفٍ﴾، وقال على لسان خليله إبراهيم، وهو يدعو لمكة قبل أن تُعمّر؛ تذكيرًا بالأولويات التأسيسيّة لأي مجتمع: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾.
فلا أمن يُبنى في حضرة الخوف، ولا عقل يُفكّر والبطن خاوٍ؛ وإن الجوع والخوف هما معول الهدم الذي تمسكه يد الظالم حين يريد أن يطفئ نور أمة، أو يطوّع شعبًا، أو يُخمد جذوة الكرامة في النفوس، حيث يتحولان إلى أداة سياسية واقتصادية يعمق من خلالها البنية الاحتلالية؛ لذا انفردت تجربة قريش بمكانة من الأمن والطعام في وقت كانت الجزيرة العربية تعاني فيه من التنازع والخوف وندرة الموارد.
الأسرى اليوم يعانون من مجاعة مطبقة، ومعاناتهم لا تقتصر على ألم الجوع، بل تمتد إلى انكسار الشعور بالكرامة الإنسانية، ما يجعل كلَّ أسير يفكر بروح الفرد، وتتحطم لديه روح الجماعة
الأسرى: تفكيك الروح الجماعية
ونموذج ذلك واقع الأسرى الفلسطينيين في السجون؛ فالمؤسسة الأمنية تدرك تمامًا أن تقويض الاستقرار لا يكون بالجسد فحسب، بل يبدأ من تفكيك الأرواح وزلزلة اليقين الداخلي، وذلك عبر إرهاب نفسي وجسدي ممنهج، وحرمان من الطمأنينة والطعام.
الأسرى اليوم يعانون من مجاعة مطبقة، ومعاناتهم لا تقتصر على ألم الجوع، بل تمتد إلى انكسار الشعور بالكرامة الإنسانية، ما يجعل كلَّ أسير يفكر بروح الفرد، وتتحطم لديه روح الجماعة.
وفي لحظة افتراس الجوع يُفهم حديث الرسول ﷺ، الذي أشكل على كثيرٍ من المعاصرين، فقد ورد في "صحيح البخاري": "أمرَ النبيُّ ﷺ بلعق الأصابع والصحفة، وقال: إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة". فليس الحديث عن النظافة فحسب، بل عن فقه الكفاف، وتعظيم النعمة مهما قلّت؛ فالرسول ﷺ، في زمن الفقر والقِلّة، كان يلعق أصابعه توقيرًا للنعمة، وطلبًا للبركة، وحذرًا من هدر القليل.
ولهذا، فإنّ الأسرى اليوم هم أكثر من يدرك عمق هذا الحديث، في زمنٍ يتمنّى فيه الأسير أن يشعر بالشبع، أو يدفع عن نفسه ألم الجوع المزمن؛ فبركة الطعام لا تدرَك وقت الشبع، بل تُفهم عند القِلّة.
غياب الأمن والطعام لا يخلق فقط معاناة إنسانية، بل يُنتج انهيارًا وتحولات اجتماعية عميقة ذات طابع سلبي، قد يحتاج الجمهور إلى سنوات طويلة حتى يخرج من تحت وطأته
غزة: سجن كبير والأدوات واحدة
وإذا ما انتقلنا من الزنزانة الصغيرة إلى السجن الكبير، وهو نموذج قطاع غزة، فإنّ القوى العظمى والمحتل يدركون أن الخوف والجوع هما من أخطر الأسلحة الإستراتيجية التي تتنوع أطيافها ومدياتها، والتي تُستخدم لردع الشعوب، وفصل مشاعرها عن الأرض، وبثّ الجهل والإحباط واللايقين في أوساطها.
فهم يعرفون أن الجائع لا يحلم، والخائف لا يُطالب؛ لذلك يُغذّون الخوف حتى يُخرِس، ويضخّون الإحباط حتى يُطفئ أي بريقٍ للأمل أو للمقاومة، ويُحلّون التوجس محل الثقة.
وما يترتب على غياب الأمن والطعام هو انهيار المنظومة الأخلاقية، وتفشّي الجهل، وانكفاء المجتمع على بطنه بدل أن يسمو بعقله؛ لذا ذكّرنا الله سبحانه وتعالى، في أكثر من موضع، بقيمة هاتين النعمتين اللتين لا تقدَّران بثمن، وهذا ما جعل سيّدنا إبراهيم -النبيّ الخبير- يدعو بهما أولًا، إدراكًا ووعيًا سياسيًّا منه أن استقرار أي بلد وازدهاره لا يبدأ بالحجارة، بل يبدأ من الأمن، والطعام، وطمأنينة الإنسان في داره وبلاده.
غياب الأمن والطعام لا يخلق فقط معاناة إنسانية، بل يُنتج انهيارًا وتحولات اجتماعية عميقة ذات طابع سلبي، قد يحتاج الجمهور إلى سنوات طويلة حتى يخرج من تحت وطأته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.