فتحت نافذة اليوتيوب التي تؤنس وحشة الليل الطويل. كان فيديو لـصدام حسين ماثلاً أمام المحكمة كفيلاً بتوالي الفيديوهات، من صدام إلى مقابلاته وصولا لـعديّ. لعله قصة متفردة عن البقية. إنه عديّ صدام حسين مواليد 1964 الذي يهتز بيت الشعر خشية منه. قلّبت الفيديوهات، ثم بدأت في الكتب والمقالات الموثوقة. استفزني عديّ لأكثر من أسبوعين، قرأت مطولاً عن حياته، لم يكن شخصا يمكن تخطيه بسهولة، قراءة كان أو مشاهدة، فكيف من تعامل معه وجهاً لـوجه وعاشر تفاصيله النرجسية! من يعرف عديّ يعلم بأنه رجل مال وسلطة، لا يهوَ السهر بتفاصيله النمطية، فلعدي الكثير من الإضافات التي تتناسب مع شغفه لتجربة كل جديد، وتحويل الرتابة إلى شبق يملي رغبته في تحقيق المتعة والملذات.
عاش عديّ أول 15 عاماً من عمره كـمواطن عراقي عادي قبل أن يتحول عام 1979 إلى "نجل الرئيس". 14عاماً من عمره عاشهم كمراهق في كنف عائلة تقليدية الشكل، قبل أن تدفعه وقصي إلى قتل معارضين لوالده بالرصاص الحي، في حين لم يتخط واحدهم الـ 15 سنة. لعلها لحظة مفصلية في حياة طفلين ما عادوا أطفالاً بعدها. أظن بأن عديّ لم ينم جيداً تلك الليلة، تقلّب كثيرا ربما، تبدّلت أحلام ذاك الفتى الذي يلهو مع الأخوة على ضفاف دجلة بـصحبة العائلة كما أظهره الفيديو، لعله الأصدق من بين العديد من الصور التي تبسموا زيفاً لأجل صورة العائلة الحاكمة أمام المجتمع العراقي-العربي والغربي المتربص لسكناتهم.
انسف طفولة أي ولد في العالم وخذ ما يدهشك من الطغيان. لا يمكن أن تتخطى هذه المرحلة من حياة عديّ صدام المصبوغة بالدماء دون أن تعرج إلى بداياته. المبدأ الإنساني يقول "احم طفلك ما استطعت من الأذى واردعه عن أذية الغير" لكن أن تدفع بابنك المراهق إلى قتل من يعارض نهجك الأمثل بحسب رؤيتك، فأنت بتصرفك تعلن اكتفاءك ضمنياً من هذه الأبوّة، محوّلاً ذاك الماثل أمامك كـ "ابن" إلى جندي ينفذ دون اعتراض. وفي نفس السياق، امتثل عديّ للحالة الجديدة مكتفياً من الارتباط الأبوي السابق معلناً جهوزيته إلى رد الأذى عن والده مهما كلّف الأمر من أرواح "خائنة". لا ثمة رادع لـعديّ حتى والده الذي حاول معاقبته مراراً ولكن! هل ينفع العقاب مع عديّ حتى وإن كان المعاقب صدام حسين بنفسه! لم يعد يعرف الرهبة ولا الخوف، وراح شيئا فـشيئا ينزلق نحو هاوية شكّلها بتصرفاته ونزواته المتكررة.
الطمأنينة.. الحب.. والاستقرار، ثلاثة عناوين لحياة سويّة. لم يجد الاستقرار طريقه إلى عديّ لفرط عبثه مع اللهب، مما استحال العيش بصورة آمنة |
ثمة ما وددت معرفته عن عديّ حين أردت البحث عن الإنسان به. ذكر أحد العاملين لديه عن وقوعه في الحب لمرة واحدة في حياته! بدت لي المعلومة كـرأس خيط، فإذن لـعدي قلب محب، نفس القلب الذي دفعه لـقطع أذن فلان أو لسان فلان لسبب يتعلق مثلاً بخطأ تقني في تلفزيون أشرف على تفاصيله "ملك الإعلام" كما أُطلق على عديّ آنذاك. لم يوافق الرئيس صدام على زواج عديّ من تلك البغدادية التي لا تربطها أي صلة قربى من عشيرة البو ناصر التي ينتمي إليها صدام.. ولا تنتمي إلى صفوة المجتمع المقربة من النظام العراقي، ولا هي من "البيجات" (تسمية عثمانية وتعني…البيك).
كان الرصاص الحي لعبة الابن الأكبر، عديّ صاحب البنية المتينة والكاريزما العالية -باٌعتراف أميركي- جعلته يبني لنفسه عرشاً خُيل إليه أعلى العروش، هُيئت له كل أدوات السلطة، فـصُقلت عنجهيته ومكّنته من السطوة. حفلات تنتهي مع بزوغ الفجر ورصاص مجنون لا يتردد في إطلاقه حتى في الأماكن المغلقة.
خسر عديّ معركة حبه للبغدادية، كما خسر طفولة كان يبدو فيها بريئاً، كان الأخير قريباً أكثر لعائلة الوالدة ساجدة خير الله الطلفاح من عائلة والده. أحب عديّ خاله الوزير عدنان خيرالله كثيراً، ولعل تحطم طائرة الخال في ظروف غامضة أثناء عودتها إلى الموصل سنة 1988، شكلّت فارقا مأساوياً لـعديّ الذي شعر بـخاله الأكثر تفهماً له. قلة قليلقة سكنت قلب عديّ الذي يبسط دواخله أمام الأصحاب، لم يستطع كبح أحاسيسه خاصة تلك السيئة منها، لكنه أخفى الكثير حتماً خشية هيبة السلطان أمام حاشيته.
قهقهاته تعبأ مكانه، إلا أن ابتساماته الصادقة بقيت قليلة، ظهرت في صور مع والده الذي لم تربطه علاقة مثالية معه، وبعض الصور التي يظهر فيها حاملاً أبناء الأخ/ت ببهجة. تكلم بعض المقربين من عديّ عن سوء المشاعر التي حملها بقلبه تجاه والده، لعله سوء تحليل لا يمت للحقيقة بـصلة، إذ كان جلياً كالشمس معاينة عشقه لتفاصيل والده الذي يريد أن يكونه. صدام كان المثال الأعلى لـبكره الذي أساء التصرف بهذا التمثل على كافة المستويات، لم يكره عديّ والده حتماً، حتى يوم قال غاضباً "لو ما والدي شنت قطعت راسه بالسيف" حيث كانت واحدة من جُمل عدي الواهية، قيلت في عصبيته التي لا يؤخذ منها حقا ولا باطلا، عارض عديّ والده في تصرّفه السياسي الذي غاب عنه الدبلوماسية، مما أغرق البلاد في حروب أدت إلى صعوبة تشكيل صداقات للنظام العراقي مع الغرب. لكن صدام حسين ظلّ نقطة القوة والضعف لـ عديّ الذي استمد سلطانه منه.
الطمأنينة.. الحب.. والاستقرار، ثلاثة عناوين لحياة سويّة. لم يجد الاستقرار طريقه إلى عديّ لفرط عبثه مع اللهب، مما استحال العيش بصورة آمنة، كيف وإن كان الأمان أصلا غير متوفر في حياة أسرة تخشى الغدر. استبدل عديّ فقدانه الأول بـمئات النساء اللاتي أساء معاملتهن حد العنف، اختارهن كـطقم فناجين قهوة تنتهي صلاحيتهن خلال ساعات، ثم يبدلهن بـطقم آخر ونقشة جديدة تحيي اللظى.
رغم التجاجه، احتاج عديّ إلى الغفران، لا سيما من والده الذي خسر ثقته، غفران لم يفعله في يومياته المكررة بـروتينها الظاهر للعيان والمختلفة في تصرف عديّ فيها. سكن في برج تعالت جدرانه عن الإنسانية، ترك روحه في زاوية ما، وراح ببطيء خطواته المعهودة يلهث خلف اللاشيء سعياً لكل شيء، حفلاته وُصفت بالمجون والجنون يحاول فيها تعويض الفراغ في نفسه، ينتقم ممن حوله ومن النساء، فمن يتمنع أمام جبروته؟! ضحكاته وُصفت بـهستيرية وشت بـمشاعره المتقاتلة معه، لا ثمة مشكلة لـعديّ إلا هو نفسه.
ذكر مقربون منه عن أيام استيقظ فيها عديّ مفزوعاً، أمر رجاله يومها شراء الهدايا التي مضى بها إلى دار الأيتام، مشهد إنساني تتناقض مع شخصية عديّ المتعنتة والمكابرة. لم تعد في النهايات تصدمني شخصيته المتناقضة حد الهلاك، كأن يترجل من سيارته عند رؤيته لـرجل كبير في السن يبدو عليه الهم، فـيسأله عن حاله وأحواله. افتقد عديّ لـلكتف، لـحكمة تتلقف جموحه بـحنو يقابل جوره. هو رجل ثلاثيني .. سريع الغضب كـعشريني، يتصرف كـمراهق يحطم بكل ما أوتي من استبداد، ثم ينفث الهافانا منتظراً احتواء الموقف كـردة فعل مقابلة لـعصيانه، معتبراً استيعابه واجب حق، لكن أحد لم يفعل ذلك. تقول رغد صدام في إحدى المقابلات "كنا عائلة مثالية" لم أقتنع بهذه الجملة، فالمثالية هي نزعة إلى الكمال الذي لم تبلغونه في ظل التصدعات التي عاشها أفراد العائلة كل على حدة.. وعديّ خير مثال.
لم تعد نظرتي الأوليّة لـعديّ الفاجر بأحكامه على الآخرين مماثلة في نهاية الاكتشاف، أمسى عديّ بالنسبة لقراءتي ضحية، وإن كان التوصيف مبالغاً به. ضحية سوء التوجيه الأسري، ضحية مسمى "نجل الرئيس" الذي رخّص له " المال والعيال". عبثية قضاها بين مظاهر المادة وحياة الجسد وبعض الصيد البحري والبري أو البشري حتى. تملّك ما لا يمكن تملّكه، ولم تسد كل ملكته وأملاكه رمق نفسه الطامعة إلى احتياز كل شيء.
غاب الحب عن طرقاته المتعرجة، لم يعرف العطف مسلكاً لـعدّاي وهو الأحوج.. أحب والدته بـجنون قاده لقتل من آلمها. أحب خاله الذي يوم زاره قبره بكى نفسه الوحيدة وسط خراب يعتريه وغدر يحيطه، تاهت السكينة عن بابه ولا أظنه تذوق طعمها يوماّ. أحب فتاة ظل يذكرها لسانه، أحب والده حد الغيرة من المقربين منه. كثير من العنف رافق عديّ، وجزيئات حب من هنا وهناك اقتات عليها، ولعل آلاف الإطراءات من مريديه الذين يفقه عدي حقيقة مشاعرهم، وحدها من متّنت رباطة جأشه وثوران كبرياءه وأعادت توازنه لبسط نفوذه فارضاً مزاجيته المحيّرة.
فتى غاضب، أناني، يريد الحب، المال، السلطة، النساء، سادي في استذواق الأنين ثم يريد العطف.. متهور حد الجريمة.. شجاع يروّض الأسود، فارس لا يأمن يمينه، لا يسلّم ظهره، مغرم بنفسه ويريد الغفران طوعاً أو بأسلوبه، بحث كثيرا عن شيء لا يعرفه قاموسه، لكنه في قاموس الإنسانية نسميه "حب". في أواخر لحظات حياته قاتل الأمريكي بما حمل من اسمه نصيب، "عديّ" اسم يُطلق على المقاتلين الأوائل الذين لا يتوانون عن قتال الأعداء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.