مصر.. مكافحة كورونا أم "أهل الشرّ"؟
بينما تغرق مصر في أزمة فيروس كورونا، يرفض نظام السيسي بروز أي صوت ينتقد طريقة تعاطيه مع الجائحة، ويستعمل في ذلك وسائل الردع نفسها التي تعودها مع أعدائه السياسيين، من دعاية ذات بعد وطني، وقوانين استثنائية لمحاربة من يسميهم "أهل الشر".
هكذا بدأ المقال الذي نشره موقع لوريان الفرنسي وكتبه الباحث في قضايا الاجتماع السياسي، أحمد عبد الحليم، قبل أن يضيف أنك لو نزلت إلى شوارع المحروسة بعد الثامنة ليلًا، فإنك ترى ليلًا سرمديا وسط مساحات خالية إلا من دوريات للشرطة المصرية، تنتشر لمتابعة التزام المصريين بالإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها الحكومة للحد من انتشار فيروس كورونا كغلقِ المتاجر الكبيرة والمقاهي وقاعات الأفراح بشكل كُلي، وفتح المتاجر الأصغر التي يتسوّق منها الناس بشكلٍ جزئي.
وبحلول مساء يوم 30 يونيو/حزيران، قارب عدد الإصابات بفيروس كورونا في مصر 66 ألفا و754 حالة، توفي منهم 2872. وما زالت البلاد تسجل يوميا مئات الإصابات الجديدة.
وإن كان العالم أجمع قد تورط في أزمة كورونا، فإن مصر تختلف عن الجميع، لأنها تعيش حالة الأزمة منذ ما يقرب من سبع سنوات حسب التصريحات الرئاسية والمؤسساتية، في حربها مع "أهل الشرّ" الذين لا ينوون خيرا للبلاد ويعارضون عجلة التنمية، على حد وصف السلطة وإعلامها.
وبما أن حالة الاستثناء تفرض وجود عدو داخلي لتبريره، يبدو أن النظام المصري صنف كورونا مع هؤلاء، وكأن الفيروس جاء معارضًا لعجلة التنمية في ثوبٍ بيولوجي!
خطاب إعلامي مألوف
في بداية ظهور الجائحة في مصر، ركز الخطاب الإعلامي المصري على تسليط ألسنته على كل من يوجّه سؤالًا أو ينتقد قرارًا بشأن إجراءات الوقاية التي تتخذها الحكومة بشأن مكافحة الفيروس، بل دارت أسطوانة "أهلّ الشر" مرةً أخرى، والذين يقصد بهم هنا أولئك الذين يستغلّون وباء "كوفيد-19" ليشككوا في كفاءة النظام إزاء مواجهته للأزمات.
وكعادته انتقد نشأت الديهي -أحد إعلاميي السلطة وصاحب برنامج "أهل الشر" ومؤلف كتاب يحمل العنوان نفسه- حديث القنوات الإعلامية التابعة للمعارضة المصرية والإخوان المسلمين في تركيا والتي شككت في مصداقية الأرقام والقرارات التي تعلنها وزارة الصحة للحد من انتشار الفيروس. ووافق ما قاله الديهي تصريح رئيس الهيئة الوطنية للصحافة كرم جبر واصفًا "أهل الشر" بالراقصين على أزمة مصر في مواجهة كورونا، بينما أيدتهما الأستاذة المساعدة بكلية الإعلام سهير عثمان بقولها إن "الشائعات السيئة التي يتبناها أهل الشرَّ" تحاول النَّيل من كفاءة الحكومة المصرية في إدارة الأزمة.
وكانت التصريحات الإعلامية عن الأزمة خرجت ابتداء من يوم 7 أبريل/نيسان بعد أن تحدث الرئيس عبد الفتاح السيسي أثناء اجتماعه بوزيرة الصحة وعدد من قيادات الحكومة والجيش، داعيا المصريين إلى عدم الانجرار وراء الشائعات بشأن أرقام الإصابات بالفيروس قائلا: "هنخبي ليه؟ إذا أردنا مصر خالية من الأشرار علينا الابتعاد عن الشائعات التي يصدرها لنا أهل الشر".
في الواقع، هذا المصطلح "أهل الشر" ليس جديدا ولم يظهر مع جائحة كورونا في مصر، فقد تعود عليه المصريون في خطابات السيسي على مدى السنوات الأخيرة. وإن كان المقصود بهذه العبارة في ذهن الجميع أوّل الأمر الجماعات المتشددة، فقد عرّفهم السيسي بطريقة أوسع خلال لقاء صحفي له سنة 2016 عندما قال إن "أهل الشّر هو كل من يسعى إلى الإساءة لمصر شعبا ودولة، ومحاولة عرقلة مسيرة مصر كدولة وكشعب .. المصريين عارفينهم كويس (المصريون يعرفونهم جيدا)، جوه وبرا (في الداخل والخارج)". وقد قال في مناسبات أخرى إنهم "الإخوان وداعموهم".
التوسع في الاستثناء
بعد اجتماع السيسي بوزيرة الصحة، شرع برلمانيون ومسؤولون في الوزارات المصرية في تكرار تحذيرهم على عدة صحف وقنوات ووسائل التواصل الاجتماعية من التشكيك في الأرقام الصادرة من وزارة الصحة، وفي عدم قدرة الدولة المصرية على مجابهة كورونا "كوفيد-19".
وقد روّجت الحكومة المصرية لخطاب حالة الاستثناء من خلال عقوباتٍ قانونية خاصة بهذا الظرف الذي تعيشه البلاد والموجهة ضد "مروّجي الشائعات حول كورونا"، حيث تكون العقوبة الحبس لمدة عامين وغرامة تصل إلى 300 ألف جنيه مصري (حوالي 18 ألفا و540 دولارا).
ومن وقتها، بدأت متلازمة القبض على الناشطين والصحفيين والمواطنين بتهمة انضمامهم كذلك لأهل الشرّ. كان أشهر المقبوضين عليهم الصحفي المصري مصطفى صقر صاحب جريدة "البورصة" وموقع "ديلي نيوز إيجيبت" واتهامه بنشر شائعات تضر الأمن القومي المصري بشأن تطورات كورونا، فضلًا عن انضمامه لجماعة إرهابية محظورة.
قبل ذلك بنحو شهرٍ، أغلقت الحكومة المصرية مكتب صحيفة الغارديان البريطانية بالقاهرة، وذلك عقب نشرها مقالا يوم 17 مارس/آذار تحدث عن وجود آلاف الإصابات في مصر بسبب غفلة الحكومة عن الإجراءات اللازمة لمحاصرة الوباء.
لم تستثنِ الحكومة المصرية من يعبرون عن آرائهم أو المواقف الشخصية التي مرّوا بها على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث دأبت ولا تزال على اعتقال الشباب الذين يُبدون رأيهم على فيسبوك وتويتر كاعتقال الباحث في العلاقات الدولية عبده فايد من بيته يوم 26 مايو/أيار الماضي، وإخفائه قسريا لمدة ستة أيام ليظهر في نيابة أمن الدولة العليا وتوجّه إليهم الاتهامات نفسها من نشر شائعاتٍ تضر الأمن القومي.
وقد شملت هذه الاعتقالات حتى "الجيش الأبيض"، ففي بداية ظهور الجائحة، وجد الأطباء في مواقع التواصل الاجتماعي متنفسًا عبر المنشورات ومقاطع الفيديو يعبرون فيها عن مدى ضيقهم من نقص المعدات والأدوات اللازمة لهم وللمرضى للوقاية من الفيروس، إلى أن تم استدعاء البعض منهم من جهات التحقيق الخاصة بالوزارة بحجة مخالفة قوانين المهن الطبية، والتحذير من المشاركة في بثّ وترويج الشائعات، وقد تم القبض على عدد من المسؤولين الطبيين وطالبت نقابة الأطباء في بيان لها بالإفراج عنهم.
يحدّثنا طبيب مختص يعمل في أحد المستشفيات الحكومية فضّل عدم الكشف عن هويته عن التعليمات التي أتت إلى معظم المستشفيات، وهي تعليماتٌ أمنيّة لجميع العاملين بعدم التصوير أو الحديث عبر شبكات التواصل الاجتماعي عن نقص في المعدات والأدوات، وإلا يتعرض من يفعل ذلك إلى إجراءات قانونية صارمة، بل ويُطبق عليه قانون الطوارئ الجاري حاليًا في عقوبة نشر الشائعات التي تضر الأمن القومي المصري.
كورونا عدو الوطن
لا مانع لدى الكثيرين في مصر من كون كورونا قدر الله، وتجد المسلمين كما المسيحيين يتضرعون إلى الله لرفع هذا الوباء. وقد خرجت مسيرات ليلًا في محافظة الإسكندرية عندما تحمّس المواطنون في شرفاتهم، وتجمعوا تحت بيوتهم، هاتفين لله أن ينقذهم من هذا الوباء. لكن بالموازاة مع هذا الإيمان بقدرة الله على رفع هذه المصيبة، كانت هناك كذلك تجمعات بالليل وبالنهار في المحافظة نفسها على وقع الأغاني الوطنيّة، وكأن كورونا عدو خارجي قصد مصر بالتحديد وتآمر عليها ولم يقصد البشرية كُلها.
تُذكرنا تلك التجمعات بأيام الانتخابات الرئاسية في مايو/أيار 2014 ومارس/آذار 2018، فضلًا عن استفتاء تعديل الدستور في أبريل/نيسان 2019 عندما تجمع أنصار عبد الفتاح السيسي للغناء والرقص، وترديد شعارات الكيد والغيظ لـ "أهل الشرّ" المتربصين لـ "منقذ مصر"، وكأن ما يحدث مناسبة للتعبير عن حس قومي وليست انتخابات بين مختلف الخصوم السياسيين كما يحدث في شتّى بلدان العالم.
نجم هذا عن كثرة تأثير الخطاب السياسي السلطوي والإعلامي وحتى الأكاديمي على المواطن المصري، على غرار وزير الآثار المصري السابق زاهي حواس الذي أشاد بردة فعل السلطة على هذه الجائحة قائلا "احنا فعلا بنحس (نحن نشعر بالفعل) أن الدولة والحكومة واقفة مع كل (مساندتان لكل) مصري وكلهم خايفين (وكلتاهما خائفتان) علينا، وبالتالي يمكن الأزمة دي بينت (أظهرت هذه الأزمة) ازاي احنا واقفين مع بعض ايد (كيف وقفنا يدا) واحدة".
كما تبدو ردود فعل هؤلاء المواطنين نتيجة لسياق حالة الاستثناء التي وضعها النظام المصري منذ سبع سنوات -أي منذ وصول السيسي إلى الحكم- تحت عنوان محاربة أهل الشرّ القاصدين بمصر الخراب، خاصة بتزامن وصول الفيروس إلى مصر مع أحداث مقتل ثمانية عساكر وضابطين في سيناء أول مايو/أيار الماضي إثر انفجار عبوة ناسفة في منطقة بئر العبد شمال سيناء. حتى أن دار الإفتاء حذّرت من استغلال "الجماعات الإرهابية" لأزمة كورونا، رابطة بذلك في أذهان الناس بين الخطر الأمني والمعضلة الصحية.
كما ظهر الجيش في دور المُخلّص والضامن التاريخي لحالة الاستقرار على مرّ الأزمات التي تمرّ بها الدولة، فقد تحدث الرئيس خلال تفقده للاستعدادات الخاصة التي تُجريها القوات المسلحة لمجابهة الفيروس ومنها تجهيز ستة مستشفيات تابعة لها بطاقة 200 سرير، كما تدخل الجيش لإمداد المؤسسات الصحية بالمستلزمات اللوجستية لمواجهة الجائحة، بإجمالي وصل إلى 10 آلاف طن من المواد المطهرة ومعدات التحليل التي يستخدمها الأطباء في كافة المحافظات المصرية.
يمكن وصف المواطن المصري هنا بـ"المواطن التابع" على حد تعبير الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي، وهو من لا ينتمي إلى النخبة السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية، بل يغلب عليه التأثير التكراري للخطاب السلطوي العاطفي، لذلك رأى الكثير من "غير المنتمين" أن كورونا يدخل وسط المؤامرة العالمية التي تعطل عجلة التنمية المصرية، متغاضين عن وصف كورونا بجائحة بيولوجية أصابت العالم كلّه.
هكذا بدا فيروس كورونا في عباءة العدو الخارجي المحدق بمصر والمستند إلى أنصاره بالداخل من "أهل الشر". أما المصريون الوطنيون، فينتظرون لحظة الانتصار على عدو عجلة التنمية والمشاريع الكُبرى حتى تُكمل الدولة تنميتها بأمن وأمان دون معارضة.