شعار قسم مدونات

إدارة الوقف في الشريعة الإسلامية بين ولاية الدولة وناظر الوقف

 

للدولة الإسلامية وناظر الوقف حق شرعي في إدارة الوقف، حيث إن للدولة حقا في حراسة الدين وسياسة الدنيا، ولناظر الوقف حقا شرعيا وواقعيا في إدارة الوقف وتنميته عبر العصور من عهد رسول الله إلى يومنا هذا، وذلك من أهم مقاصد الحكم وأهم وظائف الإمام، وهو حماية دين الأمة بإقامة فرائضه وشرائعه، وبسط أحكامه وحدوده في كافة المجالات وسياسة الدنيا به، والدفاع عنه وحراسته من الأفكار المخالفة، والأهواء الجامحة، والبدع المحدثة التي هي أساس الفساد، وبواعث التنازع والفرقة.

قال تعالى (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) قال الماوردي، وهو أول من صاغ النظرية السياسية الإسلامية عند أهل السنة، "الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"، وقال إمام الحرمَين الجويني إن الإمامة "رياسة تامة، وزعامة تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا".

ابن خلدون يقول "وإذ قد بينا حقيقة هذا المنصب، وأنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به، فكانت ولاية الدولة لشؤون الوقف وصيانته من العبث والفساد في مضمون حفظ الدين وسياسة الدنيا؛ ونظرا لدور الدولة في مؤسسات مختلفة في تنظيم النشاطات السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها بحكم سيادة الدولة على وطنها وتنظيمها لنشاطات مواطنيها، فالعلماء والفقهاء قديما وحديثا يبحثون عن حدود ولايتها أو سلطتها على المؤسسات العامة والخاصة، ومنها مؤسسة الوقف التي تنوعت مرافقها منذ ظهورها بمرافقها الخدمية والاقتصادية والثقافية؛ كالمساجد والمدارس والمحلات التجارية، وإن الناظر في تمركز هذه المرافق الوقفية العامة والخاصة يجدها جزءا مكملا لمجموع المرافق العامة والخاصة، والتي تنظمها قوانين الدولة التي أنشئت على أراضيها، ومن هنا كان لزاما أن تحدد طبيعة هذه العلاقة بين مؤسسة الوقف والدولة، فما مدى مشروعية تولي الدولة ولاية الوقف؟ وما هي حدود ذلك؟ وما علاقتها بناظر الوقف؟.

 

إدارة الوقف في الشريعة الإسلامية بين ولاية الدولة وناظر الوقف

إذا نظرنا إلى اجتهادات الفقهاء عبر العصور في ولاية الدولة  لشؤون الوقف، وتطبيقاتها في الدول الإسلامية، وجدنا اختلافا كبيرا في ذلك، حيث نص الحنفية على أن الواقف هو الذي يقوّم شؤون الوقف، ونص فقهاء الحنابلة على أن الموقوف عليه هو الذي يقوم بذلك إن كان رشيدا، في حين أن الشافعية يرون بأحقية الدولة لشؤون الوقف. حيث اتفق الفقهاء على أن الواقف إذا جعل النظر لشخص معين اتبع شرطه، فمن وجد فيه الشرط، ثبت له النظر عملا بالشرط؛ لأن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- جعل وقفه إلى ابنته حفصة تليه ما عاشت، ثم إلى ذوي الرأي من أهلها، وللقاضي حق تعيين الناظر إن لم يشترط الواقف ناظرا على الوقف.

أما عند الشافعية، فقال الخطيب الشربيني "وإن لم يشرطه لأحد، فالنظر للقاضي على المذهب؛ لأن له النظر العام، فكان أولى بالنظر فيه، ولأن الملك في الوقف لله تعالى، وعند المالكية والحنابلة إن كان الوقف على غير معين كالفقراء والمساكين والمساجد فإن لم يكن الواقف حيا، ولا وصي له، فالحاكم يولي عليه من يشاء؛ لأن الحاكم لا يمكنه تولي النظر بنفسه.

وعلى نحو ذلك يكون اختلاف أنماط التطبيقات، فمثلا وجدنا أنه في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين كان دور ناظر الوقف ملموسا وواضحا، حيث لا نكاد نسمع عن دور الدولة في ذلك. كما روى مسلم عن ابن عمر، قال أصاب عمر أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط هو أنفس عندي منها، فما تأمرني بها؟ قال: "إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها"، قال فتصدق بها عمر، أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يورث، ولا يوهب، قال فتصدق عمر في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، ويطعم غير متمول. قال فحدثت بهذا الحديث محمدا، فلما بلغت هذا المكان غير متمول، قال محمد غير متأثل مالا. قال ابن عون وأنبأني من قرأ هذا الكتاب أن فيه غير متأثل مالا.

ولما تغيرت الأحوال بعد عهد الصحابة بدأ تدخل الدولة في إدارة الوقف، ففي عهد الخلافة الأموية عندما تولى توبة بن نمير القضاء بمصر في 115 للهجرة قام بتعيين النظار وتحديد رواتبهم، وأيضا قام بذلك الخليفة الطائع بالله بعهد إدارة الوقف لمؤسسة القضاء، إذ سميت دار قاضي القضاة "بدار الوقف"، ومن وظائف الدولة الموحدية النظر في الأحباس، وتفقد أحوالها. وأما في عهد الخلافة العباسية فقد أنشأ المقتدر في خلافته سنة 303 للهجرة /915 م إدارة للوقف، كانت تسمى "ديوان البر" أو "دار البر" بمشورة الوزير عيسى بن دينار، وفي حكم المغول، عينت الدولة موظفا كان يسمى "صدر الوقوف" لإدارة الوقف، وكذلك كان الشأن في عصر الدولة الفاطمية سنة 118 للهجرة، حيث أنشئ ديوان للأحباس، وكذلك عملت الخلافة العثمانية التي استحدثت هيئة مشرفة على الوقف، وفي تاريخ المغرب العربي اهتمت الدول التي تعاقبت عليه بإدارة الوقف؛ كحالة المستودع الذي أنشأه أبو عنان المريني في القرن التاسع للهجرة في كل إقليم من أقاليم الدولة، تُودع فيه أموال الوقف واليتامى والمحتاجين، ومثاله أيضا ما كان عليه نظام تسيير إدارة الوقف في أواخر العهد العثماني، حيث اهتمت الدولة العثمانية به، وأسست إدارة تشرف عليها، ويترأسها المجلس العلمي، تتشكل من القاضي الحنفي والمالكي، ويشاركهما أعضاء آخرون.

وأخيرا بالنظر إلى المصلحة والمفسدة، تطور الأمر إلى أن بعض البلدان الإسلامية من حيث القوانين والأنظمة وضعت إدارة الأوقاف العامة تحت ولاية السلطة، كما في المغرب الذي يقوم بعهد إدارة الوقف العام إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وفي ماليزيا حيث المجلس الإسلامي باسم الدولة هو الذي يدير شؤون الوقف وحده، وأيضا في الجزائر كانت إدارة الأوقاف العامة تابعة لوزارة الشؤون الدينية، وكذا في لبنان. في المقابل وجدنا المملكة العربية السعودية، التي تعطي مجالا لتكوين المؤسسة الوقفية الأهلية إلى جنب المؤسسة الوقفية الحكومية لتكون بين النهجين السابقين في إدارة الوقف، وفي الكويت كانت الأمانة العامة للأوقاف تختص بالقيام بكل ما يتعلق بالأوقاف في حدود الواقفين؛ بما يحقق المقاصد الشرعية للوقف وتنمية المجتمع حضاريا وثقافيا واجتماعيا، والمملكة الأردنية لم تتعامل وفق ذلك النمط، فالدولة لا تقوم بإدارة الوقف كما في المغرب وماليزيا والجزائر؛ بل تسلك طريقين هما:

أولهما، تعطي للواقف حقا في تعيين ناظر لوقف إدارته تحت ولاية وزارة الأوقاف وشؤون المقدسات الإسلامية.

ثانيهما، تتولى وزارة الأوقاف وشؤون المقدسات الإسلامية إدارة الأوقاف الإسلامية، وتنظيم أمورها. وكذلك السودان التي عهدت هيئة الأوقاف الإسلامية إدارة الأوقاف مع مراعاة شروط الواقف.

 

الدور المأمول للدولة وناظر الوقف في إدارة الوقف

بناء على إجماع الفقهاء على وجوب إسناد مسؤولية إدارة الوقف إلى الناظر في حال تعيين الواقف على ذلك، وجدنا بعض الباحثين في دور الدولة وناظر الوقف في إدارة الوقف؛ مثل ابتسام بالقاسم عايض القرني في مقالها "الوقف بين حكم ملك الله تعالى والملكية العامة"، لا توافق بالمسلك، الذي يلغي دور الناظر المعين من جهة الواقف مطلقا، واحتجت بأن المؤسسة الوقفية قدمت خدمات خيرية للمجتمع منذ فترة طويلة بشكل فعال؛ إلا أن التدخل الحكومي يؤدي إلى ضمورها والحيلولة بينها وبين أداء دورها الرائد، كما أن تدخل الدولة المباشر في الوقف ليس هو الصيغة المثلى لإدارته؛ إذ المأمول أن يكون دورها إشرافيا رقابيا، لا أن تكون متصرفة في الوقف وغلاته، وهاني بن عبد الله بن محمد الجبير يرى أن مؤسسة الوقف يجب أن تكون مستقلة، ولا يجوز تدخل الدولة في شؤون الوقف؛ إلا في الحالة التي أجمع عليها الفقهاء، ويؤيد هذا الرأي عبد الفتاح محمود إدريس، حيث رأى أن دور الدولة في إدارة الوقف هو عند عدم وجود الناظر الخاص فقط، أما عند وجود الناظر فالدولة تقوم بالرقابة والمحاسبة، وهذا الرأي سديد وواقعي في بعض البلاد، حيث إن التدخل الحكومي يؤدي إلى ضمور المؤسسة الوقفية، والحيلولة بينها وبين أداء دورها الرائد في ظروف سياسية معينة؛ لكن في كثير من بلاد المسلمين قامت الدولة بإصدار تلك التشريعات لتكون الأوقاف تحت إدارة الدولة بناء على وظيفتها في حراسة الدين وسياسة الدنيا -مثلا في ماليزيا و المغرب والجزائر وكذلك الكويت ولبنان وغيرها- يستطيعون أن يقضوا على كثير من مشكلات مؤسسة الوقف عندهم من الفساد الإداري، والاعتلاء على الممتلكات الوقفية من ورثة ناظر الوقف وغيرها، مما يلقى ترحيب وتأييد جمهور المسلمين، وينهض بالمؤسسة الوقفية نهضة غير مسبوقة.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.