شعار قسم ميدان

السياسة التونسية على حافة الهاوية.. هل تنقذ الانتخابات المبكرة البلاد من الفوضى؟

في مساء يوم 30 يونيو/حزيران، أو "جوان" كما يسميه التونسيون، استعد نواب البرلمان التونسي من أجل جلسة حامية الوطيس تضمَّنت مناقشة عدة مشروعات، منها مشروع قانون يتعلَّق بتنظيم العمل المنزلي، ومشروع قانون أساسي يتعلَّق بالموافقة على ضبط مقاييس تقسيم الدوائر الانتخابية وتحديد عدد مقاعدها. لكن المشروع الأهم كان قانونا أساسيا للموافقة على اتفاقية بين الحكومة التونسية و"صندوق قطر للتنمية" حول فتح مكتب للصندوق القطري في تونس. وقد احتجَّت على مناقشة القانون من الأصل النائبة عبير موسى، رئيسة الحزب الدستوري الحر المثيرة للجدل، والمعادية للثورة التونسية، إذ وصفت الاتفاقية بـ"الاستعمارية".

 

بدأت الجلسة، ومعها بدأت جهود عبير موسى وأعضاء كتلتها البرلمانية لتعطيل أعمال البرلمان، مما أثار غضب النائب الصحبي صمارة، فلم يتمالك نفسه واعتدى عليها بالضرب لاكما إياها عدة مرات، قبل أن يَحول عدد من النواب بينه وبينها. في الليلة نفسها، تعرَّضت عبير موسى للضرب مرة أخرى، لكن هذه المرة من طرف نائب آخر هو سيف الدين مخلوف، ليتحوَّل البرلمان التونسي، الذي يُعَدُّ أكثر مؤسسات الدولة انفتاحا، إلى ما يُشبه "حلبة المصارعة" بين نوابه. قدَّمت الأحداث داخل البرلمان التونسي في تلك الليلة صورة مُصغَّرة لما وصلت إليه تطورات الأزمة السياسية التونسية الناجمة عن الخلاف على الصلاحيات بين الرئاسة والبرلمان، التي تُهدِّد بتقويض مؤسسات الدولة وتعطيل الحياة وتهديد السِّلْم الأهلي.

لم يكن الوضع خارج البرلمان بعيدا عن حال الصراع، فـ"التوانسة"، كما ينطقها العامة، باتوا يعانون الأمَرَّين بسبب تفاقم أزمة تفشي كورونا إلى درجة غير مسبوقة وما تمخَّض عنها من انهيار القطاع الصحي، بالتزامن مع ركود اقتصادي وارتفاع لنِسَب البطالة وصعود معدلات الفقر. بين حادثة مقتل شاب تحت الإيقاف، أو سحل طفل بالشارع بعد خلع ملابسه من قِبَل عناصر أمنية في منطقة سيدي حسين، أو وفاة شرطي مصاب بكورونا أمام مستشفى بمدينة القيروان، أو سجن أحد الباعة المتجولين، بات التوانسة مُعلَّقين بين تلك الأخبار وكأنها قادمة من عام 2010، لكن الجميع يدرك أن الوضع الآن أكثر تعقيدا من الوضع الذي أدَّى إلى اندلاع الثورة التونسية قبل أكثر من عشرة أعوام، إذ لم تعرف تونس حينها مؤسسات مفتوحة وحكومة وبرلمان منتخبَين، كما لم تعرف مسارا ديمقراطيا مرتبكا لهذه الدرجة في الوقت ذاته.

 

"بعض السياسيين من نفس سلالة كورونا الجديدة، يتلوَّنون ويتقلَّبون كما يريدون". بهذه العبارة المقتبَسة من الواقع المرير للوباء الذي تضرب سلالاته العالم واحدة تلو الأخرى، اختار الرئيس التونسي قيس سعيد مهاجمة السياسيين في بلاده على خلفية الأزمة السياسية الممتدة منذ عدة أشهر، لكن الرئيس التونسي تجاهل في الوقت نفسه الحديث عن الوضع الكارثي للوباء الذي تضرب موجته الأشد تونس هذه الأيام. فقد ارتفعت أعداد الإصابات والوفيات إلى مستوى غير مسبوق، وأعلنت وزارة الصحة التونسية في 6 يوليو/تموز الحالي أنها سجَّلت أعلى رقم قياسي يومي لعدد الإصابات بالفيروس، منذ تفشي الجائحة في البلاد في مارس/آذار 2020، بواقع قرابة 8 آلاف حالة.

كان تصريح سعيد المثير للجدل واحدا من عدة تصريحات نارية هاجم فيها خصومه السياسيين وصارت نهجا خاصا به خلال الفترة الأخيرة، إذ اعتاد الرئيس بعد كل حادثة سياسية تمر بها البلاد الخروج للتصريح بكلمات تزيد الوضع احتقانا لا أكثر؛ فهو تارة يتهم أطرافا سياسية تونسية بالسعي إلى "إزاحته من الحكم ولو بالاغتيال"، وتارة أخرى يُهدِّد باستخدام الدستور لوضع حدٍّ لكل ما يعتبره تجاوزا يُنذر بسقوط الدولة، وكأنه مُعلِّق سياسي أو كاتب بصحيفة رسمية لا صاحب المنصب الأرفع في الدولة نفسها.

 

تعود جذور الأزمة السياسية الحالية في تونس إلى عام 2019، الذي شهد انتخابات رئاسية أوصلت قيس سعيد، أستاذ القانون الدستوري البالغ من العمر 61 عاما، إلى قصر قرطاج. وفي أكتوبر/تشرين الأول من العام نفسه، حاول حزب النهضة الإسلامي، الأكبر في البرلمان، تمرير حكومة الحبيب الجملي ولم ينجح في ذلك، لتظهر إلى السطح خلافات بين موقعَيْ الثقل السياسي في تونس، "البرلمان" الذي على رأسه حزب النهضة، و"الرئاسة" التي يُمثِّلها قيس سعيد، وهي خلافات كانت تُنذر بصراع محتدم على تحديد نفوذ المؤسسات في الديمقراطية الوليدة. ورُغم أن صراعات كتلك طالما ميزت الدول الديمقراطية في مهدها بدءا من الولايات المتحدة وحتى أصغر الدول الأوروبية، فإن تبعات هذا المخاض العنيف للديمقراطية المؤسسية في تونس يبدو شديد الوطأة على النسيج الاجتماعي وبنية الاقتصاد في البلاد.

 

عادت الكرة إلى ملعب قيس سعيد لاختيار بديل للحبيب الجملي من أجل تشكيل الحكومة، وهو ما خلق مناخا سياسيا تفاقمت فيه السجالات حول مسألة الصلاحيات على وجه التحديد. لكن تلك التجاذبات لم تكن جديدة من نوعها على كل حال، إذ عرفتها تونس بشكل متكرر بعد ثورتها عام 2011، فكثيرا ما أُثيرت مسألة ضبط صلاحيات الرئاسات الثلاث؛ رئاسة المجلس (البرلمان)، ورئاسة الحكومة، ورئاسة الجمهورية.

Tunisian Prime minister designate Habib Jemli speaks during a news conference in Tunis, Tunisia January 1, 2020. REUTERS/Zoubeir Souissi
الحبيب الجملي

على سبيل المثال، شهدت فترة الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي صراعا من هذا النوع. وقد عُدَّت رئاسته بمنزلة مرحلة سياسية عادت فيها الشخوص والأحزاب الموالية للنظام القديم إلى الواجهة في عام 2014 بعد سنوات قليلة على الإطاحة بالنظام. وفي ظل حكومة الحبيب الصيد التي مُنِحَت ثقة البرلمان في فبراير/شباط 2015، حدث ما يشبه الانقلاب على النظام شبه البرلماني بسبب مساعي البعض إلى تحويله نحو النظام الرئاسي. وسرعان ما تفاقمت الأزمة مع وصول حكومة يوسف الشاهد، حين أراد الشاهد أن يستقل بصلاحياته بعيدا عن رئيس الدولة ليدخل في مواجهة مع الرئيس التونسي نفسه.

 

عادت أزمة الصلاحيات لِتُطل بوجهها من جديد بشكل أعنف مع حكومة هشام المشيشي التي أدَّت اليمين الدستورية في سبتمبر/أيلول 2020، فبينما كانت حركة النهضة ترغب في تعيين رئيس حكومة موالٍ للأغلبية البرلمانية، أراد الرئيس التونسي رئيسَ حكومة مواليا له. بمعنى آخر، بينما دعم حزب النهضة منح المزيد من السلطات للحكومة، وبالتالي للبرلمان، أراد الرئيس التونسي التأسيس لنظام رئاسي بدلا عن النظام الحالي المختلط الذي يضع معظم الصلاحيات بيد رئيس الوزراء الذي يُعينه الائتلاف الحاكم.

 

حلَّ الصدام الأبرز، في منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، حين رفض قيس سعيد المصادقة على تعديل وزاري اقترحه المشيشي وصادق عليه البرلمان التونسي، رافضا دعوة الوزراء الجدد إلى أداء اليمين الدستورية أمامه، مُعتبِرا أن التعديل شابته "خروقات"، وهو ما لم يقبله المشيشي. بالتزامن مع ذلك، تسبَّبت تصريحات لسعيد أنّ صلاحياته بوصفه قائدا أعلى للقوات المسلحة تشمل أيضا قوات الأمن الداخلي وليس الجيش فقط في تصعيد خلافه مع حكومة المشيشي بشأن الصلاحيات.

 

منذ اشتعال الأزمة، تعدَّدت المبادرات الساعية لتخفيف الاحتقان، والخروج من الخلاف حول الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الحكومة هشام المشيشي. وكانت أولها مبادرة التهدئة والوساطة بين الفرقاء السياسيين، التي قام بها "الاتحاد العام التونسي للشغل"، أكبر منظمة نقابية في تونس، إذ أطلق الاتحاد مطلع ديسمبر/كانون الأول الماضي مبادرة "الحوار الوطني" بغية الخروج من الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، ومن أهم بنودها إرساء "هيئة حكماء تقودها شخصيات وطنية مُستقلِّة للخروج من الأزمة".

Noureddine Taboubi, Secretary General of the Tunisian General Labour Union (UGTT), speaks during an interview with Reuters in Tunis, Tunisia January 23, 2021. Picture taken January 23, 2021. REUTERS/Angus McDowall
نور الدين الطبوبي "الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل"

بيد أن المبادرة مرَّت على الجميع مرور الكرام دون الأثر المرجو منها، ليُفاجئ الرئيسُ التونسي في مارس/آذار الماضي شعبَه باقتراحه تنظيم حوار وطني بمشاركة واسعة من الشباب، بما يُمكِّن من بلورة مقترحات ومطالب تنطلق من المستوى المحلي نحو الوطني، وهو اقتراح اعتبرته النخبة السياسية التفافا على مبادرة الحوار التي تقدَّم بها اتحاد الشغل، ومحاولة من قيس سعيد لإطالة أمد الأزمة وإحراج منافسيه في السلطة والاستئثار بدفة العملية السياسية.

 

بعد نحو شهر، أتت مفاجأة أخرى للتونسيين مع إقدام عدد من الضباط المتقاعدين من الجيش التونسي على طرح مبادرة سياسية باسم "الأمل الأخير". ويقترح الضباط للخروج من الأزمة السياسية أن يدعو الرئيس "كلًّا من السادة رئيسَيْ مجلس النواب والحكومة لاجتماع عاجل بقصر الجمهورية يُخصَّص لِطيّ صفحة القطيعة واستعادة الاتصالات الطبيعية بين الرئاسات الثلاث وتدارس رهانات المرحلة ومتطلباتها". وقد اقترح الضباط أيضا على الرئيس "إلقاء خطاب تجميعي في مجلس النواب يحضره كل الفرقاء السياسيين، ويعقبه إيقاف فوري لكل حملات تبادل العنف والتشويه، واحترام الأطراف السياسية، والتزام الجميع بتأجيل الخوض في المسائل السياسية الخلافية إلى حين التخلُّص من وباء كورونا والابتعاد عن شبح الإفلاس". وقد أحدثت تلك المبادرة بالطبع جدلا واسعا في تونس بسبب تحسُّس المجتمع التونسي من تدخُّل القيادات العسكرية في الشأن السياسي.

 

في منتصف يونيو/حزيران الماضي، فاجأ الرئيس التونس الجميع مجددا بدعوته إلى حوار للاتفاق على نظام سياسي جديد وتعديل دستور 2014 -المُنبثق عن المجلس الوطني التأسيسي- الذي قال إنه مليء بالأقفال والعراقيل. لكن الدعوة التي ظهرت بادرةً نحو الحل جاءت بنتائج عكسية وعادت بالأزمة إلى نقطة الصفر، إذ بدا واضحا من كلمات قيس سعيد أنه يُمهِّد لتغيير الدستور وتعديل النظام السياسي في البلاد بعد أن شكَّك في الحوار الوطني الذي جرى عام 2013 واصفا إياه بأنه "لم يكن حوارا ولم يكن وطنيا على الإطلاق".

 

مع طول أمد الأزمة في تونس، بدأت دعوات في الظهور إلى السطح تُطالب باستبعاد أصحاب الخلافات المتصاعدة، على رأسها إعلان مجموعة من الأحزاب السياسية والمنظمات والجمعيات والشخصيات الوطنية عن تشكيل "جبهة الاستفتاء" من أجل تغيير النظام السياسي والانتخابي في البلاد. وترى تلك المجموعة أنه لتدارك الوضع ثمة حاجة إلى تنظيم استفتاء شعبي يُسأل فيه الشعب التونسي عن نوع النظام السياسي الذي يجب اتباعه، ذلك على اعتبار أن الشعب هو "صاحب السلطة الأصلي" في نهاية المطاف. وقد أكَّد أصحاب المبادرة خلال مؤتمر صحافي في 28 يونيو/حزيران الماضي أنهم "في جبهة موحَّدة ستكون مفتوحة لكل التونسيين وللشخصيات الوطنية ومكونات المجتمع المدني والسياسي كافة، وهدفها استفتاء الشعب حول النظام السياسي، رئاسي أو برلماني، وحول النظام الانتخابي، نسبي أو مطلق، في دورتين".

لكن هناك مَن ذهب إلى ما هو أبعد من الاستفتاء حول النظام السياسي، بالدعوة إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية مبكرة باعتبارها مخرجا من الأزمة، وقد تصدَّر الرئيس الأسبق منصف المرزوقي قائمة الشخصيات السياسية التي طالبت بضرورة إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة بما يضمن حلا للأزمة السياسية والدستورية التي تعيشها البلاد. ورغم أن كلًّا من الرئيس التونسي وحزب النهضة قد أبديا تأييدهما لمقترح إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة إذا ما تعطَّل إجراء حوار وطني للخروج من الأزمة السياسية، فإنّ الباحث والقانوني التونسي كريم المرزوقي يرى أنه لا حل للأزمة في تونس إلا من داخل الدستور. ويُضيف المرزوقي أن "منافذ الذهاب إلى استفتاء أو انتخابات مبكرة محدودة جدا بالدستور، وتستلزم توافقا بين فرقاء الأزمة، ولا يمكن الذهاب إلى استفتاء على النظام السياسي أو تعديل الدستور دون وجود المحكمة الدستورية التي لا تزال مُعطَّلة حتى اليوم".

 

في حديثه إلى "ميدان"، يقول المرزوقي إن الانتخابات التشريعية والرئاسية المبكرة، وبغض النظر عن الإمكانية القانونية لإجرائها، لن تُخرج تونس من دائرة الصراع الصفرية تلك، وإن الحل الناجع واللازم اليوم هو اتفاق بين الأغلبية البرلمانية ورئاسة الجمهورية على حكومة جديدة مدعومة من كلتيهما أو على الأقل قادرة على العمل مع البرلمان والرئاسة لضمان الحد الأدنى من الاستقرار الحكومي والسياسي. عبر هذا التوافق فقط وليس إعادة إنتاج عجلة الانتخابات، يمكن لتونس أن تقف على قدميها لمعالجة الأزمة الاقتصادية التي تُهدِّد الوضع المالي للدولة وتُنذر بتصاعد الاحتقان الاجتماعي بشكل غير مسبوق.

 

ولكن في ظل صعوبة التكهُّن بما سيؤول إليه الوضع السياسي في تونس، حيث لا يملك سعيد أي صلاحيات مباشرة لتغيير الدستور ومن ثمَّ تغيير النظام السياسي في البلاد، ولا يملك أي حزب في البرلمان أيضا أدوات التغيير نفسها، ربما يكون الذهاب إلى انتخابات مبكرة خيارا إجباريا يُفضي إلى ظهور توافق جديد كما يقول أنصاره، أما المعارضون لإجرائها فيُشيرون إلى كلفتها السياسية والاقتصادية في بلد يشهد أزمة مالية حادة، ما قد يتسبَّب في مزيد من التشتُّت الحزبي والسياسي في بلد لم يعد مواطنوه يُطيقون انتظار ثمار السياسة أكثر من ذلك.

المصدر : الجزيرة