شعار قسم مدونات

معركة "ديو" البحرية عام 1509 والثأر المقدس

blogs معركة ديو

لقرون سيطر العرب على طرق تجارية دولية رابطة بين الشرق والغرب، فالعرب ومع بدايات الفتح الإسلامي تمكنوا من رد الأوربيين على أعقابهم وتقليم أظافرهم سواء كانوا بيزنطيين أو روم أو قوط شرقيين، ورغم أن بعضاً من ملوكها أي أوروبا استطاعوا استعادة بعضاً من جزرها في البحر المتوسط وعلى رأسها جزيرة صقلية وقبرص، ووصلت بعض حملاتهم في بعض الحالات لسواحل الشام ومصر، وتمكنوا في إحداها بتأسيس عدد من الإمارات على رأسها إمارة بيت المقدس، إلا أن المشرق العربي كان في كل مرة يردهم على أعقابهم مهزومين مندحرين.

 

ومع نهاية القرن الخامس عشر تبسم القدر لأوروبا وملوكها، فغرناطة آخر معاقل العرب في شبه الجزيرة الأيبيرية -إسبانيا والبرتغال حالياً -تسقط عام 1492 تحت سنابك جيوش ملوك قشتالة وأراغون، وقبلها بسنوات قليلة كان الملاح البرتغالي "بارثولوميو دياز" قد اكتشف رأس الرجاء الصالح عام 1488، وفي سابقة تاريخية هي الأولى من نوعها وصل الملاح البرتغالي "فاسكو دا جاما" عام 1498 إلى الساحل الهندي.

 

وعلى إثر نجاح حركة الملاحة البرتغالية التي انطلقت بالأساس بهدف إحداث اختراق ما لكسر هيمنة المشرق العربي على التجارة الدولية، ومنذ اليوم الأول لوصول بحارتها أي البرتغال للهند سعت على فرض هيمنتها على طرق التجارة الدولية، حيث أسست خلال فترة وجيزة ما بين عام (1500-1508) سلسلة من القواعد التجارية والمستعمرات من غرب أفريقيا إلى شرقها وصولاً لسواحل الهند، كما توغلت جنوب شبه الجزيرة العربية بعدما لامست رخاوتها، فسيطرت عام 1507 على مضيق هرمز وهددت بالاستيلاء على خليج عدن.

 

شكل التوسع البرتغالي المتسارع في المحيط الهندي تجارياً وعسكرياً وحتى سياسياً، واعتداءاتهم المتواصلة على القوافل والسفن التجارية في بحر العرب والمحيط الهندي، بالإضافة لتطلعها للوصول للبحر الأحمر والأماكن الإسلامية المقدسة بالحجاز، خطر على عدد من دول والممالك المستفيدة من التجارة مع الشرق، وعلى رأسها دولة المماليك وجمهورية البندقية، فدولة المماليك التي أنهت الوجود الصليبي (الأوروبي) في المشرق العربي بعد صراع مرير، لم تتوقع في أسوء كوابيسها أن يساهم وصول البرتغاليين بهذه السرعة إلى الساحل الهندي من حرمانها من عماد اقتصادها، القائم وقتها على عائدات الضرائب التي كانت تفرضها على التجارة القادمة من الشرق.

 

رغم وجود الاسطول البحري المملوكي لرد عدوان البحرية البرتغالية، إلا أن الاعتداءات البرتغالية على القوافل البحرية زادت حدتها، وكادت أواخر عام 1507 أن تشل النشاط التجاري البحري المملوكي بالكام

وأمام عجز دولة المماليك في التصدي للخطر البرتغالي المتصاعد بسبب افتقارها للأساطيل البحرية القوية، اوفدت جمهورية البندقية -التي لم تكن راغبة بوجود منافس تجاري قوي لها في القارة العجوز-وفودها لبناء تحالف يتصدى للوجود البرتغالي في الشر، وبالفعل تم تشكيل تحالف ضم المماليك والبنادقة والدولة العثمانية الفتية وقتها، وعلى أثر هذا التحالف تم في عام 1505 إرسال اول حملة بحرية مملوكية بقيادة الأمير "حسين الكردي" نائب السلطان المملوكي "قانصوه الغوري" في جدة، وكان الهدف من الحملة مراقبة التحركات البحرية البرتغالية وحماية القوافل البحرية في بحر العرب والمحيط الهندي.

 

ورغم وجود الاسطول البحري المملوكي لرد عدوان البحرية البرتغالية، إلا أن الاعتداءات البرتغالية على القوافل البحرية زادت حدتها، وكادت أواخر عام 1507 أن تشل النشاط التجاري البحري المملوكي بالكامل، مما دفع "حسين الكردي" للتحرك بأسطوله صوب سواحل الهند بالقرب من ممباي بعد التحالف مع سلطان جوجارات الهندية، واشتبك هناك مع البحرية البرتغالية وهزمها شر هزيمة في موقعة "شاول" أو "غوا" عام 1508، والتي قتل فيها " لورنزو" ابن الحاكم البرتغالي للمستعمرات الهندية "فرانشيسكو دي ألميد".

 

شكل مقتل " لورنزو" ابن "فرانشيسكو دي ألميد" نقطة تحول في مجريات الصراع الجاري في المحيط الهندي، إذ أقسم "فرانشيسكو دي ألميد" على الثأر لمقتل ابنه وللسمعة البحرية البرتغالية، وقد دفعه تعطشه الشديد للانتقام لرفض قرار ملك البرتغال "مانويل الاول" وزج الحاكم الجديد في السجن القاضي بعزله، وقضى "فرانشيسكو دي ألميد" الأشهر التي تلت هزيمة موقعة "شاول" في تتبع الاسطول المملوكي، متحين الفرصة المناسبة للمباغتة الاسطول المملوكي وتدميره.

 

في أوائل شهر شباط عام 1509 وبينما كان "حسين الكردي" ينتظر انتهاء موسم الامطار للعودة للمصر بغته الاسطول البحري البرتغالية بقيادة "فرانشيسكو دي ألميد"، وعلى أثرها التحمت البحرية البرتغالية والبحرية المملوكية في معركة حامية الوطيس قرب جزيرة ديو، بدأتها البحرية المملوكية خفيفة الحركة بعمليات كر وفر، إلا أن افتقار البحرية المملوكية للمدفعية الثقيلة والخبرة الكافية دفعها للتراجع للاحتماء بمدفعية جزيرة ديو، الأمر الذي سهل على البحرية البرتغالية الأكثر تطوراً وعدة من تطويق البحرية المملوكية وتدميرها والاستيلاء على جزيرة ديو.

  

أصبح البرتغاليين بعد انتصارهم المدوي في معركة "ديو" أصحاب السيادة المطلقة على طرق التجارة الدولية، وشرعوا بالتمدد والاستيلاء على الموانئ البحرية المهمة واحدة تلو الاخرى مثل ممباسا ومسقط وكوا وسيلان، مما سمح لهم بتشكيل إمبراطورية يمتد نفوذهم من اليابان شرقاً إلى البرازيل غرباً، وبذلك أحكموا سيطرتهم على تجارة التوابل والمنسوجات الحريرية الموردة إلى أوروبا قرابة مائة عام، وعبّدوا الطريق للقوى الأوروبية الاخرى كهولندا وإنجلترا وفرنسا لفرض السيطرة على البحار والمحيطات وتسيد العالم فيما بعد.

 

في الجهة المقابلة كانت هزيمة المماليك في معركة "ديو" كارثية بكل ما تحمل الكلمة من معنى وضربة قاسمة للتجارة الدولية في المشرق العربي، وعلى أثرها فقد العرب والمماليك أهم عناصر قوتهم التي تفاخروا بها أمام العالم لقرون وهو احتكارهم وتحكمهم المطلق بالطرق التجارية الدولية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.