"فتوى" بالجزية على الحنابلة ولقاء لـ"رؤوس أهل النار" بمجلس وزاري.. الخلاف العلمي بين جناية التعصب وتوظيف السياسة
"ومبدأُ التعصبِ: حرصُ جماعةٍ على طلب الرئاسة باستتباع العوامّ، ولا تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر والتناصر، فجُعلت المذاهبُ في تفصيل الأديان جامعاً فانقسمَ الناسُ فِرَقاً، وتحركت غوائل الحسدِ والمنافسةِ فاشتدّ تعصّبُهم، واستحكمَ به تناصرُهم"!! وردت هذه الفقرة العميقة الدلالة في كتاب "ميزان العمل" لأبي حامد الغزالي (ت 505هـ/1111م)، وقد جاءت ضمن سياق تعليلي يشرح فيه نهج الصراعات السياسية بين المذاهب، وكيف يمكن فهم طبيعة التعصب وانتشاره بين أتباع المذاهب والفِرَق وحمَلَة المقولات والأفكار.
فالغزالي يُرجع نشأة التعصب إلى نزعة الحرص على طلب الرئاسة والسؤدد بالعلم والثقافة أو ما نسميه اليوم "سلطة المعرفة"، والسبيل الموصلة إلى ذلك هي رصف العوام خلف المذاهب باستتباعهم واستلحاقهم لخلق مراكز قوى شعبية بها يكون التعاضد والتآزُر بحيث "يجري ذلك مجرى تناصر القبيلة"! أما هدف هذه الرئاسة فليس خدمة الحقيقة العلمية بل تضخيم المكسب المادي وتوسيع الجاه السياسي.
ومن المتوقع أن يكون الغزالي حساسا تجاه قضايا التعصب المذهبي؛ فقد تفتح وعيه حيث وُلد سنة 450هـ/1059م على جراح مجتمعية غائرة لإحدى الفتن المذهبية الكبرى في تاريخنا وقعت بنيسابور سنة 444هـ/1053م، وهي المعروفة بـ"فتنة الكُنْدُري" نسبة إلى الوزير السلجوقي أبي نصر الكُنْدُري (ت 456هـ/1065م) الذي كان في مشربه الفكري "معتزليا.. يؤذي الشافعية ويبالغ في الانتصار لمذهب أبي حنيفة"؛ وفقا لما جاء في ‘سِيَر أعلام النبلاء’ للإمام شمس الدين الذهبي (ت 748هـ/1347م) الذي رصد فتنة لا تقل عنها بشاعة حيث "بلغ الأمر إلى السيف" وذلك ببغداد سنة 469هـ/1076م.
وبالتالي فإن الغزالي فطن إلى ضرورة التفرقة بين النزاع العلمي الجدلي المألوف في أي حياة علمية صحية، والصراع السياسي الذي يَتخذ لبوسا معرفيا مذهبيا ليتوسل به إلى استقطاب الجماهير واكتساب شرعيتها. فالنزاع العلمي قد يأخذ سبيله المنطقي المشروع الذي يعززه التفاوت في فهم النصوص الشرعية، أو تردد الأدلة في ثبوتها أو دلالتها بين القطعية والظنية، ففي ذلك تختلف أنظار الفقهاء وتتعدد آراؤهم، وتتباين مدارك المدارس العلمية وتتنوع رُؤاها. وهذا النوع من الاختلاف قديم ومشهور منذ فجر الإسلام، وهو نهج ممدوح لأن دوافعه تصب في مجرى تحري الحق ونشدان ضالة الحقيقة، وهو مزكَّى طالما كان منزَّها عن الغرض ومجرَّدا من الهوى.
ومن أعظم سمات هذا الاختلاف الممدوح أنه مستور في الأروقة العلمية محتجِب عن العامة داخل حلقات الدرس، مسيَّج بالمناظرات الخاصة المنضبطة بأصول النقاش العلمي الهادئ والهادف، بحيث تتصادم الآراء وتشتجر النظريات دون استدعاء لرجال السلطة أو استجلاب لغوغاء الشارع، ليحسموا المسائل العلمية بالملاحقة والسجن أو بهُتاف التنابز والتقاذف بالحجارة كما حصل في بعض العصور؛ فليس من شأن القوة -رسميةً كانت أو شعبيةً- حسمُ الخلاف العلمي، وليس من اختصاص الناس تعقّب المخالفين وعقابهم.
لكن الخلاف المتعصب المشفوع بالأغراض السياسية يقوم على مسائل موهومة، وأغراض جدلية صورية تهدف إلى الإقحام لا الإقناع، ولا يندر أن تلعب السلطات السياسية -قديما وحديثا- دورا كبيرا في إذكاء هذا النمط من الصراعات لإضعاف المجتمعات العلمية وإثارة الانقسامات البينية فيها، وذلك بغية بناء تحالفات مذهبية تدين للسلطة بالحماية والانتشار والتأثير. والحقيقة التي أدركها علماء الإسلام المخلصون والمصلحون هي أن السلطة السياسية نزاعة بطبعها لتأميم السلطة العلمية الشرعية، لأنها السلطة الأهم والأبقى والأكثر تأثيرا، ولذا فإن كثيرا من محن التمذهب وفتن التعصب في تاريخنا الثقافي سببها ضعف إدراك هذه الحقيقة من معظم المشتغلين بالحقل العلمي.
إن هذه المقالة -التي تأتي بمناسبة الذكرى الألفية الهجرية لـ"فتنة الكُنْدُري"- تروم إماطة اللثام عن فلسفة الاختلاف بين المذاهب الإسلامية وأفراد جماعة العلماء، وما كان عليه مصلحو العلماء من ودٍّ متبادل وحرص على إبقاء الخلاف العلمي داخل إطار الدرس العلمي دفعا لأي اقتتال أهلي ذي دوافع معرفية لأن القاعدة المستقرة قاضية بأنه "لا يجوز تكفير أحد من أهل القِبلة"، رغم أن ذلك لم يتحقق أحيانا بسبب تأثر خلافات العلماء بالدوافع المصلحية شخصية ومذهبية، وأيضا بالعوامل السياسية جراء توظيف السلطة لهذا الخلاف وإحداثها -أحيانا كثيرة- قطاعا تابعا لها في صفوف جماعة العلماء. وإن كان ذلك لا يسوّغ إطلاقا ما يحاول البعض إشاعته من أن الإقصاء بين التيارات والمذاهب الإسلامية كان هو الأصل، وأن الودّ المتبادل والتسامح بينها كان هامشاً في تاريخها عبر العصور.
فصل منهجي
يُعدّ الخلاف الأُصوليّ والفرعيّ طبيعيّ في المذاهب والأديان، إذ إنّ النصوص السماوية تارة تكون قطعية دلالةً أو ثبوتاً، وتارة تكون ظنيّة دلالةً أو ثبوتاً، ومن ثمّ تختلف أنظار المجتهدين فيها. هذا إذا كان الحديث عن المسألة العلمية الصرفة منزوعة الصلة بالمحيط والسياق الذي ربما تعتريه عوارض بشرية ومصالح شخصية، ونحو ذلك من مؤثرات في فهم النصوص تتسبب في الاختلافات بين الجماعة العلمية.
لكن المشكلة التي أزّمت المشهد الدينيّ هي ما بعد الخلاف العلمي الطبيعي؛ فإذا كان العقل الفلسفي والكلاميّ والفقهيّ/العلميّ عموماً رسم مراتب الخلاف ووضع ضوابطه في مباحث أصولية وكلامية، فإنّ ثمة مساحة متعلقة بما يترتب عن ذلك الخلاف العلمي مجتمعياً، حيث قد يؤدي -إذا لم تتم إدارته داخل الجماعة العلمية أخلاقياً- إلى ارتدادات عكسية تؤثر على لحمة المجتمع وتماسكه، كما حدث مرارا.
فالفقيهُ/المتكلم/العالمُ في الزمنِ الأوّل عندما تكلّم عن المخالف عقدياً أو فقهياً، ورماه بالفسق أو الضلال أو الابتداع في بعض المسائل؛ فإنّما فعل هذا داخل الأروقة العلمية وغالبا من منظور علمي، ثم حصر استيفاء الحقوق في يد السلطتين القضائية والتنفيذية، كي لا يظنّ الناس أنّ من حقهم تعقّب المذنبين وإقصاءهم، ومن باب أولى عدم تعقب علية القوم من العلماء من كافة المذاهب بسبب خلاف علميّ.
وفي ذلك يقولُ إمام الحرمين الجوينيّ (ت 478هـ/1085م) -في كتابه ‘الغياثي‘- هذه العبارة الماتعة الفريدة: "وإنما لم يُجعَل لآحاد الناس شهرُ السلاح، ومحاولةُ المِراس في رعايةِ الصلاح والاستصلاح، لما فيه من نَفْرة النفوس، والإباءِ والنِّفاسِ (= المنافسة)، والإفضاءِ إلى التهارشِ والشِّماس (= الإباء والأنفة)".
وبعبارة الإمام شهاب الدين القرافيّ (ت 684هـ/1285م) في كتابه ‘الإحكام‘؛ فإنه "إنما يُحتاج إلى الحاكم (= القاضي) في الصور المجمع عليها إذا كانت تفتقر إلى نظر واجتهاد وتحرير أسباب، كفسخ الأنكحة؛ أو كان تفويضُها للناس يؤدي إلى التهارجِ والقتال، كالحدود والتعازير". وكرر القرافيّ هذا المعنى كثيراً في غير موضع، مُبررا ذلك بقوله: "ولو جُعل لعامّة الناس التحدّثُ (= التصرف) فيه لفسَدَ الحالُ وساء المآلُ".
والرجوع إلى القاضي هنا ليس نهائياً أيضاً بل لتكييف الحالةِ فقهياً وإصدار الحكم فيها، ثمّ تأتي مرحلة التنفيذ بيد السلطة التنفيذية. وأشار القرافي -في ‘الذخيرة‘- إلى هذه اللمحة؛ فقال: "وليس كلّ الحكام (= القضاة) لهم قوّة التنفيذ، لا سيما الحاكمُ الضعيف القدرة على الجبابرة فهو يُنشئ الإلزام ولا يَخْطُرُ له تنفيذُه لتعذّر ذلك عليه؛ فالحاكمُ ليس له إلاّ الإنشاء، وأمّا قوّة التنفيذ فأمرٌ زائد على كونه حاكماً".
إجراء وقائي
وأكّد العلماء مراراً الفرق بين الفقيه والمفتي والحاكم والإمام أو رأس الدولة، وأن حمل الناس على مذهب فقهي بعينه في مؤسسات الدولة من خصوصيات رأس الدولة، وأن القاضي يحكم بينهم لا بمذهبه أو برأيه بل بمذهب الدولة المعتمد متى وُجد. وهذا كلّه يُلغي مسألة انسحاب الخلاف إلى المجتمع وتأجيجه.
ونخلصُ من هذا كلّه إلى أن ما حصل من الترامي بين الفرق والتيارات إنما جاء في الأصلِ كجزء من الدرس العلمي، فدار بين العلماء والمشتغلين ممن يدركون أبعاده ومقاصده، ولذا منعوا العوام من "علم الكلام" كي لا ينتشر التكفير مجتمعياً، لأنهم غير مؤهلين لفهم مقاصد ألفاظ هذا العلم وعللها. أما ما سوى ذلك فليس داخلاً في دوائر عمل الجماعة العلمية، وإنما هو في صُلب اختصاصات المؤسسة السلطانية.
ومن ثمّ كانت ثمة حاجة متبادلة بين الجماعتين العلمية والسياسية، فأجنحة علميةٌ متشددة كانت تبغي إقصاء خصومها العلميين، لا سيما إذا لم تستطع تحجيمهم علمياً وتُقلل من أتباعهم في العامّة. فكان كلّ طرف يلجأ أحيانا إلى المؤسسة السلطانية لتُخلصه من الطرف الآخر أو لتحجّمه وتقزّمه.
وأكبر دليل أنهم ما قصدوا من وراء توصيفات التخطئة بالتبديع والتفسيق سوى الدرس الكلامي أنّ المحدثين أجازوا رواية المبتدع إذا توفرت فيه شروط التوثيق وخاصة الصدق "فلنا صدْقُه وعليه بدعتُه"؛ كما يقول الإمام الذهبي (ت 748هـ/1347م) في ‘ميزان الاعتدال‘.
وكذلك قَبِل الفقهاء تقليد الفاسق على خلاف، وجوّز بعضهم تقليد المجتهد المبتدع، مما يدلّ على تمييز أولئك العلماء بين الخلاف العلميّ ودرجاته، وكذلك تمييزهم بين الخلاف العلمي والأخوة تحت ظلال الدين الواحد، بل والإنسانية الواحدة.
ويشير حجة الإسلام الغزاليّ (ت 505هـ/1111م) -في ‘المنقذ من الضلال‘- إلى هذه اللمحة الدقيقة حين يحذّر من أن يقود الخلاف العلمي إلى "سفكِ الدماء وتخريب البلاد وإيتام الأولاد، وقطع الطريقِ والإغارة على الأموال". فهو يريد أن يُبقي الخلاف -مهما كان أصوليا وعقديا- في إطار الدرس العلمي، وفي نطاق الخلاف العلمائيّ الضيّق، دون أن ينسحب إلى المجتمع والعامّة.
اختلاف ومودة
تزخر كتب التراث بنماذج عدم تأثير الخلاف العلمي على العلاقات المجتمعية بين العلماء من كل المذاهب والتيارات الفكرية؛ ومن ذلك القصة التي حكاها الجاحظُ (ت 255هـ/869م) -في كتابه ‘الحيوان‘- عن تعاون أحد أئمة أهل السنة اسمه إبراهيم بن عبد العزيز (ولعله المحدّث أبو إسحق الصالحي: إبراهيم بن عبد العزيز الصالحي البغدادي المتوفى 284هـ/897م) مع "شيخ المعتزلة" إبراهيم النَّظّام (ت 231هـ/846م) وعطفه عليه في وقت حاجته وفاقته.
فقد نقل الجاحظ عن النَّظام أن إبراهيم هذا رأى يوما أن النَّظام يمر بضائقة مالية في غربته عن بلده البصرة، فأرسل إليه قائلا: "إنْ كُنّا اختلفنا في المقالةِ (= الرأي والمذهب) فإنّا نرجع بعد ذلك إلى حقوق الأخلاق والحرية (= شرف النفس والإنسانية)، وقد رأيتك -حيث مررتَ بي- على حال كرهتها، وينبغي أن تكون نزعت بك حاجةٌ (= أخرجتك من بلدك)، فإن شئت فأقم بمكانك مدة شهر أو شهرين فعسى نبعث إليك ببعض ما يكفيك زمناً..، وإن شئت الرجوع فهذه ثلاثون ديناراً (= اليوم 6 آلاف دولار أميركي تقريبا) فخذها وانصرف، وأنت أحقّ من عَذَر"!!
ولم يكن تصرف إبراهيم السُّني مع النظام المعتزلي سوى صدى وتجسيد للمقولة التي رواها ابن عساكر (ت 571هـ/1175م) –في ‘تاريخ دمشق‘- عند ترجمته للشافعي (ت 204هـ/819م)؛ فعن يونس بن عبد الأعلى الصدفي (ت 264هـ/878م) –"وكان كبير المعدّلين والعلماء في زمانه بمصر"؛ حسب الذهبي في ‘السِّير‘- قال: "ناظرتُ الشافعي يوما في مسألة ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي ثم قال لي: يا أبا موسى! ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق في مسألة؟!"؛ هذا والشافعي كان شيخا للصدفي وأسنَّ منه بعشرين سنة!!
وذكر حافظ الأندلس ابن عبد البر (ت 463هـ/1071م) -في ‘جامع بيان العلم وفضله‘- أن أحمد بن حنبل جاءه علي بن المديني (ت 234هـ/849م) "راكبا على دابة..، فتناظرا.. وارتفعت أصواتهما" حتى خاف بعض الحاضرين "أن يقع بينهما جفاء…، فلما أراد عليٌّ الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه"، ليساعده في ركوب دابته إجلالا وتقديرا له!!
وقد كان هذا التراحم ديدن العلماء الكبار في غالب أحوالهم؛ فالعلامة ابن رجب الحنبلي (ت 795هـ/1393م) يترجم -في ‘ذيل طبقات الحنابلة‘- لشيخ الصوفية عبد القادر الجيلاني (ت 561هـ/1166م) ويُثني عليه، رغم اختلافهما في الطريقة والمنهج؛ فيقول عنه إنه "كان… يعظّمه أكثرُ مشايخ الوقت من العلماء والزهاد، وله مناقب وكرامات كثيرة".
تلمذة متبادلة
وحسب ابن العماد الحنبلي (ت 1089هـ/1678م) –في ‘شذرات الذهب‘- فإن الذهبي تتلمذ على علي بن مسعود بن نفيس الموصلي (ت 704هـ/1304م) وكان أحد أئمة التصوف في عصره؛ رغم أنّ الذهبيّ إمام السلفية والمأثور في عصره، وتلميذ مخلص لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728هـ/1328م).
بل إنّ الذهبيّ -حين زار مصر سنة 695هـ/1296م- لبس خرقة التصوف من الشيخ ضياء الدين عيسى بن يحيى الأنصاري السَّبتي؛ وكان يفرّق بين الزهاد والعباد ممن يسيرون على نهج الأكابر، وبين المشعوذةِ وأصحاب الترهات.
وموقف الذهبيّ هنا يُذكرنا بموقف ابن عقيل الحنبلي (ت 513هـ/1119م) الذي كان مُنصِفاً للصوفية حتى إنه تعاطف مع أبي منصور الحلّاج (309هـ/921م) وكتب يدافع عنه، ولم يمنعه إجلاله متقدمي الصوفية الذين تصوفوا على هدي الشرع من انتقاد الصوفية البدعية.
وقد تتلمذ الإمام الصوفي أبو أحمد الجُلُودي (ت 368هـ/979م) –وهو أحد رواة ‘صحيح مسلم‘- على الإمام السَّلفي أبي بكر محمد إسحق بن خُزَيْمة الشافعي (ت 311هـ/923م) وهو أحد أئمة الحديث الكبار ومؤلف ‘صحيح ابن خزيمة‘؛ ‘؛ حسبما جاء في ترجمة الجلودي في ‘سِيَر أعلام النبلاء‘ للذهبي الذي يصفه بأنه "الإمام الزاهد القدوة الصادق…، من كبار عباد الصوفية… ومن أصحاب المعاملات في التصوف".
وينقل الذهبي -في ‘السِّير‘- عن الإمام الباجي الأندلسي (ت 474هـ/1081م) روايةً عن شيخه أبي ذَرّ الهَرَوي (ت 435هـ/1044م) أن شيخه الإمام الدارقطني (ت 385هـ/996م) السلفي المحدّث التقى صدفة بالإمام الباقلاني (ت 402هـ/1012م) المتكلم الأشعري، فعانقه وقبّله بين عينيه؛ فسأله تلميذه الهَرَوي: "من هذا الذي صنعتَ به ما لم أعتقد أنك تصنعه وأنت إمام وقتك؟ فقال: هذا إمام المسلمين والذابُّ عن الدين"!!
ويقول الذهبي إنه حين مات الباقلاني في بغداد "أمَرَ شيخُ الحنابلة أبو الفضل التميمي (عبد الواحد بن عبد العزيز ت 410هـ/1020م) مناديا يقول بين يدي جنازته: هذا ناصر السنة والدين والذابّ عن الشريعة..، ثم كان يزور قبرَه كلَّ جمعة"!!
وحاصل القول هو أنّ الأئمة لم يُمارسوا التكفير فيما بينهم، وربطتهم علاقات شخصية وإنسانية واجتماعية خارج الدرس العلميّ، فتزاوجوا وتزاوروا وتسامروا وتآزروا، وقد أدركوا أن ثمة تنافسا وحسدا ربما يعتري بعض العلماء، فقرروا أنّ "كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبَأ به، ولا سيما إذا لاح لك أنه لعداوة أو لمذهب أو لحسد لا ينجو منه إلا من عصم الله، وما علمتُ أن عصرا من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى النبيين والصدّيقين"؛ حسب تعبير الإمام الذهبي في ‘ميزان الاعتدال‘.
إقصاء مستجد
ظلّ الودّ والاحترام المتبادل شيمة للأئمة الكبار من مؤسسي المذاهب وتلامذتهم، فكان أبو حنيفة (ت 150هـ/768م) يثني على جعفر الصادق (ت 148هـ/766م)، وأثنى مالك بن أنس (ت 179هـ/795م) على أبي حنيفة، وكان الشافعيّ يقول عن شيخه مالك "إذا ذكر العلماء فمالك النجم"!
ومع ذلك الإجلال؛ يقول السيوطي في ‘المقامات‘: "قد ردّ الإمام الشافعيّ على الإمام مالك وهو شيخه وما كان يُسميه إلا ‘الأستاذ‘، وردّ المزني (ت 264هـ/878م) على أستاذه الشافعيّ". ففرقوا جيدا بين الخلاف العلميّ وبين العلاقة الشخصية، فلم تتأثر قط علاقتهم الشخصية وودهم ومعروفهم فيما بينهم بالخلاف العلميّ الصِّرف، الذي هو –في نظر هؤلاء الأئمة- جزءٌ من النظر والاجتهاد المكفول لكلّ مجتهد.
لكن هذا الخيط الرفيع من الفهم لم يكن عند جميع أجيال العلماء، فخَلَفَ من بعد جيل الأئمة الكبار خَلْفٌ ضاق الأفق العلمي لكثير منهم، أو جعل بعضهم الخلاف العلميّ مطية لمكاسب شخصية أو مذهبية أو سياسية، وتولى كِبْرَ هذا الانحراف الدخلاءُ على الجماعة العلمية، أو أولئك الذين لم يجمعوا بين الفقه والأخلاق، مع حرص الأكابر على المزج بينهما، وتحقيق الانصهار التام بين العلم والعمل والفقه والتزكية.
ومن ثمّ تفاقمت مشكلة التكفير المتبادل والإقصاء لسببين رئيسيين: الأول متعلق بالجماعة العلمية نفسها، إذ نزل بعضها بعلم الكلام ومسائله العويصة ومصطلحاته المشكلة -التي لا يدرك مراميها سوى أهل الفنّ- إلى العامّة، واتّسم آخرون بالتعصب المذهبي والطائفي، وبعضهم سعى إلى تحقيق مصالح شخصيّة باسم المذهب والطائفة. ولذا حاول العلماء تجنب العوارض البشرية بالإلحاح على مسألة التقوى والورع والعمل بالعلم.
والسبب الثاني متعلّق بمحددات خارجة عن الجماعة العلمية، كالمشهد السياسيّ العام أو توظيف المؤسسة السلطانية للخلاف بين العلماء. وربما تداخلت الأسباب والعوامل، واجتمع ما هو سياسيّ مع ما هو شخصيّ ونفسيّ.
و‘التكفير‘ الذي نعنيه هنا ليس منحصرا في التكفير العقديّ، بل ما هو أوسع بما يشمل الإقصاء والرمي بالبدع والفسوق، وهذا إذا استُسيغ كتوصيفٍ علمي في الدرس العلمي، فإنه يصير خطراً على المجتمع ونسيجه إذا خرج إلى العامة، واستُعمل على منابر الوعظ والتزكية. ولم يقتصر هذا النوع من الخلاف الشخصي بين فرقة وفرقة معينة، بل امتدّ ليشمل جميع الفرق والتيارات.
فتن التعصب
كانت ثمّة خلافات علمية عميقة بين الأشاعرة والحنابلة رغم ما يؤكده ابن تيمية –في ‘مجموع الفتاوى‘- من أن "الأشعري ما كان ينتسب إلا إلى مذهب أهل الحديث…، [فهو عند بعض الحنابلة] من متكلمي أهل الحديث".
وقد حرص العقلاء من الطرفين على أن تبقى هذه الخلافات قيد الأطر العلمية والأروقة المدرسية، بيد أنّ بعض المتعصبين خرج بها إلى دروس الوعظ التي ترتادها عادة العامّة، ثم انتقلت مع هؤلاء إلى الشوارع والأسواق والأحياء السكنية.
فابن كثير (ت 774هـ/1372م) يذكر –في ‘البداية والنهاية‘- أنه في سنة 447هـ/1056م "وقعت الفتنة بين الأشاعرة والحنابلة (ببغداد)، فقوي جانب الحنابلة قوة عظيمة، بحيث إنه كان ليس لأحد من الأشاعرة أن يشهد الجُمُعة ولا الجماعات" للصلوات!! وفي سنة 469هـ/1076م اندلعت فتنة الشيخ أبي نصر ابن القشيري (ت 514هـ/1120م) -أو فتنة الحنابلة- حيث "بلغ الأمر إلى السيف" بتعبير الذهبي، ومات عدد من الحنابلة والأشعرية.
وبهذه الفتنة أرّخ الحافظ ابن عساكر لحظة بدء الصراع بين الفرقين؛ فقال فيما رواه عنه ابن تيمية في ‘الفتاوي‘: "ما زالت الحنابلة والأشاعرة في قديم الدهر متفقين غير مفترقين حتى حدثت فتنة ابن القشيري".
وكان من طريف أمر هذه الفتنة ما حكاه ابن الجوزي –في ‘المنتظم‘- من أن شيخ الشافعية أبا إسحق الشيرازي (ت 476هـ/1083م) "[مال] إلى نصرة القشيري وكتب إلى [الوزير] النِّظام يشكو الحنابلة ويسأله المعونة"، فكان ردّ شيخ الحنابلة الشريف أبو جعفر ابن أبي موسى الهاشمي (ت 470هـ/1077م) –الذي طالما اتهم خصومه بإقامة "سُوق التعصب"- أنه "كان يبذل لليهود مالا ليُسْلِموا على يد ابن القشيري ليقوّي الغوغاء، فكان العوام يقولون: هذا إسلام الرشى لا إسلام التقى"!!
والغريب أن ابن القشري هذا غادر بلدته نيسابور في خراسان (تقع اليوم شمال شرقي إيران) مكرهاً بسبب فتنة مذهبية كبيرة نشبت هناك بين السنة والشيعة سنة 444هـ/1053م، ودامت أكثر من عشر سنوات إذ لم تنته إلا سنة 455هـ/1064م. وذلك بتأجيجٍ من الوزير السلجوقي أبو نصر الكُنْدَري (ت 456هـ/1065م)، وكان هذا الوزير "معتزليا… يؤذي الشافعية ويبالغ في الانتصار لمذهب أبي حنيفة"؛ حسب الذهبي في ‘السير‘.
تكفير وشيطنة
وعندما ذهب الشريف أبو القاسم البكري المغربي (ت 476هـ/1083م) إلى بغداد سنة 475هـ/1082م كان معه مرسوم من الوزير السلجوقي نِظَام الملك (ت 485هـ/1092م)، يتضمن الإذن له بالجلوس في المدرسة النِّظّامية (نسبة إلى هذا الوزير) والتكلم بمذهب الأشعريّة الذي كان الوزير مناصرا له.
وقد عقد المغربي مجالس وعظه بالنظامية ثمّ وعظ في جامع المنصور وهو معقل الحنابلة حينئذ، ثم غادر الجامع في حراسة الشرطة بعد أن قال في درسه حسب رواية ابن الجوزي في ‘المنتظم‘: "{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَٰكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا}، ما كفر أحمد بن حنبل وإنما كفر أصحابه، فرماه الحنابلة بالآجُرّ"، وكادت أن تحصل فتنة عظيمة.
وهذا "مفتي الشافعية" أبو منصور محمد البَرَّوِي (ت 567هـ/1171م) نجده يزور بغداد سنة 566هـ/1161م، فيعظ في المدرسة النظامية وينصر مذهب الأشعريّ مبالغا في ذم الحنابلة، وكان يقول: "لو كان لي أمر لوضعت عليهم الجزية"، فيُقال إن الحنابلة دسُّوا عليه مَنْ سمَّه؛ حسب رواية سبط ابن الجوزي (ت 654هـ/1256م) في ‘مرآة الزمان‘!!
ويحكي ابن الجوزي (ت 597هـ/1201م) -في ‘المنتظم‘- أن أبا يوسف القَزْوِيني المعتزلي (ت 488هـ/1095م) دخل يوماً على نِظام الملك وعنده أبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي (ت 488هـ/1095م) -وهو "رئيس الحنابلة" ببغداد بتعبير الذهبي- ورجل آخر أشعريّ؛ فقال له مازحاً: "أيها الصدر! قد اجتمع عندك رؤوس أهل النار!! فقال: كيف؟! فقال: أنا معتزلي، وهذا مُشَبِّه، وذاك أشعري، وبعضُنا يُكفِّر بعضاً"!!
وذَكَر أيضا أنه في سنة 470هـ/1077م خرج من المدرسة النظامية "متفقّه يُعرف بالإسكندرانيّ" ومعه بعض العامة من أتباعه إلى سوق الثلاثاء ببغداد، فتكلم بتكفير الحنابلة في السوق فرُمي بآجُرَّة، فدخل إلى سوق المدرسة واستغاث بأهلها، فخرجوا معه إلى سوق الثلاثاء ونهبوا بعض ما كان فيه، ووقع الشرّ وغلب أهلُ سوق الثلاثاء من الحنابلة بالعوام، ودخلوا سوق المدرسة فنهبوا القطعة التي تليهم منها، وتدخل العسكرُ فدفعوا العوام "وقتلوا بالنُّشاب بضعة عشر" منهم.
ولم تقتصر هذه الفتن المذهبية -داخل الإطار السُّني- على العراق وخراسان شرقا، بل وصلت إلى الشام أيضا وإن في وقت متأخر نسبيا، وكذلك أقطار الدولة الفاطمية في مصر والغرب الإسلامي؛ فقد أفاد ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- أنه في سنة 716هـ/1316م "وقعت فتنة بين الحنابلة والشافعية ببعلبك بسبب العقائد"!!
وأورد الحافظ ابن حجر (ت 852هـ/1448م) -في كتابه ‘إنباء الغُمْر‘- أنه في سنة 835هـ/1432م "ثارت فتنة عظيمة بين الحنابلة والأشاعرة بدمشق، وتعصب الشيخ علاء الدين البخاري (الحنفي المتوفى 841هـ/1437م).. على الحنابلة وبالغ في الحط على ابن تيمية وصرح بتفكيره، فتعصب جماعة من الدماشقة لابن تيمية".
حروب الطوائف
ومن أمثلة تضخم الخلاف الطائفي بين الشيعة وأهل السنة وانسحابه على لحُمة الجماعة من الناس؛ ما حدث من فتن طائفية في دولة بني بويه طوال أكثر من قرن، بحيث "ظل الاتفاق.. بين السنة والشيعة غيرَ مأمون الانتقاض لما في الصدور" من التنافر والضغائن؛ حسب ابن الجوزي الذي قدم تغطية وافية لهذه الفتن في تاريخه ‘المنتظم‘.
ونستعرض هنا عشرة نماذج من أبرزها تغطي قرابة نصف قرن: ففي سنة 340هـ/951م وقعت فتنة عظيمة بين الطائفتين أيام السلطان البويهي معز الدولة (ت 356هـ/967م) الذي يقول ابن كثير إنه كان "يحبّ الشيعة ويقربهم منه ويدنيهم من بلاطه".
وفي 345هـ/956م وقعت فتنة عظيمة بين أهل أصبهان وأهل قُمْ بسبب سبّ الأخيرين للصحابة، فثار عليهم أهل أصبهان وقتلوا منهم خلقا كثيراً ونهبوا أموال تجارهم، فغضب السلطان ركن الدولة (ت 366هـ/977م) لأهل قُمْ فصادر أهل أصبهان بأموال كثيرة.
وفي سنة 346هـ/957م وقعت فتنة عظيمة بين السنة والشيعة ببغداد، وكتبت العامة من الشيعة على أبواب المساجد ببغداد: "لُعن معاوية بن أبي سفيان، ولُعن من غصب فاطمة حقها (يعنون الخليفة أبا بكر)، ومن أخرج العباس من الشورى (يعنون الخليفة عمر)، ومن نفى أبا ذر (يعنون الخليفة عثمان)".
وفي 351هـ/962م ذاتها، وقعت فتنة عظيمة بين أهل البصرة بسبب السبّ أيضا، وقُتل فيها خلق كثير وجمع غفير. كما وقعت فتنة بين السنة والشيعة ببغداد 408هـ/1018م ومات فيها من الطرفين خلق كثير.
وفي سنة 443هـ/1052م "نشبت الحرب" -بتعبير ابن كثير- بين السنة والشيعة، "فقُتل من الفريقين خلق كثير، لأن الشيعة نصبوا أبراجاً وكتبوا عليها بالذهب: محمد وعليّ خير البشر، فمن رضي فقد شكر، ومن أبى فقد كفر"؛ فأنكر أهل السنة اقتران اسم عليّ فقط باسم النبيّ صلى الله عليه وسلم تفضيلا له على أبي بكر وعمر وعثمان، وقامت حرب ضروس بين الفريقين وانتشرت الفتنة وتجاوزت الحدود.
وتجددت الحرب بين الفريقين 444هـ/1053م وتوقفت قليلا ثم اندلعت 445هـ/1054م. وفي 482هـ/1089م وقعت بينهما فتنة كبيرة قُتل فيها قرابة مئتيْ رجل في الكرخ، وقامت فتنة أخرى سنة 487هـ/1094م في بغداد ومات فيها عدد كثير من الناس.
صراع الأشقاء
ولم يقتصر الخلاف على المذاهب المختلفة فحسب؛ بل نشب الخلاف والاقتتال داخل المذهب الواحد، ومثال ذلك ما حدث بين الحنابلة من اقتتال داخليّ ورَمْي بالبدع كاد أن يعصف برؤوس المذهب أثناء محنة الإمام ابن عقيل.
ووقع الخلاف أحيانا بين الأشاعرة والماتريدية رغم أنهما مذهبان متقاربان جدا. وفي هذا دليل على أن بعض الخلافات كانت شخصية ومصلحية تدور حول المكانة والنفوذ والتصدر وربما المال.
فنحن نجد أنّ ما حصل لابن عقيل من خصمه اللدود الشريف أبي جعفر الهاشمي كان بسبب الجلوس على كرسي الحنابلة في جامع المنصور بعد وفاة شيخيهما القاضي أبي يَعْلَى الحنبلي (ت 458هـ/م).
ومثلُ ذلك الخلافُ الذي حصل بين السَّخاوي (ت 902هـ/1497م) والسيوطي (ت 911هـ/1506م) وكان حول التصدر والانفراد بالمرجعية بعد وفاة ابن حجر، وفي ذلك يقول السيوطي في ‘المقامات‘: "ظنّ السخاويّ أنه الركن الركين بعد الحافظ ابن حجر، فأطفأتُ نارَه وزلزلتُ منارَه"!!
ومن جملة الخلاف المصلحيّ ما حصل بين بعض العلماء حول التصدر في المدارس العلمية الكبيرة والمركزية كالمدرسة النظامية وجامع المنصور ببغداد وغيرهما. وقد استنكر ابن عقيل تحول جماعة من الحنبلية إلى المذهب الشافعي بغية التكسب من النظامية، أو من الدولة التي تبنت المذهبين الأشعري والشافعي حينئذ. وفي ذلك يقول ابن عقيل فيما يرويه عنه ابن الجوزي في ‘المنتظم‘: "ورأيت كثيراً من أصحاب المذاهب انتقلوا ونافقوا، وتوثقـ[ـوا] بمذهب الأشعري والشافعي طمعا في العزّ والجِرَايات (= المرتّبات)".
وإذا أدركنا ذلك ووعينا ما صاحبه من مزايدات مذهبية؛ بانت خريطة الصراعات أمام الناظر، وتفهمها جيدا باعتبارها معبّرة أصيلة عن العوارض البشرية، واللامعصومية التي تكتنف كعارضٍ الجماعةَ العلمية الأصيلة، لكنها -بلا شكّ- أصلٌ في الدخلاءِ على هذه الجماعة.
فحاصل القول إذن أنّ كثيراً من الخلافات ذات المظهر العلميّ تكون حقيقتها خلافات شخصية، تتعلق بنفوذ ومال ومكانة وشهرة و"استتباع للعوام"؛ كما سيأتي في كلام الإمام الغزالي.
دوافع التعصب
تدلّ النماذج السابقة على نفسيةِ بعض العلماء ممن ليسوا من أهل العمل والورع، أو ممن اخترقوا الجماعة العلمية على حين غفلة من أهلها، ويتسمون بالتعصب الشديد لمذاهبهم ومزايدتهم على الخلاص والحقانية، وتسميم الجوّ العلميّ، وتضخيم الخلافات من أجل "استتباع العوامّ"؛ بعبارة الغزاليّ. ثمّ يأتي فيما بعدُ دور السلطة السياسية بالتهدئة أو بالتأجيج، أو بالتوظيف، أو ربما بالتجاهل التام.
لكن السؤال المهم -الذي يحاول تقليديون تجاهله- هو: هل ثمّة علماء متعصبون؟ المفترض أن مجرد طرح مثل هذا السؤال يوحي بوجود العصمة والقداسة في النفوس البشرية ومخرجاتها، بيد أنّ هذا هو الواقع العلميّ الذي لا يُمكن تجاوزه.
ولذا نجدُ أنّ النووي (676هـ/1278م) يقول في كتابه ‘المجموع‘: "يجب على المستفتي البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء، وإذا لم يكن عارفاً بأهليته فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس، بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك".
وقبل النووي؛ خاطب الغزالي –في كتابه ‘ميزان العمل‘- العامي والمستفتي فطالب كلا منهما بوجوب النظر في أهلية المتصدرين؛ فيقول: "ولا خلاص [لك] إلا في الاستقلال"، أي استقلال النظر والفكر.
وفيما يتعلق بسؤال التعصب لدى بعض المتصدرين؛ نجد إجابته عند الباقلاني والنووي وغيرهما ممن اتهموا بعض علماء عصورهم بالتعصب الشديد للمذاهب، وتسميم المشهد العلمي العام.
فالغزالي يقول بعد أن تحدث عن مفهوم المذهب: "ومبدأُ التعصبِ: حرصُ جماعةٍ على طلب الرئاسة باستتباع العوامّ، ولا تنبعث دواعي العوام إلا بجامع يحمل على التظاهر والتناصر، فجُعلت المذاهبُ في تفصيل الأديان جامعاً، فانقسمَ الناسُ فِرَقاً، وتحركت غوائل الحسدِ والمنافسةِ فاشتدّ تعصّبُهم، واستحكمَ به تناصرُهم".
لكن ماذا لو كان المذهبُ واحداً ولا توجد خلافات مذهبية؟ لقد وجدنا في التاريخ -كما قلنا- صراع الحنابلة الفكري مع بعضهم بعضا، بل إن ابن تيمية قسمهم –في ‘مجموع الفتاوى‘- إلى أربع فِرق متباينة في بعض الآراء الاعتقادية، فما بالنا بغيرها!! كما نعرف صراع فرق الشيعة مع بعضهم بعضا، وكذلك المعتزلة والأشاعرة.
خلاف مصطنع
وهنا يمسك الغزاليّ لُبّ المشكلة فيُوّصّف هذه النزعة من العوارض البشرية، فيقول: "وفي بعض البلاد لمّا اتحد المذهبُ، وعجزَ طلاب الرئاسة عن الاستتباع، وضعوا أموراً وخيَّلوا وجوبَ المخالفةِ فيها والتعصبِ لها؛ كالعَلَمِ الأسود والعَلَمِ الأحمر، فقال قومٌ: الحقُّ هو الأسودُ، وقال آخرون: الحقُّ هو الأحمرُ، وانتظمَ مقصودُ الرؤساءِ في استتباع العوامِّ بذلك القدر من المخالفة، وظنَّ العوامُّ أنّ ذلك مُهمّ، وعرف الرؤساءُ الواضعونَ غرَضَهُم في الوضع".
أي أنّ الخلاف في أحايين كثيرة يكون مصطنعاً من علماء الدنيا وفقهاء السوء، ولذا فإنّ العلماء الربانيين تكلموا كثيراً عن الورع والزهد ووجوب العمل بالعلم، وفي هذا كله طُرُق وسُبُل لتصفية الجماعة العلمية من الدخيل والدَّخَن، ومحاولة لإبقاء الصفوة الربانية دون غيرها.
يقول النووي -في ‘شرح صحيح مسلم‘- رادًّا على بعض العلماء: "وقد زعم بعضهم أن الحديث مضطرب، وهذا غلط ظاهر وجسارة على ردّ السنن (= تضعيف الأحاديث) بمجرد الهوى، وتوهين صحيحها لنصرة المذاهب". فالنووي هنا يفهم ردهم لرواية الحديث النبوي على أنه من جملة دواعي نصرة المذاهب، لمحض النصرة لا بالطرق العلمية والمنهجية.
ومثل ذلك قول الباقلاني –في ‘التقريب والإرشاد‘-محاججاً خصمه: "ولعلّك قد وجدته (= الدليل) كما وجدناه، لكنّك تكتم ذلك لغرضٍ لك من نصرة المذهب أو غيره". وهذا دليل على شيوع الظاهرة وإدراك فحول العلماء لها؛ ولذا يقرر الغزاليّ –في ‘ميزان العمل‘- أن جميع المذاهب "ليس مع واحد منهم معجزة يترجّح بها جانبه، فجانبْ الالتفاتَ إلى المذاهبِ، واطلب الحقَّ بطريقِ النظرِ لتكون صاحبَ مذهبٍ، ولا تكن في صورةِ أعمى…، فلا خلاص إلا في الاستقلال"!
على أن العلماء فرقوا منهجيا بين الالتزام المذهبي عصبيةً -الذي ذموه بإطلاق- وتمسُّكِ العالم بقول مذهبه حين يراه أقوى دليلاً وأقومَ قيلاً. ولذلك يقول العلامة ابن مُلّا فَرّوخ الحنفي (ت 1061هـ/1651م) في كتابه ‘القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد‘: "نص علماؤنا -وغيرهم من أصحاب المذاهب- على حرمة التعصب وتصويب الصلابة في المذهب، ومعنى الصلابةِ.. الثباتُ على ما ظهر للمجتهد من الدليل…، والتعصب هو الميلُ مع الهوى لأجل نصرة المذهب، ومعاملةُ الإمام الآخر ومقلديه بما يحطّ منهم".
توظيف سياسي
وفيما يتعلق بالمحدد المتعلق بتدخل السلطة السياسية توظيفاً أو إيجابا وسلباً؛ فمثاله أنّ الخليفة العباسي المستنصر بالله (ت 640هـ/1242م) قام -بعد استفحال خطر التكفير بسبب المذهبية المتعصبة- بتأسيس مدرسة "المستنصرية"، وأوقفها على المذاهب الأربعة ولم يخصصها لمذهب دون آخر.
يقول سبط ابن الجوزي في ذلك: "وكان (= المستنصر) جواداً سمحا عادلاً، عمر المدرسة الشاطئية (= المستنصرية) ووقفها على المذاهب الأربعة، وأوقف عليها الأوقاف الكثيرة، ورتب للفقهاء جميع ما يحتاجون إليه من الأطعمة والأشربة والجوامك (= المرتّبات) والفواكه، ولم يكن عنده تعصب على مذهب، وليس في هذه الدنيا مثل هذه المدرسة، ولا بُني مثلها في سالف الأعوام".
وفي هذا إشارة إلى ضيق المؤسسة السياسية أحيانا بخلاف العلماء، الذي تضخم وكاد أن يتسبب في ضعف الدولة نفسها أمام الخصوم المذهبيين والسياسيين. ومن أمثلة ذلك أيضا أنه بعد اندلاع فتنة ابن القشيري المذكورة سابقا؛ أعلن الوزير نظام الملك –حسب ابن الجوزي في ‘المنتظم‘- أن "أمير المؤمنين (= المقتدي بأمر الله المتوفى 487هـ/1094م) ساءه ما جرى من اختلاف المسلمين في عقائدهم".
ثم بيّن الوزير مقصدَه من تأسيس المدرسة النظامية بقوله: "ونحن بتأييد السنن أولى من تشييد الفتن، ولم نتقدم لبناء هذه المدرسة إلا لصيانة أهل العلم والمصلحة، لا للاختلاف وتفريق الكلمة". وأمر الوعّاظَ في المدرسة النظامية بألا يخلطوا وعظهم بذكر شيء من الأصول والمذاهب، وطلب من أبي نصر القشيري مغادرة بغداد ليعود إلى بلده نيسابور.
لكن الساسة أيضا استغلوا ضعف العلماء في المناحي السياسية، كما وظفوا خلافاتهم العلمية بل ربما أججوها لتعزيز شرعية الحكم، أو نزع شرعية عن فرقة أو تيار ونحو ذلك، ولم يلتزم معظمهم بقاعدة زميلهم السلطان غياث الدين الغوري (ت 599هـ/1203م) الذي كان يقول -وفقا للذهبي في ‘السِّير‘- إن "التعصب في المذاهب قبيح"!
ولذا حرصت السلطة السياسية -في كافة العصور الإسلامية وحتى اليوم- على تجاوز الجماعة العلمية الأهلية، وتأسيس سلطة دينية تكون خاصة بها وتابعة لها وتتلقى منها المرتّبات والامتيازات.
وفي المقابل، ومن أجل الابتعاد عن تأثير السلطة السياسية؛ حذّر العلماء الربانيون نظراءهم من الدخول على السلاطين، وحثوهم على الابتعاد بالفقه والعلوم والجماعة العلمية عن مؤثرات السلطة، وعلمائها الذين لم يُتلقوا -في أغلب الأحيان- بالقبول والرضا من الجماعة العلمية ولا من العامة.
محاولات إصلاح
حاول العلماء -وخاصة الإصلاحيين منهم- العملَ على إبقاء نقاء الجماعة العلمية بعيداً عن التكفير والإقصاء، وبعيداً عن مؤثرات خارجية كالمصالح والشخصية والسياسة. ولذا نجد أمثال العزّ بن عبد السلام (ت 660هـ/1262م) من الشافعية، وابن الجوزي وابن عقيل من الحنابلة، وغيرهم كانوا توليفيين مع المذاهب الأخرى حتى تلك العقدية منها.
وقد التفت الحُجّة الغزاليّ إلى هذا الخطر الداهم المتعلق بالتكفير المتبادل بين الطوائف، فصنّف كتباً -أهمها ‘فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة‘- حذّر فيها من استسهال التكفير عند "المتعصبة"، وألّف كتابا سماه ‘إلجام العوام عن علم الكلام‘ لعدم فهمهم مصطلحات القوم العلمية، حتى جاءت أزمنة صار فيها كثير من العلماء "عامّة في العلم"، بعبارة ابن الجوزي؛ فصار انشغالهم بعلم الكلام خطراً كبيراً.
يقول الغزاليّ في ‘إلجام العوام‘: "فإن قيل كيف نمسك عن الجواب ونكفّ عن السؤال وقد شاع في البلاد هذه الاختلافات وظهرت التعصبات؟ قلت: الجواب ما قاله مالك في مسألة الاستواء، لينحسم سبيل الفتنة ولا يقتحم العوام ورطة الخطر". فعدم اقتحام العوام ورطة الخطر مقصد في ذاته.
وقد حذّر ابن الجوزيّ –في ‘صيد الخاطر‘- من مشاركة العوام في علم الكلام، ورأى ذلك خطراً كبيراً عليهم وعلى المشهد الديني برمته؛ فها هو يقول: "أضرّ ما على العوام: المتكلمون، فإنّهم يخبطون عقائدهم بما يسمعونه، من أقبح الأشياء أن يحضر العامي -الذي لا يعرف أركان الصلاة ولا الربا في البيع- مجلس الوعظ، فلا ينهاه عن التواني في الصلاة، ولا يعلمه الخلاص من الربا، بل يقول له: القرآن قائم بالذات والذي عندنا مخلوق، فيهون القرآن عند ذلك العاميّ فيحلف به على الكذب".
ويقول الغزالي محذراً من التكفير النابع عن التعصب المذهبي: "فإنْ زعمَ أن حدّ الكفرِ ما يخالفُ مذهب الأشعريّ، أو مذهبَ المعتزليِّ أو الحنبليّ أو غيرهم..، فاعلم أنّه غِرٌّ بليدٌ قد قيّده التقليدُ، فهو أعمى من العُميان، فلا تُضيّع بإصلاحه الزمان"!!
ويقول العز ابن عبد السلام –في ‘قواعد الأحكام‘- محاولاً إصلاح الداخل الأشعريّ: "وقد رجع الأشعري -رحمه الله- عند موته عن تكفير أهل القِبلة، لأن الجهل بالصفات ليس جهلاً بالموصوفات. وقال: اختلفنا في عبارات والمشار إليه واحد". فهو يُذكّر الأشاعرة هنا بأنّ جميع أهل القبلة مسلمون لا يجوز تكفيرهم.
ويضيف العز منتقداً جماعته الأشاعرة انتقاداً صريحاً: "والعجب أن الأشعرية اختلفوا في كثير من الصفات [الإلهية]…، ومع ذلك لم يُكفّر بعضُهم بعضًا". أي أنهم إذا كانوا لا يكفّرون بعضهم بعضا بسبب الخلاف العقدي فلماذا يكفّرون الآخرين ممن يختلفون معهم في نفس الخلاف وربما أقلّ؟!