منذ عام 2003، ظلّ الشارع العراقي يتقلب بين موجات الغضب والانفجار الشعبي، مرورًا بانتفاضة تشرين التي بدت كأنها صحوة وطنية جامعة.
لكن اليوم، وفي ظل ما يشبه السكون السياسي والاجتماعي، يبدو أنَّ هذا الشارع دخل مرحلة من الصمت الموجع.. أهو صمت الإرهاق، أم ما قبل الانفجار الجديد؟
أخطر ما يمرّ به العراق اليوم ليس القمع ولا الأزمات، بل الإرهاق.. المواطن منهك من تكرار المشهد ذاته: وعود بلا تنفيذ، إصلاحات ورقية
إرث الاحتجاج.. ماذا تبقّى من تشرين؟
عرف العراق عبر تاريخه الحديث موجات احتجاج متتالية، كان أبرزها في عام 2011، ثم تكرَّرت بزخم أكبر في عام 2015، وصولًا إلى ثورة تشرين عام 2019، التي شكّلت علامة فارقة في مسار الوعي السياسي العراقي.
خرج المتظاهرون يومها من كل الطّوائف والمناطق رافعين شعار "نريد وطن"، في لحظة نادرة من الانسجام الوطني، بعيدًا عن الانقسامات الأهلية والطائفية التي طالما مزّقت البلاد.
لكن هذه الانتفاضة، رغم قوتها، قُمعت بعنف دموي، قُتل فيه مئات الشباب، وجُرح الآلاف، دون أن تتحقق مطالبهم الجوهرية. أُسقطت حكومة، وجاءت أخرى، وظلّ النظام السياسي على حاله، بل وتحصّن أكثر خلف الجدران الطائفية والحزبية.
أزمة الثقة.. من التظاهر إلى الانكفاء
لم تكن استقالة الحكومة، أو الانتخابات المبكّرة التي أُجريت عام 2021، كافية لاستعادة ثقة الناس.
فالمؤشرات كلها دلّت على العكس: تراجع نسبة المشاركة، واللامبالاة العامة، والانكفاء الشعبي عن الفعل السياسي. هذه ليست علامات ارتياح أو رضا، بل إشارات عميقة على أن الشارع العراقي لم يعد يؤمن بفاعلية أدوات التغيير التقليدية.
الثقة بين المواطن والنظام السياسي تكاد تكون معدومة.. لا البرلمان يمثل الشعب بحق، ولا الأحزاب تُفرز قيادات وطنية حقيقية، ولا توجد معارضة سياسية قوية تعبّر عن تطلعات الجماهير! حتى النقابات ومنظمات المجتمع المدني، التي كان يُفترض أن تكون وسيطًا نزيهًا بين الشارع والسلطة، باتت تعاني التهميش أو الاحتواء.
إذا كانت القوى التقليدية تستعد لتكرار المشهد ذاته، فإن الشارع بحاجة لخيارات جديدة، نزيهة، تؤمن بالفعل لا بالشعارات، وتضع أقدامها داخل الواقع العراقي بدل الدوران حوله
الإرهاق الجماهيري.. حين يتحوّل الغضب إلى لامبالاة
إن أخطر ما يمرّ به العراق اليوم ليس القمع ولا الأزمات، بل الإرهاق.. المواطن منهك من تكرار المشهد ذاته: وعود بلا تنفيذ، إصلاحات ورقية، ومجالس تشريعية تتصارع على الحصص بدل السياسات.
أما الشباب، الذين كانوا وقود الحراك، فيتجه كثير منهم إلى الهجرة، أو الانكفاء، أو حتى القبول بـ"الواقع"، بوصفه أقل الخيارات سوءًا.
الانتخابات القادمة.. هل تعيد النبض؟
مع اقتراب موعد الانتخابات القادمة، يعود الجدل حول جدواها في إحداث تغيير حقيقي. فالمواطن، الذي فقد ثقته بالعملية السياسية، لم يعد يشارك بدافع الأمل، بل غالبًا بدافع الخوف أو الإحباط، أو حتى الانسحاب التام.
إذا كانت القوى التقليدية تستعد لتكرار المشهد ذاته، فإن الشارع بحاجة لخيارات جديدة، نزيهة، تؤمن بالفعل لا بالشعارات، وتضع أقدامها داخل الواقع العراقي بدل الدوران حوله.
لكن ما نحتاجه اليوم -أكثر من أي وقت مضى- هو تجديد أدوات التغيير، وتوفير قيادة وطنية نزيهة، تُعيد للناس ثقتهم بأن الصوت، حين يُرفع بصدق، قادر على صنع الفرق
العراق لا يصمت طويلًا
الصمت الذي يخيّم اليوم على الشارع العراقي لا يعني الاستسلام.. هو صمت مثقل بالتجارب، محمّل بالخذلان، لكنه لا يخلو من الأمل. فالعراق عبر تاريخه لم يصمت طويلًا، وما دامت أسباب الغضب قائمة فإن العودة إلى الشارع ليست إلا مسألة وقت.
لكن ما نحتاجه اليوم -أكثر من أي وقت مضى- هو تجديد أدوات التغيير، وتوفير قيادة وطنية نزيهة، تُعيد للناس ثقتهم بأن الصوت، حين يُرفع بصدق، قادر على صنع الفرق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.