اقتصاد اللاعودة في مصر 2016

Egyptians watching the swearing-in ceremony of President elect Abdel Fattah al-Sisi in a coffee shop in down town Cairo, June 8, 2014. Sisi promised to rule in an inclusive manner after he was sworn in as president on Sunday in a ceremony with low-key attendance by Western allies concerned by a crackdown on dissent. REUTERS/Mohamed Abd El Ghany (EGYPT - Tags: POLITICS ELECTIONS)
من المتوقع أن تترك القرارات الاقتصادية في 2016 آثارا عميقة في المجتمع المصري (رويترز)

عبد المنعم هيكل

تشابكت في مصر هذا العام خيوط معقدة من الأزمات الاقتصادية لا يضاهيها شيء في ذاكرة المصريين الحديثة، وتمكن الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظامه من فرض برنامج اقتصادي يقوم على فكرة أن القسوة تجاه الشعب في هذا الجانب -كما في جوانب أخرى- ستجدي نفعا.

بدأ العام بأزمة حادة في النقد الأجنبي، إذ كانت مليارات الدولارات من المساعدات الخارجية قد تبخرت على مدى عامين سابقين دون أن يظهر لها أثر في تحريك عجلة الاقتصاد.

السياحة في مصر شهدت سلسلة من الانتكاسات بالسنوات الأخيرة (رويترز)
السياحة في مصر شهدت سلسلة من الانتكاسات بالسنوات الأخيرة (رويترز)

فقد تلقت السياحة -وهي مصدر رئيسي للعملة الصعبة- ضربة قاصمة ظلت آثارها ممتدة بعد سقوط الطائرة الروسية في سيناء نهاية أكتوبر/تشرين الأول ٢٠١٥.

وما زاد الأمر تعقيدا أن الاقتصاد المصري عند تلك النقطة كان قد أدمن استهلاك النقد الأجنبي، حيث أصبحت البلاد شديدة الاعتماد على الاستيراد، ولا سيما مع تآكل القاعدة الإنتاجية، وقد بلغت قيمة واردات مصر ثمانين مليار دولار في عام ٢٠١٥.

أزمة العملة
وسمحت كل تلك العوامل بأن يبدأ الجنيه المصري انحدارا غير مسبوق، فمع شح العملة الصعبة وانكماش احتياطي النقد الأجنبي ظهرت السوق السوداء باعتبارها بديلا واقعيا للنظام الرسمي الذي صار عاجزا عن توفير الدولار للمستوردين والمصنعين والأفراد.

الجنيه تردى هذا العام بشكل غير مسبوق (رويترز)
الجنيه تردى هذا العام بشكل غير مسبوق (رويترز)

وكان لنقص الدولار أثر واضح في مختلف جوانب الاقتصاد، فقد نفد صبر الشركات الأجنبية العاملة في مصر -ومنها شركات الطيران- لأنها لم تعد قادرة على تحويل أرباحها إلى خارج البلاد بسبب نقص الدولار، وقامت بعض الشركات بتقليص عملياتها في مصر لهذا السبب.

وفي جانب الاستيراد صارت يد الحكومة مغلولة في شراء العديد من السلع الأساسية، وهو ما أحدث سلسلة من الأزمات التي كانت وراءها عوامل أخرى أيضا.

وبعد أن أدرك الموردون العالميون مشكلة نقص الدولار في مصر وصعوبة تمويل مشتريات السلع الأساسية أحجم كثير منهم عن التقدم بعروض في مناقصات مختلفة للقمح والسكر وزيوت الطعام والوقود.

إخفاقات النظام التمويني
وفضلا عن ذلك نشأت أزمات في هذا الجانب ترتبط بإخفاقات أخرى غير مشكلة العملة، فعلى مدى هذه السنة تقلبت سياسة الحكومة المصرية بشأن النسبة المسموح بها من فطر الإرغوت في شحنات القمح المستوردة.

ملايين المصريين يعتمدون على السلع التموينية المدعومة من الحكومة (رويترز)
ملايين المصريين يعتمدون على السلع التموينية المدعومة من الحكومة (رويترز)

وكاد ذلك أن يسبب نقصا خطيرا في هذه السلعة الإستراتيجية بعد أن امتنع أغلب الموردين عن المشاركة في المناقصات.

وفي مرحلة أخرى قيل إن الاشتراطات المتعلقة بفطر الإرغوت هي التي دفعت روسيا -وهي من أكبر مصدري القمح- لحظر استيراد الفواكه والخضراوات من مصر في سبتمبر/أيلول الماضي، قبل أن تقوم القاهرة بإلغاء هذه الاشتراطات فتتراجع موسكو بدورها عن الحظر.

وشمل ملف القمح أزمة أخرى أو بالأحرى فضيحة فساد استقال على أثرها وزير التموين خالد حنفي في أغسطس/آب الماضي.

محصول القمح الوهمي
فقد تبين أن محصول القمح المحلي قد تم تضخيم بياناته بقصد نهب الأموال العامة المخصصة لدعم هذا المحصول، وهو فساد بلغت تكلفته ما يعادل سبعين مليون دولار على الأقل، وفق بيان للنيابة العامة.

الفساد في منظومة القمح كلف البلاد سبعين مليون دولار على الأقل (أسوشيتد برس)
الفساد في منظومة القمح كلف البلاد سبعين مليون دولار على الأقل (أسوشيتد برس)

بالإضافة إلى ذلك برز إخفاق آخر في ملف الأرز، حيث اضطرت مصر بسبب سياسات ذلك الوزير نفسه لاستيراد الأرز للمرة الأولى منذ عشرين عاما على الرغم من وفرة المحصول المحلي، وذلك لأن الحكومة لم تقم بتخزين كميات كافية وفتحت باب التصدير دون ضوابط.

وكانت أزمة السكر أشد وطأة، فمع صعوبة تمويل الاستيراد وارتفاع السعر عالميا بسبب انخفاض إنتاج السكر في البرازيل صارت هذه السلعة المهمة لدى المصريين شديدة الندرة، ونفذت السلطات حملة أمنية عنيفة لمصادرة السكر من مخازن الشركات، وقامت في النهاية برفع سعر السكر بنسبة 40%.

تضاف إلى ذلك أزمات في حليب الأطفال وفي الأدوية المستوردة وكذلك الأدوية المصنعة محليا التي تعتمد على خامات مستوردة.

الجنيه والتضخم
وبالعودة إلى أزمة العملة التي كانت السمة البارزة للمشهد الاقتصادي هذا العام يشار إلى أن الحكومة مرت بمراحل مختلفة لمحاولة حل الأزمة، واستخدمت أساليب مختلفة كان من أبرزها الأسلوب الأمني ضد السوق السوداء، لكن ذلك لم يجد نفعا.

الإجراءات الأمنية لم تفلح في القضاء على السوق السوداء (الأوروبية)
الإجراءات الأمنية لم تفلح في القضاء على السوق السوداء (الأوروبية)

وقام البنك المركزي المصري في مارس/آذار الماضي بخفض قيمة الجنيه رسميا بنحو ١٤٪‏، لكن ذلك لم يفلح في القضاء على السوق السوداء، ولم يؤد إلا لزيادة الأعباء على الموازنة، فضلا عن زيادة الغلاء على المواطنين، فقد تجاوز معدل تضخم الأسعار في أرياف مصر 17% في أغسطس/آب الماضي، وشهدت البلاد عموما أعلى معدلات التضخم منذ عام 2008 على الأقل.

وتركزت جهود السلطة على مواجهة الجزئية المتعلقة بالمضاربة على العملة بدلا من التفكير في حلول لأصل المشكلة وهو نقص العملة الصعبة، ولذلك قامت بإغلاق أكثر من ٤٠٪‏ من شركات الصرافة في البلاد، وقامت بتغليظ العقوبة على المتعاملين في العملة في غير القنوات الرسمية.

ومع كل هذا استمر تدهور الجنيه وارتفاع الدولار الذي تجاوز ١٨ جنيها لأول مرة في تاريخ البلاد.

ثمن القروض الخارجية
وفي خضم هذه الأزمات كان اللجوء للقروض الخارجية خيارا إستراتيجيا للحكومة، فقد اقترضت مصر أو وقعت اتفاقات للاقتراض من البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية وروسيا والصين ودول الخليج وأخيرا صندوق النقد الدولي.

وهذا القرض الأخير هو الأهم، إذ إن تكلفته الباهظة قد تترك آثارا يصعب محوها على حاضر مصر ومستقبلها وتركيبتها الاجتماعية، ففي سبيل هذا القرض الضخم (١٢ مليار دولار على ثلاث سنوات) قامت الحكومة في غضون أشهر قليلة بتطبيق مجموعة من الإجراءات القاسية بدعم من تصريحات السيسي الذي أكد أنه لن يخشى من تحذيرات الانفجار الاجتماعي المحتمل التي واجهها آخرون ممن حكموا مصر وتحديدا الرئيس أنور السادات الذي أقدم على رفع الأسعار ثم تراجع.

وبضربات متلاحقة فرض النظام ضريبة القيمة المضافة وقام بتعويم الجنيه ورفع أسعار الوقود.

فهم التقييمات الاقتصادية
وهنا يقول بعض الخبراء في الاقتصاد إن هذه القرارات -التي لا يمارون في أنها موجعة جدا للمصريين- ستؤتي ثمارها ولو بعد حين وستساعد الاقتصاد على النهوض من جديد وعلى جذب المستثمرين وتصحيح الاختلالات المالية.

‪لقاء السيسي ومديرة صندوق النقد كريستين لاغارد على هامش قمة العشرين الأخيرة في الصين‬ (الأناضول)
‪لقاء السيسي ومديرة صندوق النقد كريستين لاغارد على هامش قمة العشرين الأخيرة في الصين‬ (الأناضول)

فكيف يمكن فهم هذه التقييمات في ضوء أزمات الاقتصاد المصري؟ إن هناك مستويات مختلفة من التأثير لهذه القرارات الاقتصادية الخطيرة.

غالبا ما يتحدث كثير من الخبراء عن المستويات الواضحة والقريبة مع أن بعضهم يتجاهل بعض التأثيرات الواضحة، مثل ارتفاع مستويات الدين العام وارتفاع معدل التضخم وأسعار الفائدة وزيادة الأعباء المعيشية على الأغلبية العظمى من المصريين.

ويقول هؤلاء الخبراء إن النظام المصري ربما ينجح في تحقيق بعض النتائج المنشودة مثل سد الفجوة التمويلية مؤقتا واجتذاب استثمارات أجنبية في الأسهم والسندات وزيادة الإيرادات الضريبية وتقليص كتلة الدعم والأجور في الموازنة العامة.

الآثار العميقة
غير أن هناك تأثيرات عميقة لا يمكن تجاهلها، فهذه التحولات الاقتصادية قد تنتج مزيدا من التفاوت الاجتماعي بين المصريين وارتفاعا في معدل الفقر، إذ إن هذه الإجراءات التي تمس بشكل مباشر الطبقتين المتوسطة والفقيرة وتقلص القيمة الحقيقية لدخليهما قد تحكم على مزيد من السكان بالانضمام إلى طبقة الفقراء التي تشكل نحو 28% من مجموع المصريين، وفق أحدث الأرقام الرسمية.

وهذه الجوانب ليست عادة ما يركز عليه المحللون في بنوك الاستثمار والمؤسسات الاقتصادية غير المعنية بالتنمية، ولا سيما صندوق النقد الدولي الذي يقر مسؤولوه بأن عملهم لا يركز في الأساس على مكافحة الفقر وتحقيق العدالة الاجتماعية.

والحلول التي يحتاجها الاقتصاد المصري هي حلول صعبة باتفاق الخبراء، وتشمل تصحيح البنية الاقتصادية القائمة على الاستيراد، والاستثمار الكثيف في البنية التحتية وتطوير القاعدة الصناعية وتوفير الفرص المتكافئة وحماية الفقراء والمهمشين ومكافحة الفساد.

وهذه الحلول تتطلب استقرارا سياسيا وسلما اجتماعيا، ولا يتناسب حجمها مع بعض الأفكار التي طرحها السيسي من قبيل "صبح على مصر بجنيه"، و"التنازل عن الفكة" لدعم الاقتصاد الوطني.

المصدر : الجزيرة