شعار قسم مدونات

وعاظ الرأسمالية.. الخطاب الديني في عصر اقتصاد السوق!

blogs الخطاب الديني

إن الوعظ الديني كآلية لنقل التصورات والمفاهيم والسلوكات المثالية لممارسة الدين لا يقتصر على الإسلام، وكظاهرة تاريخية سنجد أن جميع المجتمعات البشرية طيلة عصورها عرفت نشوء طبقة حارسة لتعاليم الدين ووصية عليه احتكرت فهمه وتأويل تعاليمه مستهدفة ضبط المجال العام والرقابة عليه. ويجد الوعظ الديني في حالة الإسلام طبيعته من جوهر الدين حيث يلعب دورا مهما في ضبط كافة تفاصيل الحياة للفرد المسلم من منطلق سلطته الروحية، ولذلك عملت السلطة منذ فجر التاريخ الإسلامي على توظيف مخرجاته وتأميمه لفرض قراءة معينة ضيقة للإسلام، تختزله في منظومة نواهي وأوامر بغية نشر فكر جبري يجتث الحمولة الثورية الكامنة في الدين الإسلامي ويبرر للمظالم الاجتماعية وعسف السلطة ومروجا لفقه سلطوي يقدس طاعة ولي الأمر ويعتبرها من الكبائر العظمى.

ولقد ظل هذا المجال قناة للتواصل وأداة لإخضاع الرعية ولذلك عملت السلطة على احتكاره وتأميمه، إذ أفضى هذا لتبلور مؤسسة دينية رسمية يسميها عالم الاجتماع العراقي علي الوردي بوعاظ السلاطين في كتابه الشهير الذي يحمل نفس الاسم وهي فئة تكسبت ماديا من الوعظ والإرشاد وكان لها تأثير حاسم في ذلك الانحراف الخطير في مقاصده حينما تحول من أداة للضغط على السلطة وتصويبها إلى أداة لتثبيط الجماهير وتغييب العقول فيقول في كتابه وعاظ السلاطين بأن السلطة السياسية سعت على الدوام لتوظيف الوعاظ الرسميين لإلهاء الرعية عن مشاكلهم الحقيقية خدمة للسلطان وقلب المفاهيم حيث تصور الخطايا الفردية في كونها السبب الرئيسي في شقاء المجتمع وتعاسته وبحسبه فهذا الفقه أراح الطغاة وأزاح عن كواهلهم مسؤولية ما اقترفوها من مظالم.

ومع انفتاح المجتمعات العربية والإسلامية ثم تطور وسائل الاتصال الحديثة وظهور منابر جديدة كالقنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي اتسع نطاق الوعظ الديني فلم يعد مقتصرا على خريجي المؤسسات الدينية، بل برز جيل جديد من الوعاظ من خارجها يمثلون خط ونهجا مغايرا وفكرا يواكب مستجدات العصر ومن أبرز من يمثلهم لفيف واسع من الدعاة من جملتهم المصري عمرو خالد ومصطفى حسني.

يشكل تيار الوعظ الفضائي الذي يمثله عمرو خالد في العالم العربي من سميتهم بوعاظ الرأسمالية، مظهرا عن الصناعة الثقافية الترفيهية كما تجسد تجارة مربحة لها سوق واسع يتوخى الربح ويخضع لقانون المنافسة

هذا النمط الجديد من الوعظ الديني يتسم بأنه امتداد لسابقه في بعده الجبري الذي يلغي أي اعتبار لنقد السلطة السياسية ويضفي شرعية على ممارستها التعسفية وهو ما يظهر في المواقف الملتبسة التي اتخذوها مع تصاعد الحراك الجماهيري الذي صاحب الربيع العربي حيث تحاشى الكثير منهم دعم مطالب المتظاهرين بل فضل بعضهم الاصطفاف وراء السلطة والتماس الأعذار الشرعية لممارستهم القمعية، إضافة لذلك فهذا الفكر يبشر بمفاهيم جديدة في الرؤية للحياة وفي علاقة الفرد بمجتمعه تتوافق مع أسلوب العيش العصري للطبقة البرجوازية وحتى الطبقة الوسطى، حيث الهدف هو الثراء السريع بغض النظر عن التكاليف والتركيز على السعادة الفردية والطموح الشخصي والارتقاء الاجتماعي.

والشاهد أن صعود هذا النمط الوعظي مرده الأساس تلك التحولات العميقة التي شهدتها المجتمعات الإسلامية، ففي مصر أدت الاصلاحات الاقتصادية التي عرفتها حقبة الرئيس السادات إلى تبلور طبقة تجارية اسلامية مهمة سيطرت على جزء مهم من السوق وترسخت مكانتها أكثر مع موجة الصحوة الإسلامية التي شهدها المجتمع المصري والعربي منذ أواخر السبعينات حيث انتشرت ظاهرة تسليع القيم الإسلامية وخلق منتوجات وخدمات ثقافية تتوافق مع النمط الاستهلاكي فبرزت بذلك صناعة قائمة بذاتها تتجلى في الموضة المحتشمة والميديا الإسلامية والسياحة الإسلامية والبنوك الإسلامية.

وعليه يشكل تيار الوعظ الفضائي الذي يمثله عمرو خالد في العالم العربي من سميتهم بوعاظ الرأسمالية، مظهرا عن الصناعة الثقافية الترفيهية كما تجسد تجارة مربحة لها سوق واسع يتوخى الربح ويخضع لقانون المنافسة لنيل دعم المعلنين والمقاولين، حيث يجني مقدم البرنامج مبالغ ضخمة نظير عمله، فمقابل التعاقد مع القنوات الدينية يشترط الحصول على نسبة مهمة من الإعلانات وعائدات الاتصالات الهاتفية الواردة على البرنامج إضافة لعائدات بيع الأشرطة والأقراص المدمجة فضلا عن راتبه الأساسي.

 

وحتى يتوافق مع أفكاره فهو يحرص دوما على التذكير بضرورة التوفيق بين الدنيا والحياة فالإسلام لا يشترط الزهد لدخول الجنة وبأن من علامات رضا الخالق على عبده أن تظهر نعمه عليه، وبالتالي فلا حرج في استعراض مظاهر الثراء الشخصي بارتداء الحلل العصرية والبزات الفاخرة وامتطاء السيارات الفارهة خاصة أن المستهدف الأول ليس الطبقات الشعبية التي تكابد مصاعب الحياة وإنما النخب البرجوازية بالدرجة الأولى، حيث تشكل نسبة مهيمنة من متابعيه، هو ما يتناقض مع الذهنية التقليدية المرتبطة بالواعظ النموذجي كفرد ورع زاهد في الدنيا ومتاعها.

تحول المجتمعات الإسلامية نحو اقتصاد السوق أفرز ظاهرة الوعظ الرأسمالي الذي لا يتوخى تغيير المجتمع الإسلامي وتقويم سلوكات أفراده بقدر تركيزه على المصلحة الفردية.
تحول المجتمعات الإسلامية نحو اقتصاد السوق أفرز ظاهرة الوعظ الرأسمالي الذي لا يتوخى تغيير المجتمع الإسلامي وتقويم سلوكات أفراده بقدر تركيزه على المصلحة الفردية.
 

وبتحليل الأسس العامة للخطاب الوعظي المعاصر وأسلوب عمله يتضح التأثر الواضح بمخرجات العولمة في شقها الثقافي حيث يظهر أنه استنساخ للنموذج الأمريكي في توظيف الفضاء الديني وتكييفه ليلائم قناعات المستهلك وحاجياته، والواقع أنه عبارة عن محاكاة لأسلوب المبشرين الإنجيلين سواء من حيث تقنيات العرض المعتمدة على تسويق الدعوة عبر أسلوب الحوار المتلفز التوك شو واستثمار الوسائط الحديثة في التواصل كالشبكات الاجتماعية للتواصل مع الجمهور، علاوة على الاهتمام بالطابع التحفيزي المرح بلغة سهلة عامية لجلب الإعلانات وزيادة عدد المتابعين بالإضافة لكون أفكاره هي استعارة لمفاهيم مسيحية حول الترغيب في الدين والحث على التسامح والمحبة والقرب من الرب وأولوية الإرادة البشرية على القدر وكراهية التخويف من الترهيب الرباني ما لم يصل الفرد للخطايا العظيمة مع الحرص في الآن نفسه على إضفاء طابع إسلامي عليها.

وهكذا فالحاصل أن تحول المجتمعات الإسلامية نحو اقتصاد السوق أفرز ظاهرة الوعظ الرأسمالي الذي لا يتوخى تغيير المجتمع الإسلامي وتقويم سلوكات أفراده بقدر تركيزه على المصلحة الفردية والمكسب الشخصي والاسترزاق من الدين وتحويل قيمه لعلامات تجارية وصناعة تدر ثروات هائلة، وما نراه من صيغ للتدين العصري والوعظ الحديث هو في الواقع ثقافة دينية جديدة تمجد في صميمها الفكر البرجوازي وتبشر لمفاهيم حداثية تشبه أخلاق العمل البروتستانتي المستندة لعبادة الطموح والربح الشخصي فبحسب عمرو خالد الشرور الحقيقي هو الكسل والجبرية والاتكالية على الغيب والخنوع بدلا عن المبادرة الفردية، وليس هناك أي مبرر يسوغ معاداة الإدانة الأخلاقية لمراكمة الثروات وفي النهاية أن المقاصد المضمرة حسب الباحث باتريك هايني في كتابه إسلام السوق هي تعزيز الفردانية في المجتمع ثم مصالحة الإسلام بالحداثة والليبرالية وربط الدين بالتنمية الاقتصادية بتحويله إلى قطاع خدماتي منتج مع خلق الفرد متدين فاعل اقتصادي يقدس قوانين السوق بدون إيديولوجية سياسية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان