شعار قسم مدونات

"بنو أمية" في أهازيج ما بعد الأسد: بين الهوية الحضارية والسياق الطائفي

Omran Abdullah - أقواس حدوة الحصان في المسجد الأموي بدمشق، والبرج المربع للمئذنة - معمار كاتدرائية نوتردام.. هل تعود أصولها لتأثيرات سوريا القديمة المسيحية والإسلامية؟
المسجد الأموي أعظم شهادة معمارية على عظمة العصر الأموي ولا يزال رمزًا خالدًا لهذا العصر (الجزيرة)

مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا، شهدت الشوارع والساحات السورية انفجارًا شعبيًا يعبّر عن مشاعر الفرح والتحرّر، رافقتها شعارات وأهازيج وأغانٍ تعيد الاعتبار لهُوية دمشق ودورها الحضاري في التاريخ الإسلامي والعالمي.

بعض هذه الشعارات تمجّد بني أمية، باعتبارهم جزءًا لا يتجزأ من تاريخ دمشق، حيث كانت العاصمة الأموية مركزًا لخلافة امتدت حدودها من الصين شرقًا إلى الأندلس غربًا.

هذا الاحتفاء بالرمزية الأموية يعكس إدراكًا عميقًا لدور دمشق كمنارة حضارية وثقافية خلال حقبة تاريخية استثنائية، إلا أن هذه الشعارات أثارت جدلًا بين من رأى فيها إحياءً لذاكرة حضارية تستحق الاحتفاء، ومن فهمها في سياق طائفي يُضفي بعدًا طائفيًا "سنيًّا" ودينيًا على المشهد.

إن ذكر بني أمية في الأهازيج والشعارات لا ينبغي أن يُفهم كدعوة لتبني أيديولوجيا معينة أو كإقصاء لأي مكون من مكونات الشعب السوري، بل كاستدعاء لذاكرة جماعية تحتفي بالدور الريادي لدمشق في التاريخ

بنو أمية والهوية الحضارية لدمشق

لا يمكن فهم الشعارات التي تمجد بني أمية بمعزل عن السياق الحضاري والتاريخي لدمشق؛ لقد كانت هذه المدينة القلب النابض للعالم الإسلامي خلال العصر الأموي، حيث شهدت ازدهارًا عمرانيًا وثقافيًا جعلها أعظم مدن العالم في ذلك الوقت. المسجد الأموي الكبير، الذي وصفه المؤرخ زهير الصلح في كتابه "المسجد الأموي: تاريخ وفن" بأنه "أعظم شهادة معمارية على عظمة العصر الأموي"، لا يزال رمزًا خالدًا لهذا العصر.

إعلان

إن ذكر بني أمية في الأهازيج والشعارات لا ينبغي أن يُفهم كدعوة لتبني أيديولوجيا معينة أو كإقصاء لأي مكون من مكونات الشعب السوري، بل كاستدعاء لذاكرة جماعية تحتفي بالدور الريادي لدمشق في التاريخ.

المؤرخ عبدالشافي محمد عبداللطيف في كتابه "الدولة الأموية: تاريخها وسياستها" أشار إلى أن "دمشق في العصر الأموي لم تكن مجرد عاصمة سياسية، بل كانت مركزًا فكريًا وثقافيًا، انصهرت فيه حضارات متعددة". كما أضاف أن "العصر الأموي شهد نهضة علمية واقتصادية جعلت من دمشق منارة للعالم".

الطائفية: فخّ القراءة السطحية

من المؤسف أن البعض يختزل هذه الشعارات في إطار طائفي ضيق، معتبرًا أنها تحمل بعدًا "سنيًا" حصريًا. هذا الفهم القاصر يتجاهل السياق الأوسع لهذه الرمزية، الذي ينطلق من إدراكٍ لدور دمشق كمركز حضاري متنوع ومتعدد الثقافات.

المستشرق "فيليب حتي" أشار في تحليلاته إلى أن "دمشق عبر تاريخها الألفي كانت دائمًا نموذجًا للتنوع الثقافي والديني، ولم تفقد هذه الصفة حتى في أحلك عصورها". وفي ذات السياق، أكد ابن كثير في "البداية والنهاية" أن "دمشق كانت ملتقى العلماء والمفكّرين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ما جعلها مركز إشعاع حضاري استثنائي".

دمشق الأموية لم تكن مدينة لطائفة واحدة، بل كانت عاصمة لخلافة ضمت شعوبًا وأديانًا وثقافات متنوعة. الاحتفاء ببني أمية ليس رفضًا لهذا التنوع، بل تأكيدًا على أن دمشق، عبر التاريخ، كانت وما زالت رمزًا للتعايش والانفتاح بعد أن غدت في عهد المخلوع بشار الأسد مرتعًا للمليشيات الطائفية، التي عاثت فسادًا في أزقتها، وحوّلتها إلى ساحة لأخذ الثأر واستجلاب فتن الماضي، وتدنيس الرموز الحضارية الدمشقية، والتغني بانتصار "أتباع الحسين" على "أتباع يزيد".

ومن هنا وجب إعادة تكريس الهوية الحضارية الأموية لدمشق، وفي هذا السياق ترى النفيسة عبدالكريم الطائي أنّ "الخطاب الذي يستحضر بني أمية يعكس رؤية تعيد الاعتبار للقيم الحضارية، التي وحدت الشعوب المختلفة تحت لواء دولة مركزها دمشق".

دمشق، تلك المدينة التي حملت على عاتقها إرثًا حضاريًا متنوعًا، كانت دائمًا مركز إشعاع فكري وعلمي؛ ولقد ساهمت في تشكيل هوية العالم الإسلامي، ليس فقط كعاصمة سياسية، بل أيضًا كموطن للمعرفة والتنوير

استدعاء الرموز لتجاوز الأزمة

إعلان

الشعارات التي تمجد بني أمية تحمل بُعدًا أعمق من مجرد الاحتفاء بماضٍ عظيم؛ إنها تمثل دعوة لإعادة الاعتبار لدور دمشق الحضاري والثقافي في مستقبل سوريا. النفيسة عبدالكريم الطائي في كتابها "دمشق: التاريخ والحضارة" ترى أن "استدعاء الرموز التاريخية مثل بني أمية يعبر عن رغبة شعبية في بناء هوية وطنية جديدة، ترتكز على القيم الحضارية المشتركة".

وبحسب المؤرخ جمال الدين الشيال، فإن "دمشق الأموية كانت نموذجًا للقدرة على تحقيق الاستقرار السياسي والازدهار الثقافي في فترة تاريخية مضطربة".

وفي ذات السياق، يشير الباحث عبدالكريم رفاعي في دراسته عن التاريخ الثقافي لدمشق إلى أن "الأمويين نجحوا في تحويل المدينة إلى مركز عالمي للعلم والفن والعمارة، ما جعلها مصدر إلهام للأجيال اللاحقة". كما أن هذا الاستدعاء يحمل رؤية لإعادة دمشق كعاصمة للتنوع الثقافي والازدهار الذي يعكس أصالة مجتمعها.

منارة التنوير عبر التاريخ

دمشق، تلك المدينة التي حملت على عاتقها إرثًا حضاريًا متنوعًا، كانت دائمًا مركز إشعاع فكري وعلمي؛ ولقد ساهمت في تشكيل هوية العالم الإسلامي، ليس فقط كعاصمة سياسية، بل أيضًا كموطن للمعرفة والتنوير.

المستشرق برنارد لويس في كتابه "العرب في التاريخ"، أشار إلى أن "دمشق كانت دائمًا مدينة ذات تأثير واسع في التاريخ الإسلامي، واحتفظت بمكانتها كمركز إشعاع فكري حتى في الأوقات الصعبة".

إن الأهازيج والشعارات التي تمجد بني أمية يمكن قراءتها كدعوة لإحياء هذه الروح التنويرية، كما قال الفيلسوف والمفكر محمد عابد الجابري: "العودة إلى الرموز الحضارية ليست مجرد استدعاء للتاريخ، بل هي استلهام لقيم يمكن أن تبني المستقبل على أسس من التعددية والانفتاح".

البناء على القيم المشتركة

من الضروري أن يتم النظر إلى الشعارات الرمزية كجزء من خطاب أكبر، يسعى إلى توحيد السوريين على أساس قيمهم المشتركة، وليس تقسيمهم على أسس طائفية.

إعلان

التاريخ يثبت أن دمشق كانت نموذجًا للتعايش والتعددية، حيث تعايشت فيها ثقافات وأديان متعددة في انسجام. المفكر أكرم زعيتر في كتابه "التاريخ الإسلامي"، أشار إلى أن "دمشق كانت دائمًا تحتضن التنوع، وكانت مركزًا للتفاعل الثقافي والإبداع الحضاري".

لذلك، يجب أن يكون النظر إلى هذه الشعارات كجزء من مشروع ثقافي، يسعى إلى استعادة الروح الوطنية الجامعة، وتجاوز مخلفات الصراعات التي عصفت بسوريا في السنوات الأخيرة، كما يقول المؤرخ طارق البشري: "إن استحضار الماضي لا يجب أن يكون عبئًا، بل يجب أن يكون مصدر إلهام للمستقبل".

من المهم أن نتبنى قراءة فكرية عميقة لهذه المرحلة، قراءة ترفض اختزال الهوية السورية في أبعاد دينية أو طائفية، وتؤكد على القيم الحضارية والثقافية التي تجمع السوريين بمختلف أطيافهم

نحو فهم أعمق للرموز

إن الأهازيج والشعارات التي أُطلقت بعد سقوط النظام البائد تعكس توقًا جماعيًا لإعادة بناء الهوية السورية على أسس تعترف بالماضي المجيد، دون السقوط في فخ الانقسامات الطائفية. من هنا، ينبغي فهم هذه الشعارات في إطار يعيد الاعتبار لدمشق كعاصمة حضارية عظيمة، وليس في سياق استقطاب طائفي.

لذلك، من المهم أن نتبنى قراءة فكرية عميقة لهذه المرحلة، قراءة ترفض اختزال الهوية السورية في أبعاد دينية أو طائفية، وتؤكد على القيم الحضارية والثقافية التي تجمع السوريين بمختلف أطيافهم. كما أن على المثقفين والإعلاميين أن يتحملوا مسؤولية تقديم هذه الشعارات كجزء من خطاب وطني شامل، يعيد بناء الروح السورية على أسس الوحدة والتنوع.

الكاتب والمؤرخ عبدالعزيز الدوري يؤكد أن "الخطاب الحضاري القائم على القيم المشتركة هو السبيل الوحيد لإعادة بناء المجتمعات التي عصفت بها النزاعات"، مشيرًا إلى أن استحضار الماضي يجب أن يكون وسيلة لبناء المستقبل، وليس لتكريس الانقسامات.

إعادة الروح لدمشق

إن الشعارات التي تمجد بني أمية بعد سقوط نظام الأسد تعبّر عن استدعاء مشروع لحقبة حضارية عظيمة، تهدف إلى إعادة الاعتبار لدور دمشق كمركز للثقافة والتاريخ. فهم هذه الشعارات بعيدًا عن الأطر الطائفية يُعد ضرورة ملحّة لبناء خطاب وطني جامع، يعيد للسوريين ثقتهم بأنفسهم وبمدينتهم التي كانت وستظل رمزًا للتنوير والحضارة.

إعلان

إن القراءة العميقة لهذه الشعارات في ضوء التاريخ والحضارة تكشف عن حاجة ملحة لإعادة بناء الهوية الوطنية السورية على أسس ثقافية وإنسانية شاملة؛ وكما قال الباحث توفيق السعدي: "إعادة الاعتبار للرموز التاريخية يجب أن تُفهم كمشروع لبناء حاضر ومستقبل يتسع للجميع، لا كمحاولة لإعادة إنتاج الماضي بعيوبه وصراعاته".

في النهاية، يمكننا الآن -بل ويحق لنا – أن نتنفس الصعداء، آملين أن تعود دمشق "الأموية" مرة أخرى لتكون منارة للسلام والحضارة والتقدم.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان