نشأة العلمانية وقواها في تركيا

 
 

فكري شعبان

تسربت الأفكار العلمانية إلى تركيا منذ القرن الثامن عشر أيام الدولة العثمانية عن طريق الطلاب الأتراك الذين كانوا يدرسون في الغرب خاصة أولئك الذين كانوا يدرسون في فرنسا، وبعد تأسيس الجمهورية تكرست العلمانية على شكل إجراءات منهجية وقوانين صارمة وأصبح للتيار العلماني مؤسسات تدافع عنه بشكل بلغ حد العنف في بعض الأحيان.

التمهيد للعلمانية
الحرب على التدين
القوى العلمانية

التمهيد للعلمانية

بدأت حركة التغريب في عهد السلطان محمود الثاني الذي تولى الحكم في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث قام بإنشاء جيش جديد على غرار الجيوش الأوروبية، واستبدل بالقوانين الإدارية قوانين جديدة على غرار القوانين الأوروبية، كما أصدر قوانين تتعلق باللباس وأجبر الموظفين والعسكريين على لبس الطربوش وحلق اللحية، وقد لاقت هذه التغييرات معارضة قوية من قبل الشعب حيث أطلق على السلطان لقب (السلطان الكافر).

"
تعود بدايات العلمنة في تركيا إلى القرن الثامن عشر أيام العثمانيين حتى جاء أتاتورك ليجعل العلمانية أساسا فكريا وقانونيا واجتماعيا للجمهورية الجديدة
"

وفي مراحل تالية خلال القرن التاسع عشر جرت محاولات أخرى لمحاكاة الغرب فيما عرف بعهد التنظيمات الذي لقي دعما كبيرا من طبقة الشباب المثقفين، وفي العام 1860 تبين أن التنظيمات ليست كافية لجعل الدولة العثمانية دولة متقدمة في مصاف الدول الأوروبية وكان لا بد من القيام بثورة جديدة من أجل تحقيق ذالك.

وقد قاد المعارضة للنظام السياسي نامق كمال وضياء كوك ألب باش، كما أن الشباب الذين تأثروا بالثقافة الفرنسية أثناء وجودهم في فرنسا لطلب العلم شكلوا جمعية الشباب العثماني عام 1865 وقاموا بإعداد دستور جديد وطالبوا بفتح البرلمان وإعطاء السيادة في الحكم للشعب، ونتيجة لعملهم السري والمعلن في الخارج والداخل استطاعوا الوصول لبناء أرضية للنظام البرلماني والسياسي الجديد الذي شكل القاعدة للنظام العلماني في البلاد.

وإذا كان ما سبق يمثل الإرهاصات الأولى للعلمانية في إمبراطورية إسلامية فإن تولي مصطفى كمال الحكم بعد حرب التحرير وضع للعلمانية قواعد وأسسا ظلت راسخة حتى الآن بشكل أو بآخر.

في البدء لم يظهر أتاتورك أي مظاهر معادية للدين، بل إنه بعد أن قاد حرب التحرير قام بممارسات ذات طابع ديني محض حيث ألقى خطبة الجمعة في مدينة بالي كسير، وعندما ترأس المجلس الوطني الكبير عين مساعدين له من شيوخ الطرق الصوفية، ولكن أتاتورك لم يخف نياته طويلا، وما لبث أن قام بحملة على المجتمع التقليدي في تركيا والمظاهر الدينية التي تمثل أبرز معالمه وحارب ممارسات المجتمع وقمع رموزه مع إعلان الجمهورية العلمانية في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1923، ثم ألغى الخلافة الإسلامية في العام التالي وبعدها المحاكم الشرعية الدينية، وبدأ منذ العام 1925 في تغريب تركيا ثقافة وحضارة وممارسات، وتكريس دور الجيش كحارس للنظام الجديد.

ومن أجل تكريس مظاهر النظام العلماني أصدر أتاتورك مراسيم عدة تضمنت:

  • إغلاق الزوايا والتكايا الموجودة بالدولة.
  • إلغاء كل أنواع الطرق ومشايخها، وإلغاء ألقاب الدرويش والمريد والسيد والبابا والأمير والخليفة، والعرافة، وحظر السحر والتنجيم وكتابة التعاويذ والأحجبة والتمائم.
  • حظر استعمال عناوين وصفات وأزياء تدل على الطرق الصوفية. 
  • إغلاق جميع المزارات وقبور السلاطين والأولياء ومشايخ الطرق.
  • تشريع عقوبة الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر لمن يخالف هذه المراسيم.

وفى إطار التوجه نفسه استمدت في تركيا قوانين سويسرية عام 1926 وألغيت القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية في قضايا الأحوال الشخصية، بما في ذلك منع تعدد الزوجات وإعطاء المرأة المسلمة حق الزواج من غير المسلم وأن تغير دينها، والمساواة بين الذكر والأنثى في الميراث، كما أعطت القوانين الجديدة للأب حق الاعتراف بولده الذي يولد نتيجة علاقة غير شرعية.

وفى نهاية ذلك العام فرض أتاتورك السفور على النساء وحظر عليهن لبس الجلباب وألزمهن ارتداء الفساتين، والا قدم أزواجهن وأقاربهن للمحاكمة. واستكمل محاولة تدمير المجتمع التقليدي بتغريب التعليم من خلال توحيد المدارس واستبدال الحروف اللاتينية من العربية. واستكمل أتاتورك "ثورته" عام 1938 قبيل وفاته بإلغاء المادة التي تنص على أن الإسلام دين الدولة في الدستور.

الحرب على التدين

تقوم فكرة العلمانية بالمفهوم الكمالي السائد في تركيا على عدد من الأفكار الأساسية التي تؤسس لأيديولوجيا من أبرز محاورها:

  • فكرة الجمهورية بديلا للنظام الملكي السلطاني والخلافة الإسلامية.
  • الفكرة القومية، أي أن يكون الرابط الأساسي بين أبناء الشعب التركي "ملية" أو وطنية وليس الدين.
  • فكرة الشعبية، بمعنى ضرب نفوذ الأرستقراطية العثمانية والملاك والإقطاعيين ورجال الدين بتصعيد الطبقات الدنيا من المجتمع في إطار المساواة بين أبناء الشعب.
  • فكرة هيمنة الدولة وتحولها إلى أداة لفرض العلمانية والتغريب والتحديث الصناعي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
  • فكرة الانقلابية، أي الثورة على كل ما هو سائد من الأفكار والأوضاع والمؤسسات التي تعتبر تقليدية ومتخلفة.
  • والأهم في كل ذلك أن مفهوم العلمانية في تركيا لا يقتصر على تحييد دور الدين وفصله عن الدولة كما هو في الغرب مثلا، لكنه يمضي أبعد من ذلك بإجبار الناس على المفهوم الذي يراه لممارسات الدين في الحياة العامة بل وفي أداء العبادات، حيث حاول عصمت إينونو إجبار الأئمة في المساجد على قراءة الفاتحة في الصلاة باللغة التركية ومنع الأئمة من الدعاء باللغة العربية ومنع قراءة الأذان باللغة العربية ومنح المرأة كل الحقوق إلا حقها في ارتداء الحجاب مثلا.

"
هدف العلمانية في تركيا ليس فصل الدين عن الدولة ولكن وضع مفهوم جديد للتدين وإجبار الناس عليه
"

وهكذا يظهر أن هدف العلمانيين كان مسح تأثير الدين على حياة الناس وإن لم يكن هجومهم على الدين مباشرة فهم يعلنون الحرب على التدين، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن شن الحرب على التدين يخفي في ثناياه ضمنيا شن حرب على الدين ذاته، ومثال ذلك الحرب المفتوحة التي يشنونها على مدارس الأئمة والخطباء ومراكز تحفيظ القرآن الكريم، ومنع الملتزمين بالدين من العمل بحرية في الوظائف العامة، كما أن حرمان النساء اللواتي يرتدين الحجاب من الدراسة وحقهن في العمل في الوظائف العامة وتخصيص مسابح خاصة بالنساء، وعدم السماح بإنشاء بنوك إسلامية تعمل بالنظام الإسلامي، وطرد كل من يثبت أن له علاقة بالدين من الجنود في الجيش التركي هي من مظاهر محاربة التدين.

والعلمانية التركية متطرفة معادية للدين، مستبدة، وهي ليست العلمانية العقلانية المعتدلة التي تفصل السياسة عن الدين ولكنها لا تعاديه ولا تحاربه . فقد ضربت العلمانية التركية أسس الديمقراطية بآلة المؤسسة العسكرية بحجة حماية الثابت الدستوري للدولة التركية أي العلمانية، وذلك على ضوء الأسس التي وضعها كمال أتاتورك. وما زال بعض العلمانيين يفكرون بطريقة لإضفاء القداسة على العلمانية تلك القداسة التي تبرر لهم هدم أركان الديمقراطية إذا مثلت تهديدا لعلمانيتهم.

ويرى العلمانيون أن العمل من أجل تحكيم الشريعة الإسلامية يعد رجعية وتخلفا وجريمة كبرى تستحق أقصى العقوبات، كما أنهم ينظرون إلى المطالبة بتغيير الدستور من أجل توفير الحرية الدينية اعتداء على الدستور ومحاولة لقلب نظلم الحكم، حتى إنهم يرفضون الديمقراطية إذا كانت توفر الحرية الدينية للشعب.

ويحاول العلمانيون في تركيا حبس التدين في وجدان الفرد وخفض درجة تأثير الدين على الفرد إلى أقل مستوى، والعمل على إبقاء المرافق العامة في الدولة بعيدة عن تأثير الدين وعدم الاعتماد على أي مصدر يتعلق بالدين فيما يخص المرافق العامة في الدولة.

فالعلمانية التركية فرضت بوصفها أيديولوجية صارمة وحادة وقمعية على المجتمع التركي ولم تترك للشعب حرية ممارسة عباداته بل سعت إلى السيطرة على الدين من خلال تأسيس مؤسسة الشؤون الدينية وتعيين وزير دولة مسؤولا عنها حتى تسيطر على المساجد والأوقاف الإسلامية وحبس مشاعر الدين داخل المساجد.

القوى العلمانية

بما أن العلمانية في تركيا فرضت بالقوة كان لا بد من وجود مؤسسات تقوم على حمايتها والمحافظة عليها، ويأتي في مقدمة هذه المؤسسات العسكر الذي يعتبر حامي حمى العلمانية حيث تدخل أكثر من مرة لمنع حدوث أي اختراق مثلما حدث في انقلاب عام 1960 حيث قام العسكر بانقلاب على عدنان مندريس واتهموه بالخيانة العظمى وتم الحكم عليه بالإعدام بعد إتهامه بإنتهاك القوانين العلمانية والسماح ببعض المظاهر الدينية في تركيا.

"
أبرز القوى المدافعة عن العلمانية في تركيا هي الجيش الذي نفذ ثلاثة انقلابات من أجل ذلك، إلى جانب وسائل الاعلام والقضاء وكبار رجال الأعمال والأحزاب اليسارية والجمعيات النسائية
"

وكذلك انقلاب العام 1971 وانقلاب العام 1980 حيث كانت المسيرة المليونية للاحتجاج على إعلان إسرائيل القدس عاصمة لها في مدينة قونيا والتي دعا إلى تنظيمها حزب السلامة الوطني ذو التوجه الإسلامي سببا رئيسا في القيام بالانقلاب ألاخير وتعطيل الديمقراطية في البلاد، كما أن الجيش كان سببا في انهيار الحكومة الائتلافية التي شكلها نجم الدين أربكان مع زعيمة حزب الطريق القويم تانسو تشيلر عام 1996 بحجة انتشار الرجعية في البلاد وازدياد عدد المدارس الدينية ومراكز تحفيظ القرآن الكريم التي يرى فيها العسكر تهديدا لنظام العلمانية فوجه إنذارا إلى حزب الرفاه عام 1997 وتلا ذلك استقالة أربكان من رئاسة الوزراء في العام نفسه.

وعمل الجيش على مدى العقود السابقة على منع أي نفوذ إسلامي حقيقي في مؤسسات الدولة، ولعل السبب وراء عدم تصادم حزب العدالة والتنمية مع المؤسسة العسكرية تقديمه طرحا متقدما عن خطاب أربكان في الطابع البراغماتي ومتصالحا مع المؤسسة العسكرية والجمهورية الأتاتوركية، ومع ذالك لا ندري إذا كان الوضع سيبقى على حاله في المرحلة القادمة بعد أن تسلم رئاسة الأركان يشار بيوك أنت)الذي أبدى عدم ارتياحه لما تقوم به حكومة أردوغان منذ اليوم الأول لتسلمه لمنصبه الحالي في نهاية أغسطس/ آب 2006.

ومن المؤسسات التي تلعب دورا هاما في الحفاظ على العلمانية في تركيا وسائل الإعلام التي يمتلك 60% منها مجموعة آيدن دوغان، وتأتي في المرتبة الثانية مجموعة جينار، ولوسائل الإعلام في تركيا تأثير كبير على الشارع التركي وتوجهاته، وكما هو معروف أن الإعلام يعد القوة الرابعة إلا أننا في تركيا نقول إن الإعلام هو القوة الأولى في البلد وإذا كان الجيش يذكر قبل الإعلام في الحفاظ على العلمانية فإن الذي يقف وراء تأليب العسكر على الحكومات هو الإعلام وهذا ما حدث مع حكومة أربكان عام 1997 حيث هاجمتها وسائل الإعلام وألبت العسكر عليها وصورت للناس أن الجمهورية في خطر ما أثار حفيظة الجيش ودعا بعض الوزراء من حزب الطريق القويم إلى الاستقالة من الحكومة، وهذا ما اعترف به مؤخرا وزير الصحة في تلك الحكومة وهو من حزب الطريق القويم بأن الإعلام خدعهم وبالغ في تصوير الواقع.

وتعتبر جمعية رجال الأعمال الأتراك التي تضم أغنى رجال الأعمال في تركيا من المؤسسات التي تعمل على حماية العلمانية في تركيا، ويترأس هذه الجمعية دائما أحد القطبين الأكثر غنى في تركيا وهما مجموعة صبانجي ومجموعة كوج، وتسعى هذه الجمعية إلى الحفاظ على العلمانية في تركيا من أجل مصالحها الاقتصادية حيث يعتبر الاستقرار عنصرا أساسيا في تنمية ثرواتهم وأي تغيير في النظام القائم قد يعرض مصالحهم إلى الضرر.

ومن المؤسسات التي تقف في وجه كل من يهدد العلمانية المؤسسات القضائية ومنها محكمة الدستور والمحاكم العليا والمحكمة الإدارية العليا والتي لا تتردد في الحكم لصالح النظام العلماني في كل قضية ترى فيها تهديدا للعلمانية كما في قضية الحجاب وإغلاق الأحزاب ذات التوجه الإسلامي كما حدث في حزب الرفاه وحزب الفضيلة وحزب السلامة الوطني وحزب النظام الوطني التي شكلها نجم الدين أربكان.

كما تعد الأحزاب اليسارية على اختلاف مسمياتها وتوجهاتها حارسة للنظام العلماني بل معادية للدين في كثير من الأحيان، وهذا ما يميزها عن الأحزاب اليمينية والتي تتمسك بالنظام العلماني ولكنها في الوقت نفسه لا تعادي الدين وتميل إلى حرية التدين.

وهناك العديد من مؤسسات المجتمع المدني والنقابات التي تنصب نفسها حامية للعلمانية في تركيا ومنها جمعية دعم الحياة العصرية، وجمعية الفكر الأتاتوركي، ووقف التعليم التركي، وجمعية أتاتورك للغة والتاريخ، ونقابات المحامين والعديد من الجمعيات النسائية.
_______________
مكتب الجزيرة/ إسطنبول

المصدر : الجزيرة