شعار قسم مدونات

شخصية ابن عربي في مسلسل أرطغرل

blogs-أرطغرل
بعدما دخل مسلسل قيامة أرطغرل عامة البيوت العربية، وأصبح تأثيره ظاهرا على الكبير قبل الصغير، كثر اللغط وانتشرت الإشكالات وتعددت الآراء واختلفت التحليلات. وهذا بحد ذاته أمر مفيد وجيد، ويثري العمل ويزيد من تأثيره وانتشاره، لكن الخطأ المتكرر أمامي في طريقة انتقاد المسلسل هو التعامل معه على أنه كتاب تاريخ، أو أن المشاهد يستقي منه التاريخ بشكل تفصيلي، رغم أن الجماهير تعرف جيدا أن الكاتب هو مؤلف قصص وروايات تليفزيونية، وأن فريق العمل هو فريق فنّي متخصص في الأعمال الدرامية وليسوا باحثين في التاريخ العثماني.

وهذا لا يعني انفصال هذا المسلسل الجميل عن التاريخ بشكل كامل، لكنه أخذ قصة بطل تاريخي صحيحة، وأدخلها على ماكينة تفصيل الأعمال الدرامية مستفيدا في ذلك من كتب مشهورة عند الأتراك بعنوان (الحكايات الشعبية)، ليخرج لنا في النهاية هذا العمل الذي أحسب أنه أرقى عمل فني في زماننا، وقد أفاد المتابعين بشكل كبير حتى كثرت القراءات والتساؤلات عن تاريخ هذه الحقبة والشخصيات البارزة في المسلسل، وكنت قد كتبت قبل ذلك عن شخصية البطل ونبذة من حياته تحت عنوان الغازي أرطغرل والد السلطان عثمان، واليوم أكتب عن الشخصية الأكثر تأثيرا على هذا البطل وإن لم يكن الأكثر ظهورا معه، وهي الشخصية التي نالت النصيب الأكبر من اللغط وإثارة الإشكالات حولها ابن العربي.

– بين أبي بكر ومحيي الدين:
لا بد أولا أن يفرق المتابع للمسلسل بين شخصيتين شهيرتين متشابهتين في بعض الأمور، وهما:
1- أبو بكر محمد بن عبد الله الإشبيلي، الإمام المالكي المذهب، الملقب بـ (القاضي أبو بكر ابن العربي).
2- محيي الدين محمد بن علي بن محمد الطائي، أحد أشهر المتصوفين، والملقب عندهم بـ (الإمام الأكبر والكبريت الأحمر أو إمام العارفين محيي الدين ابن العربي).

يتشابهان في أن كليهما أندلسيان، كما يشتركان في اسم الشهرة (ابن العربي)، بل وصل الأمر كما في كتاب (الذيل والتكملة لأبي عبد الله المراكشي) أن قال في تعريف محيي الدين: "محيي الدين، أبو بكر، ابن العربي" فجمع بينهما في اللقب والكنية، لكن بعض العلماء يميز بينهما بإضافة (الـ) للأول وحذفها من الثاني، ويشتركان كذلك في رحلة كليهما إلى بلاد الشام والعراق، إلا أن الأول قد عاد إلى الأندلس ومات ودُفن فيها، والثاني ظل مهاجرا حتى مات ودفن بالشام.

تصوير المجاهد أرطغرل على أنه لم ينتصر إلا بمعجزات وخوارق كان ابن العربي هو السبب فيها  من شأنه أن يؤثر سلبا في نفوس الشباب المتطلع للجهاد حاليا

الأول: (أبو بكر) هو الأكثر علما ومكانةً عند علماء المسلمين، بل لم يختلفوا في فضله وإمامته، له مصنفات عظيمة تزخر بها المكتبة الإسلامية، أشهرها العواصم من القواصم عن الفتنة التي حصلت بين الصحابة، كتاب عارضة الأحوذي شرح سنن الترمذي وكتاب أحكام القرءان، وغيرها، لكنه ليس هو المقصود في المسلسل لعدة أسباب ظاهرة:
1- توفي الإمام أبو بكر ابن العربي عام 543هـ، أي قبل ولادة أرطغرل بما لا يقل عن أربعين عاما تقريبا.
2- لم أجد في ترجمته أنه سافر إلى الأناضول أو حلب حيث المناطق التي تدور فيها أحداث المسلسل.
3- لم يكن الإمام أبو بكر صوفيا، ولم تكن له شطحات مثل المذكورة في المسلسل.

الثاني: (محيي الدين) وهو المقصود في المسلسل رغم وجود بعض الإشكالات، فقد توفي عام 638هـ عن عمر يناهز الثمانين عاما، أي أنه عاصر أرطغرل بالفعل، وسافر إلى حلب وأقام مدة في قونية (عاصمة الدولة السلجوقية وقتها) وتزوج فيها والدة صدر الدين القونوي، مما يقوي احتمال اللقاء بينهما، لكن الإشكالات تكمن في تقوية العلاقة بين أرطغرل وابن العربي بدرجة مبالغ فيها، بحيث يعجز الباحث في كتب التاريخ عن إيجاد شواهد أو قرائن فضلا عن أدلة عليها.

فابن العربي الذي مات عام 638هـ أي بعد وفاة سليمان شاه بعامين فقط، مازال موجودا في المسلسل رغم مرور عدة سنوات على وفاة سليمان شاه، والمتابع لعمر جوندوز ابن أرطغرل يلحظ هذا بوضوح، كما أن عثمان ابن أرطغرل الذي هو على وشك الولادة في المسلسل، قد ولد عام 656هـ أي بعد وفاة ابن العربي بثمانية عشر عاما، فإذا أضفنا إلى ذلك أن المشهور في ترجمة ابن عربي أنه قد قضى آخر خمسة عشر عاما من حياته في دمشق يكتب ويصنف ويُدرّس لطلابه، يظهر لنا قدر المبالغة الشديدة التي تم تصويرها في المسلسل عن علاقة أرطغرل بابن العربي، والذي يبدو لي، أن المؤلف استفاد من احتمالية اللقاء بين أرطغرل وابن العربي، ونسج من وحي خياله هذه العلاقة والرابطة التي تمثل مرجعية روحية دينية للمجاهد أرطغرل.

لن أتكلم كثيرا عن آراء العلماء في محيي الدين ابن عربي، فهي مشهورة منثورة، كما أن مقالا كهذا لن يحسم القضية بوجه من الوجوه، لكني أحب أن ألفت إلى أن المسلسل كان بإمكانه الاستغناء عن مشاهد الخرافة والشعوذة من أفعال ابن العربي، خاصة أن المجتمع التركي حاليا وإن كان متمسكا بالنهج الصوفي عموما، لكنه مستنكر لهذه الشطحات غير قابل لها، وهذا ملاحظ حتى على عموم المسلمين في شتى بقاع الأرض، وإن تمسك بها القليلون الذين نراهم كالشواذ من القاعدة العامة.

أحب أن أستغل هذه الفرصة حيث أتكلم عن شيخ صوفي في معرض نصرة المجاهدين، وأتمنى أن تزول الفرقة والعداوة بين السلفية والصوفية، فالعدو فوق رؤوسنا يقتل جميع المسلمين دون تفرقة.

الأمر الثاني: هو أن تصوير المجاهد أرطغرل على أنه لم ينتصر إلا بمعجزات وخوارق كان ابن العربي هو السبب فيها (انظروا على سبيل المثال قصة الصندوق وما فيه من أسرار، والسترة القماش التي أخرجها منه وألبسها أرطغرل لتعصمه من الموت في المعارك، وكيف تم شفاؤه من السم فقط بنفخة روح وصلته من ابن العربي رغم أنه بعيد عنه)، قد يكون من شأنه أن يؤثر سلبا في نفوس الشباب المتطلع للجهاد حاليا، حيث سينتظر هؤلاء شخصيةً غير عادية مؤيدة بخوارق ومعجزات لا يتحقق النصر بدونها، وهذا مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولو كنتُ ضمن صنّاع هذا المسلسل، لاقترحت أن نضع مكان هذه المشاهد أعمالًا وعبادات خَفِيّةً بين أرطغرل وجنوده وبين ربهم تبارك وتعالى، تكون سببا في حفظهم ونجاتهم وانتصاراتهم على سبيل الكرامة التي يمنحها الله عز وجل للمخلصين الصادقين من عباده، والتي هي متاحة لكل عبد في أي زمان ومكان طالما أنه حصّل أسبابها واستجمع مقوّماتها، ولا مانع من الاستفادة بدعوات المشايخ والعبّاد. لكن.. ليس كل ما يتمناه المرؤ يدركه، وأؤكد على أن التأثيرات الإيجابية لهذا المسلسل تفوق وتغمر هذه السلبيات حتى تكاد تغطيها بالكلية.

وأحب أن أستغل هذه الفرصة حيث أتكلم عن شيخ صوفي في معرض نصرة المجاهدين، وأتمنى أن تزول الفرقة والعداوة بين السلفية والصوفية، فالعدو فوق رؤوسنا يقتل جميع المسلمين دون تفرقة، وأن نتذكر كيف اجتمع المسلمون خلف صلاح الدين (الأشعري) وخلف محمد الفاتح (الصوفي) فنصرهم الله عز وجل ورفع رايتهم وأعلى مكانتهم، ولا أنسى أبدا كيف أخرجت لنا السلفية (وأنا سلفي) ياسر برهامي ومحمد سعيد رسلان الذين دعموا السيسي في قتله للمسلمين في مصر! وفي المقابل رأيت بعيني كيف نزلت حركة محمود أفندي الصوفية برجالها ونسائها وأطفالها لمواجهة الانقلاب الفاشل الذي حصل في تركيا في 15 يوليو (تموز) الماضي.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان