قراءة عسكرية مستقبلية في إستراتيجية تنظيم الدولة

رقم1: عناصر تنظيم الدولة الإسلامية – صورة أرشيفية

تكتيكات التمدد الجغرافي
العودة للإستراتيجية القديمة
مستقبل تنظيم الدولة 

إن الحرب مع تنظيم الدولة في العراق تطورت بشكل كبير جدا ومرت بمراحل متعددة من الصراع تبعا لأطوار تشكل هذا التنظيم، بدءا من مبايعة أبو مصعب الزرقاوي لتنظيم القاعدة 2004، فإعلان الدولة الإسلامية في العراق 2006 التي أوفدت أبو محمد الجولاني -مع عدد من قادتها المتمرسين بالعراق- لتشكيل جبهة النصرة لأهل الشام أواخر 2011.

ثم جاءت الخطوة المتقدمة جداً في أبريل/نيسان 2013 حين أعلِنت إقامة الدولة الإسلامية في العراق والشام التي تمدّدت وتوسعت جغرافياً صيف 2014 بما يفوق طاقتها العسكرية واللوجستية، فسيطرت على مساحات واسعة من الأراضي تمتد -بعرض 650 كم- من حلب السورية إلى محافظة صلاح الدين العراقية.

ثم بدأ التنظيم 2015 يتحول من التقدم والهجوم إلى الدفاع متخذاً وضعية دفاعيّة تعرضية، وعمد إلى تقوية قبضته على المناطق والمدن التي أحكم سيطرته عليها، خصوصاً بعد أن بدأ التحالف الدولي تكثيف ضرباته الجوية ضده، ولكن مع هذا استطاع التنظيم التقدّم نحو الرمادي مركز محافظة الأنبار في مايو/أيار 2015 والسيطرة عليها.

تكتيكات التمدد الجغرافي
اعتمد تنظيم الدولة في عقيدته العسكرية -منذ ظهوره- على الحرب الهجومية الخاطفة وسرعة الحركة فطوّر تكتيكاته وعمليّاته العسكرية، واعتمد في تطوّره العسكري على الدمج بين العلوم العسكرية التطبيقية لبعض العسكريين الذين انضموا إليه، وخبرة العمل الجهادي لبعض قيادييه الذين قاتلوا في مناطق مختلفة كأفغانستان.

اعتمد تنظيم الدولة في عقيدته العسكرية -منذ ظهوره- على الحرب الهجومية الخاطفة وسرعة الحركة فطوّر تكتيكاته وعمليّاته العسكرية، واعتمد في تطوّره العسكري على الدمج بين العلوم العسكرية التطبيقية لبعض العسكريين الذين انضموا إليه، وخبرة العمل الجهادي لبعض قيادييه الذين قاتلوا في مناطق مختلفة كأفغانستان

ومما زاده فاعلية كبيرة استيلاؤه على أسلحة مختلفة في يونيو/حزيران 2014 حين انهار الجيش العراقي بمحافظة نينوى، إلى درجة دفعت آلافا من الجنود العراقيين إلى إلقاء أسلحتهم لما يتصف به التنظيم من صورة مروعة لدى أعدائه. وأدى ذلك إلى تسليم مدن عراقية للتنظيم دون قتال، وبما فيها من أسلحة أميركية متطورة ونوعية أعطت التنظيم قدرات وإمكانيات عسكرية هائلة.

استخدم التنظيم هذه الأسلحة بشكل فعال أثناء سيطرته على الأراضي والمدن، وساعدته في السيطرة على كثير من المدن الكبرى بالعراق وسوريا التي نقل إليها قسما كبيرا من الأسلحة، وأصبح واضحًا أن التنظيم ينطلق من إستراتيجية واضحة مُحددة، وهي السعي لتحقيق مزيد من النفوذ والسيطرة على الأراضي والمدن على حساب الفصائل الأخرى.

وقد سرّع في ذلك أن التنظيم أخفق في بناء تحالفات عسكرية مع هذه الفصائل بل واستعدى كثيرا منها، وهذا ما جعله أمام جبهات متعددة ومواجهات مفتوحة استنزفت الكثير من قدراته العسكرية وأضعف ذلك نفوذه لاحقا، وكان هذا مؤشراً على بدء حقبة جديدة من الصراع في العراق والمنطقة برمتها.

عندما يُتخذ القرار السياسي في أي عمل عسكري يجب أن يكون واضحا ومدروسا ومخططا له بعناية، وأن تكون هناك قدرات وإمكانيات عسكرية لتحقيق الهدف منه، والأهم من هذا كله هو أن تكون لدينا القدرة على الدفاع والحفاظ على ما يتم تحقيقه وإنجازه من أهداف.

فتنظيم الدولة استطاع أن يحدد الأهداف بشكل مدروس والتخطيط لها بعناية تامة، وأن يتمدد ويسيطر على عدد من المدن الكبيرة بالعراق والشام في فترة زمنية قياسية أذهلت الكثير من المحللين والخبراء، ولكنه فشل في الدفاع عن هذه المدن والأراضي والمحافظة عليها.

ففي 2015 بدأ النفوذ العسكري للتنظيم في الانحسار تدريجيا بالعراق حتى أصبح عاجزاً عن التمدّد جغرافياً، فحوصرت المدن التي سيطر عليها وفشل في إدارتها، ثم بدأ يخسر المدن الواحدة تلو الأخرى بدءاً من تكريت ثم سنجار وبيجي والرمادي والفلوجة وكبيسة وهيت والقيارة، ثم الموصل وتلعفر والشرقاط والحويجة.

وبذلك خسرت "الدولة الإسلامية" -التي أعلِن قيامُها أبريل/نيسان 2013 تحت شعار "باقية وتتمدد"- جميع الأراضي التي سيطرت عليها منذ يونيو/حزيران 2014، باستثناء مدينتيْ راوة والقائم.

وهنا تجب الإشارة إلى أن قوة التنظيم يجب ألا تقاس بحجم الأراضي التي يسيطر عليها أو الفرص التي ينتهزها لضرب خصومه، بل بمدى قدرته على السيطرة على مناطقه وإدارتها والمحافظة عليها والدفاع عنها، وعلى تكييف عملياته وتكتيكاته على الأرض وفقاً لذلك، علما بأن الأراضي التي تمت استعادتها بدعم التحالف الدولي كانت تكلفتها المادية والبشرية والاقتصادية هائلة.

فمدينة سنجار وعين العرب/كوباني سُوّيت بالأرض، أما الرمادي فقد أعلِنت مدينة منكوبة بعد أن دُمّرت نسبة 85% منها بما فيها البنى التحتية، وكذلك بيجي والموصل التي تحتاج إلى أكثر من 100 مليار دولار لإعادة إعمارها، علما بأن ثمة مناطق استُخدِمت فيها الأسلحة المحرمة دوليا ولن تصلح للسكن فترة طويلة وكان التدمير فيها كارثياً.

العودة للإستراتيجية القديمة
لا شك أن الضربات التي وُجهت لتنظيم الدولة قوية وقاسية، لأنها استنزفت قدراته العسكرية والمادية والبشرية والاقتصادية، بسبب التفوق الجوي والإمكانيات والقدرات العسكرية لقوات التحالف الدولي الذي تشارك فيه أكثر من 67 دولة، بما فيها دول عظمى مثل أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.

يضاف إلى ذلك فقدانه للحاضنة الاجتماعية التي تعاطفت معه في فترة معينة، وما لبث أن استخدمها دروعا بشرية في المدن التي سيطر عليها، فمنعها من الخروج. وهذا من الأسباب التي قلصت سيطرته على الأراضي والمدن مما أدى إلى انحساره بشكل كبير جدا.

إن خسارة التنظيم للمدن الرئيسية الكبيرة ذات الأهمية الإستراتيجية بالعراق مثل الرمادي والفلوجة وتكريت وبيجي والموصل؛ جعلت التنظيم يعود إلى إستراتيجيته القديمة في استخدام حرب العصابات، بناءً على المعطيات والقدرات العسكرية واللوجستية الجديدة التي يتبعها التنظيم في التعامل مع تطورات الأوضاع الميدانية

إن خسارة التنظيم للمدن الرئيسية الكبيرة ذات الأهمية الإستراتيجية بالعراق مثل الرمادي والفلوجة وتكريت وبيجي والموصل؛ جعلت التنظيم يعود إلى إستراتيجيته القديمة في استخدام حرب العصابات، بناءً على المعطيات والقدرات العسكرية واللوجستية الجديدة التي يتبعها التنظيم في التعامل مع تطورات الأوضاع الميدانية.

فبعد معركة الموصل انسحب التنظيم من مدينة تلعفر تاركا بعض المفارز للتعويق في المدينة وكذلك الشرقاط والحويجة، لأن الدفاع عن هذه المدن الصغيرة أصبح لا يمثل أهمية إستراتيجية كبيرة لديه بعد فقدان المدن الكبيرة، وصار بقاؤه فيها يعني استنزافه بشكل كبير جدا. وبذلك تملص من معركة غير ناجحة، خصوصا مع قلة مجنديه وضعف قدراته العسكرية واللوجستية.

ويمكن أن نقول إن البراغماتية قد تسود أحياناً في بعض معارك التنظيم إذا شعر بأنه مهزوم عسكريا في مواجهة غير متكافئة بسبب التفوق الجوي؛ ولذلك لجأ في هذه الفترة إلى تنفيذ عمليات يمكن اعتبارها نوعية بمهاجمته أهدافا محددة بمجاميع صغيرة من الانغماسيين تتراوح أعدادهم من سبعة إلى عشرة أشخاص.

وتستخدم هذه المجاميع السيارات المفخخة والأحزمة الناسفة، إضافة إلى شن التنظيم هجمات واسعة في مناطق مختلفة ضمن قاطع محدد كما حصل في هجمات الرمادي وصلاح الدين، وهذا له دلالات متعددة منها:

– أن هذه الهجمات لا تمثل موجة جديدة لتمدد تنظيم الدولة بقدر ما هي رسالة مفادها أنه -بعد خسارة المدن الكبيرة- ما زال يستطيع تنفيذ هجمات واسعة وكبيرة لضرب أهداف محددة وليس السيطرة عليها، وهي أشبه ما تكون بالغارات التي تُنفَّذ ضمن تعبئة حرب العصابات.

– إرساء حالة من عدم الأمن والاستقرار في المناطق التي تمت استعادتها من التنظيم، وإنهاك القوات الحكومية لتشتيت الجهد العسكري مستفيدا من طبيعة الأرض ومعرفته بمسالكها وطرقها.

وكذلك دفع الحكومة لتغيير خططها بنقل الصراع إلى مناطق بعيدة عن ساحة العمليات، لإجبار القوات الحكومية على إفراز جزء من قواتها -التي تشارك في عمليات قتالية- لتعزز قواطع أخرى، كما حصل في مدينة كركوك يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول 2016.

– استخدام أسلوب التفجيرات في المدن الآمنة لإرباك الأجهزة الأمنية، واستنزاف الدولة اقتصاديا وعسكريا وإشاعة الفوضى، كما حصل في تفجير الكرادة والناصرية.

مستقبل تنظيم الدولة
إن إستراتيجية تنظيم الدولة في الفترة المقبلة كانت واضحة عبر التسجيلات الصوتية لقيادات التنظيم التي صدرت الفترة الماضية، والتي أوضحت أنه قد يعود إلى الصحراء التي انطلق منها ويترك المدن الكبيرة التي سيطر عليها، لأنه "لا يقاتل للسيطرة على مدينة أو سلطة" ولا يعتد بالجغرافيا لأن مشروعه عابر للحدود.

وهذا ما صرح به المتحدث الرسمي باسم تنظيم الدولة أبو محمد العدناني -في كلمة صوتية بتاريخ 23 مايو/أيار 2016- حين قال: "وهل سنُهزم وتنتصرون إذا أُخِذَت الموصل أو سرت أو الرقة أو جميع المدن، وعُدنا كما كنّا أول حال؟ كلاّ! إنّ الهزيمة فُقدان الإرادة والرّغبة في القتال".

يمكن القول إنه من الصعوبة أن يعود تنظيم الدولة إلى مناطق أهل السنة بالعراق للسيطرة عليها في الفترة القريبة القادمة، ولكن سيبقى له وجود بعيداً عن المدن نسبيا مع ضعف وانحسار نفوذه بشكل كبير جدا وتقلص سيطرته. كما سيزيد وتيرة عمله الخارجي تجاه أوربا وأميركا وروسيا

بدأ التنظيم العودة إلى إستراتيجية حرب العصابات والعمليات النوعية، والعمليات المنفردة واستخدام الخلايا النائمة والغارات، وهذا كان واضحا عندما انسحب التنظيم من مدن تلعفر والشرقاط وأخيرا الحويجة، مما يعني أنه يحاول أن يتجنب المعركة في ظروف غير ملائمة ويحتفظ بقدراته العسكرية لعمليات لاحقة، لكون هذه المعارك تشكل استنزافا كبيرا لقدراته.

سيعمل التنظيم على استغلال أي فرصة لضرب مؤسسات الدولة وبعض الأهداف الحيوية، وذلك بتنفيذه عمليات أمنية نوعية تضرب مفاصل رخوة ومهمة في الدولة لإرباك الوضع الأمني، مخلفا خسائر كبيرة جدا في الأرواح والممتلكات.

وسيحاول التنظيم أيضا أن يستفيد من سياسات الحكومة العراقية الطائفية والتناقضات السياسية الحاصلة في البلد بعد معركة الموصل، والخلاف على المناطق المتنازع عليها، وكذلك الاستفتاء الذي حصل في إقليم كردستان.

وذلك إضافة إلى الممارسات الطائفية للقوات الحكومية ومليشيات الحشد الشعبي المتهمة باختطاف المئات من المواطنين الأبرياء الذين لا يُعرف مصيرهم إلى الآن، والتضييق الأمني على المحافظات السنية، والتغيير الديموغرافي ومنع المهجرين من العودة إلى مناطقهم.

هذا إلى جانب عدم قدرة الحكومة على إعادة إعمار المدن التي دُمّرت جراء العمليات العسكرية، وهذا يعني أن التنظيم سيحاول تأليب الناس مجددا لكسب مناصرين جدد بغرض العودة إلى هذه المناطق، حيث لا يوجد لدى الحكومة أفق لإنهاء الصراع فيها.

وفي الختام؛ يمكن القول إنه من الصعوبة أن يعود تنظيم الدولة إلى مناطق أهل السنة بالعراق للسيطرة عليها في الفترة القريبة القادمة، ولكن سيبقى له وجود بعيداً عن المدن نسبيا مع ضعف وانحسار نفوذه بشكل كبير جدا وتقلص سيطرته.

وقد يعود التنظيم إلى الصحراء ويتجه لتنفيذ تفجيرات محدودة بعمليات نوعية ومجاميع صغيرة، كما سيزيد وتيرة عمله الخارجي تجاه أوربا وأميركا وروسيا؛ ولكن التنظيم لن يتلاشى ما دامت الدولة لا تقدم حلولا حقيقية للمشاكل التي تعاني منها مناطق وجوده.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.