الفلسفة علم إنساني بحت، لا يمكن تعلمه، ولكن يمكن تعلم التفكير بطريقة فلسفية؛ فالفلسفة تعمل على إثارة الوعي النقدي داخل الشخص، ليطرح السؤال، ويبحث عن الإجابة، وعملية البحث تلك تقضي بأن يكون الشخص صبورا، مُحبا للمعرفة. فالفلسفة وإن كانت تبحث في بديهيات الأمور ومسمياتها، ثم تطورت مواضيعها لتشمل كل ما في المجتمع، إلا أن لها فضل كبير على البشرية لا يمكن إغفاله.
وكما الحال مع أي علم، لا بد من تاريخ لنشأته وتطوره، فأردت أن أسرد في 3 مقالات تاريخ الفلسفة؛ المقال الأول: ما قبل سقراط. المقال الثاني: سقراط وتلامذته. المقال الثالث: ما بعد سقراط. راجيا التيسير والتسهيل على كل مبتدئ في ذلك العلم. وقد قيل من قبل اكتب فيما تحب، لعل الناس تنتفع، وأكثر ما أحب الكتابة فيه هو الفلسفة، لأني أطرح على نفسي وعلى القارئ أسئلة كثيرة، أجعله يشاركني ويناقشني في الرأي، ويخالفني عن حب وطمع، فأعرف حينها أنه قد فهم الدرس، وحمل عقله على التفكر والسؤال.
فَفُز بعلم ولا تطلب به بدلا
فالناس موتى وأهلُ العلم أحياءُ
معنى كلمة الفلسفة
هي كلمة يونانية مكونة من مقطعين (philosophe)، المقطع الأول (philo) ويعني مُحب، أما (sophe) فتعني حكمة، فتكون الفلسفة -كما قال فيثاغورث- المحب للحكمة، وقد رفض فيثاغورث أن يوصف بالحكيم، وقبِل الوصف بالفيلسوف، مُعللا أن الحكيم واحد، وهو الإله، أما الباحث المُتعقل الفيلسوف يكون محبا للمعرفة وهي السبيل الأمثل للإله.
مرت الفلسفة بأطوار عديدة، بين النشأة والنكسة والثورة والتجديد والنهضة، حتى عادت لدائرتها الأولى في عصرنا الحالي.
عصر ما قبل الفلاسفة
حين نتكلم عن الفلسفة، فإنه من غير الصحيح أن نختزل تاريخ ونشأتها كلها في عصر سقراط وتلامذته، بينما هم لم يكونوا سوى حلقة في تاريخ الفلسفة، أُطلق عليها اسم فترة الثورة والتجديد. لذا، فعلينا الرجوع إلى ما قبل تلك الثورة.
سادت بين الناس الأساطير، والأساطير هنا لا تعني المفهوم العلمي الذي تعرفه، فهي ليست علما يُدرس ضمن مؤثرات التاريخ، وإنما الأساطير كانت عبارة عن دين؛ فالأسطورة دليل على خيال الإنسان، فمن خلال تلك الأسطورة حاول الإنسان فهم الطبيعة المحيطة به، وكما تعلم أن الإنسان يخشى من كل ما هو مجهول، فيسعى لتكوين هالة هلامية تُرضي غريزة الفضول بداخله، فيكوّن حول الظاهرة قصصا تُرضي عقليته، وبالتالي، تنشأ الأساطير، والتي هي انعكاس تفاعل الإنسان مع الطبيعة من حوله؛ فتفاعل الإنسان يكون قاصرا على الرموز والصور والأشعار، أما الطبيعة من برق ورعد ومطر، فقد رمزها الإنسان من هوله وخوفه، بل ونسج قصصا حول دورة حياة الأرض، من جفاف لمطر لنبات وحصاد.
وكي لا أُطيل عليك، أقول إن الإنسان يملك في داخله عقلين؛ عقل باطني خيالي مسؤول عن ابتكار القصص والأساطير تلك، وعقل علمي مسؤول عن البحث والتنقيب ومنطَّقة الأمور. الأول سبب للثاني، فلولا الخيال لما سعى الإنسان لبلوغ القمر؛ فروايات الخيال العلمي في القرن الـ19 هي السبب الرئيس وراء صعود إنسان القرن الـ20 إلى القمر.
ويحدث في زمن أن يظهر فيلسوف أو مفكر أو نبي يدعو قومه إلى القطيعة المعرفية التامة مع تلك الأساطير، فهنا، نكون قد دخلنا عصر الثورة والتجديد، فيتم تحييد الأسطورة. وهذا ما أحدثه سقراط، والذي قام بقطيعة معرفية تامة مع كل ما هو أسطوري، ومن بعده أفلاطون الذي مقّت الأسطورة بشدة، رغم أن أرسطو تلميذه كان أكثر لينا في ذلك الأمر.
فالأسطورة أمر مهم للإنسان، وما دام هناك وجود للإنسان فلا بد من وجود للأسطورة، فالإنسان مجبول على حب القصص والحكايات الخيالية، لكن الفرق، أن الأسطورة أمر مشاع عام، يشترك فيه العامة والخاصة، الشعب بأسره، الأمة كلها. فليست أمرا قاصرا على فئة بعينها، وقد قال فرويد:
إنما الحلم أسطورة الفرد ولا يمكن تفسيره إلا بشبقه الفردي.
أما الأسطورة فهي حلم شعب وتُفسر بالشبق الجماعي،
على أن الرموز في كليهما هي هي.
فالفرق بين الحلم والأسطورة؛ أن الحلم يتراءى للفرد الواحد، أما الأسطورة فهي حلم شعب بأكمله.
وقد عاش الناس في ظل الأسطورة، رغم أنهم هم من اختلقوها، إلى الحد الذي إن عارضها أحد الفلاسفة كان مصيره القتل. فصارت الأسطورة مالكة للعقل الجمعي، رغم أنها من صنعه، والسبب عائد إلى أن الإنسان قدسها، وعبر بها من مرحلة تفسير الكون إلى مرحلة التسليم المُطلق، أو تحولت الأساطير الأولى -بلغة عصرنا- إلى أيديولوجية. ونادرا ما ظهر فلاسفة تناولوا الأسطورة بشكل نقدي قبل سقراط؛ ففي عام 570 ق.م كان هناك كزينوفان، والذي انتقد ذلك الوعي الجماعي المُنبطح لخياله الأسطوري قائلا "لقد خلق الناس الآلهة على صورتهم، وهم يعتقدون أن الآلهة ولدت بجسد يرتدي الملابس، وتتكلم مثلنا. الإثيوبيون يقولون إن آلهتهم ذات أنف أفطس، ولون أسمر. بينما يقول "التراكر" (thraker) إن آلهتهم زرقاء العيون، حمراء الشعر. ولو أن الثيران والخيول والأسود عرفت أن ترسم لرسمت الآلهة على شكل عجل، حصان أو أسد".
فلاسفة ميلي الأوائل (القرن الخامس قبل الميلاد)
لنبدأ مع الآباء المؤسسين، والذين لم تخلُ فلسفتهم من النزعة الأسطورية، وأولهم طاليس. كانت الفلسفة قبل سقراط تهتم بالمسائل الكونية (فيزياء الكون)، كيف وُجد الإنسان؟ ومما يتكون؟ وهل هناك علاقة بينه وبين ذلك الكون الفسيح؟
حاول الفلاسفة معرفة أصل الوجود، فجاء أول الفلاسفة من "ميلي" ويُدعى طاليس، والذي رأى أن أصل الوجود يكمن في الماء وأنه العنصر الرئيس والأساس الأصيل لوجود كل ما هو في الكون هنا.
ثم جاء أناكسيمندر، والذي لم يُعّر اهتماما واضحا بعنصر واحد مكون للوجود، فقد رأى أن عالمنا ما هو إلا نقطة من بحر عوالم مُتعددة تنبع وتعود إلى المُطلق اللامحدود؛ لكننا لا نعرف ما هو اللامحدود المُطلق الذي أشار إليه.
وكان آخر فلاسفة ميلي هو أناكسيمانس، والذي نحى منحى طاليس، وحاول معرفة أصل الوجود، ورأى أن الضباب والهواء هما أصل الوجود، حتى إن المياه يحملها الهواء لتتساقط في كل مكان. لذا، فإن الهواء والضباب -حسب رؤيته- يشكلان العنصر الأصيل.
بين العقل والحواس
دخلت الفلسفة في طور تنافسي بين العقل والحواس، وكل ذلك لمعرفة أصل الوجود:
- بارمينديس: كان ذلك الفيلسوف من إيلي جنوب إيطاليا، واستقر في أثينا لفترة من الوقت، ورأى أن فكرة تغير وانبثاق الكون، غير عقلانية، فلا شيء يولد من لا شيء، فرفض تحول الأشياء وتغير الكون؛ فالكون -في نظره- أبدي الوجود، ولا يجوز له التغير، كذلك كل ما فيه لا يتغير، كالإنسان والحيوان والنبات. ورأى أن تلك الأمور لا نقيسها بحواسنا، فالحواس خداعة، وإنما بعقولنا.
- هيراقليطس: كان على عكس بارمينديس تماما، فقد كان يرى أن كل شيء في تغير وتطور وحركة مُستمرة وأن العقل الفردي هو من يخدعنا، والحواس أصدق من العقل، وقال إنه لا يسعنا نزول نفس النهر مرتين، فالمرة الثانية ستكون قد تغيرت قطرات المياه فيها عن المرة الأولى، كما أنك أنت الإنسان ستكون قد تغيرت. والحاكم لتلك التغيرات والتحولات الحتمية، هو العقل الكلي (اللوغوس) أو الإله في نظره.
- إمبيدوكليس: حاول هذا الفيلسوف أن يوازن بين العقل والحواس، بين بارمينديس وهيراقليطس؛ فسبب الخلاف عنده أنهما اعتقدا بوجود عنصر واحد للكون، قد لا يسع للعقل تصديق تغيره رغم مشاهدتنا له بأم أعيننا، لذا، حاول من خلال ذلك التوازن أن يُحدد أصل الوجود، فقال إن للوجود 4 عناصر: "الماء، الهواء، التراب، النار"، وهي العناصر التي جابت الشرق كله، واختلطت بها فلسلفات الأقدمين بعد الغزو الهيليني لها، مثل البوذية والهندوسية والزرادشتية. وقد سمّى إمفيدوكليس تلك العناصر "جذور الطبيعة".
جزء من الكل في الكل
كان صاحب تلك المقولة هو الفيلسوف أناكساغوراس، والذي رأى أن الطبيعة تحتوي على أجزاء صغيرة جدا، وتلك الأجزاء جزء من الكل (الطبيعة)، والإنسان هو جزء من الكل الكلي (الإله)، والإنسان يحتوي بداخله أجزاء أصغر، هي جزء من الكل بالنسبة لها (الإنسان).
ظلت تلك الأفكار المختلفة (المتضاربة) تجوب البلاد حتى ظهر ديمقريطس، وكان ماديا صرفا، ملحدا، حاول الموازنة بين أبدية الكون وتغيره، فرأى أن الكون أبدي، يحوي بداخله أجزاء صغيرة، أطلق عليها اسم الذرات، تلك الذرات المكونة للكائنات الحية، متغيرة، تأخذ في التشكل في أكثر من صورة؛ نبات، حيوان، إنسان. فالكون أبدي لا يتغير عنده، ولكن ذراته هي المتغيرة.
يتبع..
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.