الإسلام دين شامل جاء ليصلح الحياة في جميع نواحيها، ومنهج رباني يربط الإنسان بخالقه عز وجل ويربطه بمن حوله من الكائنات، يربطه بالبشر ويربطه بالحيوان والنبات ويربطه حتى بالجمادات، والإسلام ليس مجرد شعائر وعبادات يؤديها المسلمون.
والإنسان خُلق لهدف عظيم ووظيفة سامية هي العبادة بمعناها الشامل، ويدخل فيها الإحسان للآخرين ومدّ يد العون لهم وحسن التعامل معهم، يقول الله عز وجل: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [سورة الإسراء: 53].
وما يميز العبادات في الإسلام أنها ثنائية الوجهة، فهي من جهة موجهة للخالق عز وجل، ومن جهة أخرى موجهة للمجتمع الذي يعيش فيه المسلم، وقد تحدث المفكر الراحل علي عزت بيغوفيتش في كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب" عن ثُنائية أعمدة الإسلام الخمسة وبيّن أن الهدف من أركان الإسلام هو التقرب للخالق عز وجل وهي في الوقت نفسه موجهة ومبيّنة لطريقة التعامل مع الخلق.
والمتأمل في العبادات التي شرعها الإسلام يلحظ بجلاء الدور الاجتماعي للعبادات في الإسلام، فالهدف منها تهذيب النفوس وتقويم السلوك المعوجّ، يقول الله عز وجل عن دور الصلاة في الحفاظ على طهارة المجتمعات: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [سورة العنكبوت: 45].
يقول السعدي في تفسيره: "ووجه كون الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر أن العبد المقيم لها، المتمّم لأركانها وشروطها وخشوعها يستنير قلبه، ويتطهر فؤاده، ويزداد إيمانه، وتقوى رغبته في الخير، وتقلّ أو تعدم رغبته في الشر".
ويقول الله عز وجل عن الزكاة وأثرها في تطهير النفوس: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [سورة التوبة: 103].
ورد في تفسير السعدي:"{تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة. {وَتُزَكِّيهِمْ} أي: تنمّيهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم".
والله سبحانه وتعالى جعل قول المعروف للفقير والمسكين خيرًا من الصدقة التي يتبعها المنّ والأذى، يقول تعالى :{قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [سورة البقرة: 263].
ويقول تعالى عن الحكمة التي شُرع من أجلها الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة البقرة: 183].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ" (صحيح البخاري: حديث رقم 1903).
ويقول تعالى عن الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [سورة البقرة: 197].
يقول السعدي في تفسيره: "الرفث وهو: الجماع ومقدماته الفعلية والقولية، والفسوق وهو: جميع المعاصي، والجدال وهو: المماراة والمنازعة والمخاصمة، لكونها تثير الشر، وتوقع العداوة".
وكثير من الأحاديث التي وردت عن الرسول صلى الله عليه وسلم تحثنا على الإحسان إلى الآخرين ومساعدتهم ومعاملتهم بالمعروف وبالتي هي أحسن، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ" (صحيح البخاري: 13).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المُسْلِمُ مَن سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمُهَاجِرُ مَن هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عنْه" (صحيح البخاري: 10).
والمحافظة على النظافة العامة تُعدّ شعبة من شعب الإيمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ" (صحيح مسلم: 35).
وأجر الأعمال التي ينتفع بها الآخرون عظيمة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "بيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي بطَرِيقٍ، وجَدَ غُصْنَ شَوْكٍ علَى الطَّرِيقِ، فأخَذَهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ له، فَغَفَرَ له" (صحيح البخاري: 2472).
والمتأمل في هذه الأحاديث وغيرها يجد تركيز النبي صلى الله عليه وسلم على التعاملات اليومية بين المسلمين وعلى أثر العبادات في الارتقاء بها، وقد بيّن لنا أن الهدف من بعثته صلى الله عليه وسلم هو الارتقاء بمستوى التعامل بين الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ وفي روايةٍ (صالحَ) الأخلاقِ" (السلسلة الصحيحة: 45).
وكثير من الأعمال الصالحة التي رُتّبت عليها أجور كبيرة تتعلق في مجملها بما ينفع الناس، وأجور العبادات المتعدية كما يقول العلماء أكبر من أجور الأعمال التي يقتصر نفعها على صاحبها.
والمتأمل في آيات القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية يجد أنها تربط العبادات التي يؤديها المسلم بالسلوك مع الناس، ولكن واقع المسلمين اليوم يشهد انفصامًا بين العقيدة والعبادات وبين السلوك والتعامل اليومي مع الآخرين، والمطلوب من المسلمين اليوم أن يراجعوا تعاملاتهم مع الآخرين ومدى قربها أو بعدها عن تعاليم الإسلام، وأن يظهر أثر العبادة وينعكس بالإيجاب على تعاملاتهم مع غيرهم، فلا يكفي أن تؤدي العبادات لكي تكون مسلمًا حقًّا، وإذا لم ينعكس أثر هذه العبادات على تعاملاتك مع من حولك فلا خير في هذه العبادة ولا ثمرة لها.