شعار قسم ميدان

ما الذي يعنيه أن تكون نغولو كانتي؟

ميدان - نغولو كانتي

لأسباب تعلمها جيدًا، من الصعب أن يبدأ الحديث عن "كانتي" بأي شيء غير الاحصائيات، فالرجل لا يصنع العناوين في أي مكان آخر، ليس مهتمًا بأخطاء الحكام ولا مركز أرسنال أو توتنهام، ولا يجيد اطلاق التصريحات اللاذعة، وبالتأكيد لا يمتلك المؤهلات الاعلامية المناسبة ليصبح قصة النجاح المفضلة هذا العام، باختصار؛ الرجل أبسط مما تطيقه الصحافة، وأكثر إثارة من أن تتجاهله الأرقام.

 

بالطبع أنت تعلم كيف يجري الأمر من هنا؛ هناك 3298492374 احصائية عن كل لاعب في كل مباراة، واحتمالات التلاعب بها لا تنتهي، وكل يوم تخرج خوارزمية جديدة لتخبرك أن لاعبًا ما أصبح أكثر من صنع فرصًا من الركنيات في الشوط الثاني وفريقه متصدر الجدول في شهر (آذار/مارس)، أو أن آخر صار أول لاعب تحت 21 عامًا يسجل هاتريك خارج أرضه في إياب نصف نهائي كأس الاتحاد منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، المهم أن يحتوي الخبر على صيغة أفعل التفضيل حتى يكتسب السخونة اللازمة ويصبح قابلًا للاستخدام في مشاحنات المشجعين اليومية.

 

ماذا تعلم عن المنطق؟
لذا انتقلت العدوى سريعًا لرجل الأرقام، وقبل أن ندرك كان حساب أحد المواقع الرياضية على تويتر ينشر تغريدة بعنوان تأثير "كانتي" أو Kante Effect في (كانون الأول/ديسمبر) الماضي؛(1) اختصر فيها المحرر التحول الملحمي الذي شهده موسم ليستر وتشلسي في حقيقة واحدة هي انتقال الفرنسي من هنا لهناك، مدللًا على كلامه بأن ليستر تصدروا البريميرليج بعد 17 جولة في موسم 2015-2016 بينما قبع البلوز في المركز الخامس عشر، وبعد عام واحد انعكس الحال وتبادل الفريقان مواقعهما في الجدول.

 

الفارق بين هذا وذاك كان "كانتي" بالطبع، ببساطة لأن كانتي هو أول ارتكاز دفاعي فرنسي ثمنه 38 مليون يورو ينتقل من فريق فاز بالبطولة بعد صعوده من الدرجة الثانية بعامين لفريق فاز مرة واحدة في مبارياته الخمس الافتتاحية في الموسم الذي عقب فوزه بالبريميرليج منذ انطلاق المسابقة بشكلها الجديد في 1993.

 

  

الحقيقة أن لا شيء يوضح قيمة الفرنسي المجنون بقدر هذه الاحصائية، لأنها ورغم سطحيتها الشديدة قامت بتعريف تأثيره فعلًا، فهو أول ارتكاز دفاعي في التاريخ يجتذب مثل هذه التحليلات الاحصائية المفتعلة عديمة المعنى، التي تتجاهل عوامل كتغيير المدرب والفارق بين لاعبي ليستر وتشلسي ومجهودات زملائه، لا لشيء إلا تضمين اسمه في عنوان جذاب.

 

صدق أو لا تصدق، هو مؤشر هام يدل على نضوج كبير في عقلية مجتمع اللعبة، ففيما سبق كانت تلك التحليلات الجوفاء مقصورة على المهاجمين وصناع اللعب فقط، أو نجوم من طراز "ميسي" و"رونالدو" ؛ كأن تُستخدم حقيقة فوز ريال مدريد بلقبي ليغا فقط منذ قدوم البرتغالي كدليل على فشله في إسبانيا، أو حقيقة فشل الأرجنتين في التتويج كإثبات قاطع على كون "ميسي" لاعب محلي.

 

المهم أن "كانتي" قد اقتطع جزءًا من الكعكة رغم أنه لم يريده، والمهم أنه صار أشبه بـ"ميسي" لاعبي الارتكاز، وصار مهمًا بما يكفي لتحاول الصحف اعتصاره حتى آخر قطرة، وفجأة أصبحت احصائيات الاعتراضات والتدخلات والثنائيات مهمة بدورها، وأصبحت المهارات الدفاعية تصنع العناوين رغم خلوها من الأهداف والمراوغات وغيرها من اللقطات التي تعجب الجمهور عادة.

 

فيل وثعلب
لم يختلط كانتي كثيرًا مع باقي اللاعبين ولم يكن يحضر الحفلات، ورغم ذلك كان يحظى بحب غرفة خلع الملابس واحترامها، لأنه كان يتحلى بقدر كبير من التصميم والعزيمة لتحقيق ما يريد
لم يختلط كانتي كثيرًا مع باقي اللاعبين ولم يكن يحضر الحفلات، ورغم ذلك كان يحظى بحب غرفة خلع الملابس واحترامها، لأنه كان يتحلى بقدر كبير من التصميم والعزيمة لتحقيق ما يريد
  
صدق أو لا تصدق أن هذا الوحش كان يلعب كهاوٍ حتى التاسعة عشر من عمره، أتى والديه من مالي إلى باريس في مطلع الثمانينيات واستقرا هناك،(2) قبل أن ينطلق "نغولو" الصغير إلى نادي "سورينس" في نفس الضاحية، ويعاني من رفض العديد من الأندية لمنحه عقد محترف، لأنه إما غير جاهز، أو ضئيل جدًا بالنسبة لأقرانه من نفس العمر، أو لأنه لا يملك ما يلزم لينجح في الدرجات الأولى.

 

ثم مرت عدة سنوات قبل أن يقرر مسئولو "بولوني" التعاقد مع "نغولو" ومنحه فرصة لاظهار قدارته، ومن هنا تدرج في المراحل العمرية حتى وصل للدرجة الثالثة الفرنسية، ومن هناك خطفه "كاين" ومعه أصبح أكثر لاعبي أوروبا اعتراضًا لهجمات الخصوم في الدوريات الخمس الكبرى. ولكن قبل أن يحدث ذلك كان هناك الكثير من الاحباط والرفض، ووسط كل هذا كانت قصة واحدة تؤكد لـ"نغولو" قدرته على النجاح،(3) هي قصة صعود "دروغبا" من مصاف الهواة للمحترفين بنفس الطريقة تقريبًا، وتحوله لنجم عالمي مع تشلسي لاحقًا، وربما هذا هو ما حسم اختياره من البداية حينما قرر الرحيل عن ليستر، ولم يكن عرض مانشستر يونايتد أو اهتمام ريال مدريد وأرسنال ليثنيه عن الانضمام للبلوز، تتبعًا لخطوات قدوته ومثله الأعلى.

 

يحكي أحد زملائه من "بولوني" وهو "إريك فاندينابيل" قائلًا أنه طالما كان هادئًا،(4) لم يختلط كثيرًا مع باقي اللاعبين ولم يكن يحضر الحفلات، ورغم ذلك كان يحظى بحب غرفة خلع الملابس واحترامها، لأنه كان يتحلى بقدر كبير من التصميم والعزيمة لتحقيق ما يريد، وفي نفس الوقت لم يكن يدرك مدى أهميته للفريق، وفي إحدى الليالي أثناء مشاهدة مباريات الـ"يوروبا ليج" كان الثنائي يجلسان سويًا، فقال "إيريك" لـ"نغولو" أنه سيلعب في تلك البطولة يومًا ما، وسيكون مكان أحد هؤلاء اللاعبين الذي يشاهدهم على التلفاز، فأجاب "كانتي" بأن ما يقوله مستحيل، وأن كل ما يتمناه هو ابتياع سيارة "رينو" صغيرة لتقله إلى التدريب وتعيده للمنزل.

 

الممسوس
ربما كان "غاري لينيكر" هو من أشار لتلك الحقيقة للمرة الأولى؛ حقيقة أن "كانتي" لا يعبأ بمدى كفائته وتفوقه، لأن الفرنسي لا يتوقف أبدًا، وكما قال أحدهم؛ لو أصبح "كانتي" أول رجل يصل للمريخ فسيهز كتفيه في لامبالاة سائلًا عن موعد الرحلة للمشترى.(5)

  

حالة كانتي تمثل مفارقة واضحة وتناقض أوضح مع كل ما مثلته الأرقام في اللعبة منذ انطلاق الثورة الاحصائية في 2007 (الأوروبية)
حالة كانتي تمثل مفارقة واضحة وتناقض أوضح مع كل ما مثلته الأرقام في اللعبة منذ انطلاق الثورة الاحصائية في 2007 (الأوروبية)

 

والحقيقة أن العالم الكروي لم يشهد من يركض بهذا الكم وبلا توقف منذ الصعود المدوي لـ"أرتورو فيدال" مع يوفنتوس، وكأن الفرنسي الصغير ممسوس ولا يستطيع التوقف حتى لو أراد، ففي (تشرين الثاني/نوفمبر) الماضي قام "بين ماك ألير" من موقع (Whoscored.com) بحساب إجمالي التدخلات الدفاعية والاعتراضات في آخر ثلاثة مواسم من البريميرليج، والنتيجة أن "كانتي" حل ثالثًا خلف "ناتشو مونريال" و"إيريك بيترز" بـ 404 و403 و401 على الترتيب، مع فارق بسيط هو أنه لم يلعب إلا موسمين فقط من الثلاثة المتضمنة في الاحصائية.(6)

 

وباحصائيات كتلك، ربما ترى "نغولو" قريبًا في قائمة المرشحين للبالون دور، وربما لا، لكن الأكيد أن حالته تمثل مفارقة واضحة وتناقض أوضح مع كل ما مثلته الأرقام في اللعبة منذ انطلاق الثورة الاحصائية في 2007، وأن "كانتي" أجبرها على الخضوع لجزء هام منها كانت تتعمد تجاهله فيما مضى، ربما لأن أحدًا لم يكن يفعله بنفس الكم، أو ربما لأنه أصبح أكثر إثارة مع "نغولو".

 

الطريف أنه في الوقت التي تظن فيه هيستيريا الاحصائيات أنها تميزه عن باقي أقرانه من لاعبي الوسط، فإنها في الحقيقة تسلط الضوء عليهم جميعًا، وتمنح أمثاله الأمل في مزيد من التقدير لأدوارهم، والمشكلة الوحيدة أن استغراق العالم 10 سنوات ليدرك أهمية لاعبي الوسط يعني أننا لن نري "لابورت" أو "فاران" في قائمة البالون دور إلا في 2027.

المصدر : الجزيرة