شعار قسم مدونات

الأكاديميا في زمن الأزمات

قصف غزة
جانب من القصف الإسرائيلي على قطاع غزة (الأناضول)

نعيش جميعاً في عالم متقلب، هذا العالم الذي تكاثرت فيه المدخلات لم يعد يمنح ساكنه فرصة للوقوف والاستيعاب، يدفع الأيام دفعاً ويحشوها بالأحداث، حتى يغدو سؤال: "ماذا أكلت البارحة؟" سؤالاً ينطوي على العديد من التحديات، لأنه يفترض أن حادثة تناول الطعام ستبقى في ذاكرتي لمدة يوم كامل دون أن يدفعها حدث آخر من شباك أذني إلى مقبرة النسيان. ومهما حاول الإنسان الانعزال والمحافظة على صفاء مزاجه، تأتي الأزمات الكبرى لترمي به في دوامة الأحداث، أحداث هو ليس بالضرورة جزءًا منها فيزيائيا، لكنه يعيشها بكل مشاعره، وتحتل في عقله عرش الاهتمام المطلق.

العاملون في المجال الأكاديمي أو البحث العلمي يعيشون حالة من العذاب المستمر والانفصام النكد بين عالمين لا يبدو أنهما سيجتمعان قريباً؛ عالم مشاريعهم الأكاديمية والبحثية طويلة الأمد التي لا تُرى نهايتها، وبين العالم الواقع الذي يشدهم إلى العمل والانطلاق والحركة الان دون انتظار.

تعتمد مدى قدرة الإنسان على الانغماس في الأحداث والتجرد عنها بنسبة كبيرة على طبيعته الشخصية، فبعض الأشخاص مغرق في التفكير بطبيعته، يفسر كل مسألة بعشرة أوجه، ويفحص مرامي الكلام، ومآلات الخطاب، وبعضهم لا يتعدى الحدث، بل ربما يسمع فيغلق عنه أذنه.

إعلان

ويغلب على من يعمل في مجال الأكاديميا والبحث العلمي أن يكون من الصنف الأول، فهو مضطر لأن يكون دقيقا محللاً، وهذه الصفات لا تنمو على الأشجار بل في قلوب الناس وعقولهم بعد تعويد وتدريب. لكنها إذا عشعشت في عقل أحدهم فلا يمكن حصرها في مجال واحد أو منعها من العمل في حياة الإنسان اليومية. وهذا ما يجعل تعامل الباحث والأكاديمي مع الأزمات الكبرى صعباً ومنهكاً، إذ هو ينظر إلى كل صغيرة وكبيرة محاولاً الفهم، واستخراج الأنماط، وبناء النماذج، وأنى له مع تسارع الأحداث أن يبني شيئاً؟!

وأشد من هذا عودة الباحث على نفسه بالشك، فماذا يفعل أمام كتابه أو في مختبره والناس تواجه الاحتلال أو تحارب الطغيان؟ وما قيمة عمله وهو يلقي المحاضرات وغيره يقف يحمي أرض بلاده ويدافع عن أرض أجداده؟! لذلك فإن العاملين في المجال الأكاديمي أو البحث العلمي يعيشون حالة من العذاب المستمر والانفصام النكد بين عالمين لا يبدو أنهما سيجتمعان قريباً؛ عالم مشاريعهم الأكاديمية والبحثية طويلة الأمد التي لا تُرى نهايتها، تلك التي يكون جزء كبير منها دراسةٌ نظرية وبحثاً في الأدبيات العلمية، وبين العالم الواقع الذي يشدهم إلى العمل والانطلاق والحركة الآن دون انتظار.

هذا التمزق المستمر بين العالمين أنتج لنا أكاديميين رفضوا الواقع تماما لأنه لا ينطبق على نظرياتهم، ورأوا أن عالم الكتب والأبحاث هو العالم الذي ينتمون إليه بالكلية، فالواقع يجب أن ينصاع لهم، والعامة يجب أن تأتي إليهم، أما هم فلا مصلحة لهم في النزول إلى الشوارع كيلا تتسخ أكعاب أحذيتهم بغبار العاديين. وأنتج لنا أيضاً، مرتدين عن الأكاديميا بالكلية، يرون في البحث العلمي رفاهية لا نملكها نحن، مجرد مصرف فارغ للنقود اخترعه أولئك الذين يعرفون ترتيب الكلام ليكون لهم شأن في مجتمعهم دون أن يفعلوا شيئاً.

الواحد منا يحب أن يرى أولاده يبلغون معه السعي وهو في قوته. فكيف نجمع بين أهدافنا التي بدأنا لأجلها في عالم الأكاديميا، وبين ضميرنا الذي يؤنبنا صباح مساء؟

لكن معظم العاملين في مجال الأكاديميا والبحث العلمي ليسوا من هؤلاء ولا من هؤلاء، بل هم في الحقيقة من وقع عليهم المزق، أجسادهم في المختبر وأمام الكتاب، وعقولهم في الشارع والميادين، يرون شعوبهم تناضل وتدافع، ويرون أنفسهم خاذلين مخذلين. غير أنهم يجب أن يعوا أن ما يفعلونه هو في الحقيقة قد يوازي في الأثر ما يقوم به من هو في الشارع بل قد يتجاوزه، لكن مشكلته هو أن نتيجته لا تظهر مباشرة، بل قد لا تظهر إلى الساحة في حياة من يُنتجها. والواحد منا يحب أن يرى أولاده يبلغون معه السعي وهو في قوته. فكيف نجمع بين أهدافنا التي بدأنا لأجلها في عالم الأكاديميا، وبين ضميرنا الذي يؤنبنا صباح مساء؟

إعلان

والحل -في اعتقادي- هو في إتقان مهارة صعبة المراس، وهي أن يملك الأكاديمي مهارة المراوحة بين النظر إلى الهدف والنظر أسفل القدمين؛ فإذا هجمت الحوادث والأزمات التي لا يملك لها شيئاً نظر تحت قدميه، فأدى مهمة اليوم، وقرأ صفحة وكتب فقرة، وأنجز قطعة صغيرة. فإذا ضاقت نفسه بما يفعل، ومل أنفاسه التي يأخذها، رفع رأسه فنظر إلى حال وطنه وأمته، فتذكر لماذا بدأ مشواره الذي هو فيه سائر

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان