شعار قسم ميدان

"وكأنه في حديقة منزله".. حقيقة ما فعله بيدري ببرشلونة!

BARCELONA, SPAIN - JANUARY 25: Pedri of FC Barcelona reacts during the Copa Del Rey Quarter Final match between FC Barcelona and Real Sociedad at Spotify Camp Nou on January 25, 2023 in Barcelona, Spain. (Photo by David Ramos/Getty Images)
لاعب برشلونة "بيدري". (غيتي)

توقف بيدري للحظة قبل أن يسدد هدفه الشهير في مرمى إشبيلية. لحظة مرت فيها ساق راكيتيتش المندفعة في محاولة لمنعه، ودفع خلالها بيدري الكرة لمسافة قصيرة بدقة، مانحا نفسه مزيدا من الوقت، قبل أن يدرك دييغو كارلوس فشل محاولة زميله، فيندفع بدوره في زحلقة مماثلة كان لها المصير ذاته؛ لم تنجز شيئا سوى تأخير الوقت للحظة أخرى، وحبس المزيد من الأنفاس، والإضافة إلى جمال الهدف.

أفعل التفضيل

شاب لو رأيته في الشارع فلن تتخيل أبدا أنه لاعب كرة قدم محترف؛ جسد شديد النحول وسيقان رفيعة وظهر مُنحنٍ وأكتاف مسترخية مستسلمة طوال الوقت، بالإضافة إلى مجال نظر منخفض يتجنب المواجهة ويتفادى التواصل البصري قدر الإمكان.

 

في حال لم تلاحظ ذلك بالفعل، فهذه هي "الثيمة" (Theme) الشكلية للأبطال غير التقليديين في الدراما، هؤلاء الذين يحتاجون إلى حبكة غير تقليدية بدورها لتصنع منهم أبطالا. الدراما علمتنا أن شابا مثل بيدري سيكون مثاليا لدور "رامي مالك" في "Mr. Robot" مثلا، أو "إدوارد نورتون" في "Fight Club"، أو أي عمل شديد الواقعية لا يعبأ كثيرا بتفضيلات الجمهور الشائعة. حتى اسمه ليس مميزا؛ بيدرو غونزاليز لوبيز في إسبانيا يعادل أحمد محمد محمود في مصر. (1) (2)

 

هذا الانطباع الأول الخادع كان يلاحق بيدري منذ ظهرت أمارات موهبته؛ عندما كان ينشط في أكاديمية نادي "تيغيستي" (UD Tegueste) أتى كشافو "تينيريفي" (CD Tenerife) لمشاهدته عن قُرب، ثم قرروا أنه "أصغر وأنحف من أن يتحمل كرة القدم في المستوى الأول". (3)

 

ظلت هذه العبارة عنوانا لأغلب الاختبارات وتجارب الأداء التي خاضها المراهق الإسباني في تلك الفترة. عندما انتقل إلى "يوفنتود لاغونا" (Juventud Laguna) لاحقه الانطباع ذاته، وعندما ارتحل إلى مدريد لعرض موهبته على عملاق القارة كان الحكم ذاته: "أصغر وأنحف من أن يتحمل كرة القدم في المستوى الأول". (3) (4)

 

لا تقلق، هذه ليست قصة أخرى عن الشاب الذي اقتنصه برشلونة بعد أن رأى فيه ما لم يره غيره. على الأرجح لم يكن انطباع برشلونة مختلفا عما سبق، على الأقل حتى ترقى بيدري إلى الفريق الأول لنادي لاس بالماس على يد المدرب بيبي ميل وهو في السادسة عشرة من عمره فقط، ومن هناك، كانت ثلاثة أهداف وسبع تمريرات حاسمة في موسمه الأول بوصفه لاعبا محترفا كفيلة بتغيير آراء الكثيرين. (5)

 

في الواقع، يصعب علينا أن نلوم أيًّا من هؤلاء؛ أناس يُعرض عليهم عشرات المراهقين يوميا بحكم وظائفهم، وكلٌّ من هؤلاء يؤمن والداه بأنه سيكون ميسي القادم أو إنييستا الذي يليه، بالإضافة إلى أنه في 99% من الحالات يكون هذا الانطباع صحيحا؛ لكي يصبح مراهق بحجم بيدري لاعبا في المستوى الأول فعليه أن يكون عبقريا فعلا.

 

حاسة سابعة

المشكلة أن بيدري عبقري فعلا. هذا ما اتضح مع الوقت، وبالأخص خلال موسمه الأول مع برشلونة. لويس إنريكي، مدرب المنتخب الأول، قال إنه لم يرَ لاعبا بهذا المستوى وهو في الثامنة عشرة من عمره أبدا، ولا حتى أندريس إنييستا الذي يعتبره الكثيرون أفضل لاعب إسباني على الإطلاق. في الواقع، كل مَن شاهد إنييستا في الثامنة عشرة من عمره يمكنه إدراك ذلك بسهولة. تشافي أكّد فكرة مشابهة، وأتبعها قائلا إنه لا يخشى الانتقادات التي ستوجَّه له عقب هذا التصريح. (6)

 

هذا هو حجم الثقة التي يمنحها شاب نحيل لمدربيه بعد أقل من موسم واحد. المشكلة أن مظهره لا يوحي بهذه الثقة إطلاقا. الانطباع الأول الغريزي الذي سيتملك أي شخص يراه للمرة الأولى سيكون العكس غالبا؛ المزيج العجيب من الذكريات والخبرات السابقة والقوالب المجتمعية المستقرة والحكمة الذي يتفاعل بسرعة قياسية عند رؤيتنا لشخص جديد مجهول، الذي نَعُدُّه حاسة سادسة عادة، يخبرنا دائما بألا نثق بأي أحد يتناقض مظهره مع حقيقته، أي أحد لا تكفي نظرة واحدة سريعة لفهمه.

 

لذلك كان بيدري يحتاج إلى حاسة سابعة إن جاز التعبير؛ قرار واعٍ متعمد بتجاوز الانطباع الأول الغريزي، والنفاذ لحقيقته الباهرة، حقيقة أنه شاب خجول انطوائي في لعبة تقوم على الاستعراض ومغازلة الجماهير، وحقيقة أن جسده النحيل يقوده عقل استثنائي، وحقيقة أن هدوءه وسكونه ليسا إلا تعبيرا عن الدعة والثقة والاسترخاء، وأن قوته الحقيقية غير تقليدية، لا سرعة خارقة ولا طول فارع ولا عضلات مفتولة. هذه سمات يملك منها بيدري الحد الأدنى، فقط ما يكفي لتنفيذ ما يطلبه عقله.

 

ماركوس لوبيز، محرر البيريوديكو الإسبانية (El Periodico) كان له تصريح شهير عن أن الكامب نو أصبح مثل حديقة بيدري الخلفية، وهي صورة ذهنية معبرة للغاية، يؤكدها الشاب نفسه دائما عندما يتحدث عن "الاستمتاع باللعب"، وعن كونها "ليست وظيفة" بالنسبة له. (6)

 

هذا التشبيه -تشبيه الحديقة الخلفية- غالبا ما يُستخدم لاستفزاز الخصوم، أو الترويج للذات، أو مخاطبة النزعات العدوانية للمشجعين، ولكن هذا ليس أكثر من انطباع أول كاذب آخر، فبيدري لا يرغب إلا في الاستمتاع فعلا، وتصريحه الشخصي عن أجواء "الحديقة الخلفية" كان يصف أوقات اللعب مع إخوته، بلا ضغوط ولا أعباء ولا طموحات جنونية أو محاولات يائسة لإرضاء الآخرين؛ فقط رغبة نقية في ممارسة ما يحبه ويجيده، ما يرضيه ويشعره بذاته.

 

للمفارقة، كان هذا الشعور الذي يحمله بيدري دائما هو الطريقة التي تحمَّل بها ضغطا هائلا وأعباء ضخمة وأثقالا ذهنية ونفسية لا قِبَل لمراهق في الثامنة عشرة من عمره بها، بعد أن وجد نفسه يقود فريقا يعيش واحدة من أسوأ فتراته تاريخيا، مطالَبا بملء فراغ واحد من أعظم أساطير اللعبة عبر تاريخها، والأعظم على الإطلاق في رأي الكثيرين.

 

3.4 ملايين رسالة

هذا التناقض الفج بين طبيعته الهادئة المسترخية من ناحية، وحجم الضغوطات التي أُلقيت على عاتقه في موسمه الأول من ناحية أخرى، هو مفتاح فهم عبقرية بيدري واستثنائيته. هناك مساحة في عقل بيدري يدلف إليها وعيه كلما حاصرته الأماني والتطلعات وأقدام المدافعين، مساحة ساكنة لا يسمع فيها إلا صوت عقله. هذه ليست قوة خارقة تقليدية كالقدرة على الطيران أو استدعاء البرق، ولذلك هي مناسبة جدا لبطل غير تقليدي، لا تكفي نظرة واحدة لفهمه.

 

من هنا يمكنك تفسير البرود القاسي الذي تملَّكه وهو يتفادى تصديات راكيتيتش وكارلوس قبل أن يسدد؛ المباراة في مرحلتها الأخيرة، وبرشلونة بحاجة إلى الفوز ليتأهل لدوري الأبطال، والفريق أضاع العديد من الفرص، وبدا وكأنها واحدة من تلك المباريات التي لن يسجل فيها برشلونة ولو استمرت لأسابيع، وفي تلك اللحظة، لم يكن بيدري يستمع إلا لصوت واحد فقط، لم يكن يقوده سوى عقله. هذه هي قوة بيدري الخارقة؛ القدرة على تجاهل الضغط، بمعنييه الحرفي والمجازي.

 

في الثانية التي توقف فيها قبل أن يسدد، هناك 3 ملايين و400 ألف رسالة إلكترونية أُرسلت عبر الإنترنت، و55 ألف منشور ظهر على فيسبوك، واستقبل تويتر 6000 تغريدة جديدة، وأُنتجت الآلاف من الفيديوهات القصيرة على كل المنصات، وتصدرت عدة "ترندات" الحدث في عدة دول. أحيانا تكمن قمة التحكم في إدراك لحظات التوقف، في الشجاعة اللازمة لتجاهل الإيقاع السريع الأبله المفتعل الذي لا يبدو أنه ينتج شيئا ذا قيمة. (7)

 

في تلك اللحظة، تجاهل بيدري كل مطالبات الآلاف الحاضرين في كامب نو بالتسديد مباشرة، وتجاهل حِدَّة الموقف، وحرارة الأجواء، ولم يتصرف كلاعب عادي، وقرر أن تلك التسديدة لن تكون مثل سابقاتها، وبعدما انتهى، كان قد فاز بعقول وقلوب الـ 76 ألفا الموجودين في كامب نو.

 

الهدف ذاته ليس خرافيا، ولا بد أنك قد شاهدت مثله من قبل، ولو سجل مودريتش أو تياغو هدفا مماثلا لما ثار الناس، وهذه هي الفكرة بالضبط؛ الحكمة والنضج والصبر والثقة الذين يتمتع بهم شاب نحيل في الثامنة عشرة من عمره، وكأنه نجم مخضرم جمع خبرات اللعبة، والتركيز ووضوح الهدف في نادٍ مرتبك متوتر مشتت يبحث عن نفسه. (8)

 

بعد الهدف أتت عناوين الصحف الكتالونية والإسبانية على النحو التالي؛ السبورت كتبت اسمه على الغلاف ثلاث مرات تيمنا بميسي، والبيريوديكو تحدثت عن الموسيقى في الهدف، والباييس وصفته بالمذهل، وحمل غلاف الموندو ديبورتيفو أوصاف ساحر ورائع وغير قابل للنسيان.

 

بيدري فعل كل ذلك

Real Madrid v Barcelona - Spanish Super Cup- - RIYADH, SAUDI ARABIA - JANUARY 15: Pedri (8) of Barcelona celebrates a goal during the Spanish Super Cup final match between Real Madrid and Barcelona at King Fahd International Stadium on January 15, 2023 in Riyadh, Saudi Arabia.
لاعب  برشلونة "بيدري". (الأناضول)

غير أن سِد لو، الكاتب الصحفي الإنجليزي المتخصص في الكرة الإسبانية، كانت له الملحوظة الأروع في مقاله الأسبوعي بالغارديان البريطانية، مشيرا إلى حكمة محرري الصحف حينما امتنعوا عن استخدام أفعل التفضيل في العناوين، على غرار "أفضل موهبة في العالم" وغيرها، إذ شعر بأنهم ادخروها عامدين، لإحساسهم بأنهم سيحتاجون إليها لاحقا. (6)

 

كل ما يفعله الولد يوحي بتحمله للمسؤولية؛ طلبه الدائم للكرة في أصعب المواقف، الذي يمنح زملاءه الثقة، وضرب المثل لباقي اللاعبين، والبساطة والأصالة التي تظهر في انفعالاته وتفاعلاته. مهما كانت عيوبه أو مزاياه بوصفه لاعبا أو شخصا، فالأكيد هو أنه إنسان حقيقي تماما، لا يحمل ذرة من الاصطناع.

 

بعد تلك المباراة بعام واحد تقريبا، كان برشلونة يلاقي إشبيلية مجددا على الملعب ذاته، وبعد إصابة مبكرة لبوسكتس، لم يجد تشافي بُدا من إجراء التغيير التكتيكي المعتاد بسحب بيدري للخلف ليساهم في تجاوز خط الضغط الأول والثاني، ليفتقد برشلونة لمساته في الثلث الأخير. هذه هي درجة ثقة الرجل في شاب بلغ عامه العشرين للتو.

 

موقع "FBREF"، اختصار Football" Reference"، يقدم طريقة لافتة لتقييم اللاعبين تُدعى "Percentile"، وهي درجة من 100 يحصل عليها اللاعب في كل إحصائية، وتعبر عن موقعه مقارنة بأقرانه في المركز ذاته عبر الدوريات الخمس الكبرى. الغرض منها مفهوم طبعا؛ تحويل إحصائيات وقياسات معقدة إلى رقم واحد من 100 يشبه تقييمات الألعاب الإلكترونية، في تجلٍّ واضح لما بات يُعرف بظاهرة "Gamification of Sports" أو "تلعيب الرياضة" بالترجمة الحرفية. (9)

 

على هذا المعيار، يبدو بيدري وكأنه أحد اللاعبين الذين تُكوِّنهم بنفسك في لعبة فيفا أو "PES" لتضمن الفوز؛ لاعب يفترض أنه في بداية مسيرته ولكن أكثر من نصف إحصائياته يتجاوز حاجز الـ 90. (10)

إحصائيات بيدري المئوية – المصدر FBREF
إحصائيات بيدري المئوية – المصدر FBREF

العجيب فعلا أن هذا التشبيه ليس بعيدا عن الواقع؛ لو كان جمهور برشلونة قد عثر على المصباح السحري في الموسم الماضي، وكان له أن يطلب لاعبا واحدا فقط، لتمنى صانع ألعاب مراهقا، قادرا على تحمل المسؤولية، ومراوغاته وتمريراته غير قابلة للتوقع، ولا يزال أمامه سنوات طويلة من العطاء، وفي الوقت ذاته يلعب وكأنه إنييستا في قمة مستواه، ويشجع برشلونة منذ طفولته لأن والده مشجع لبرشلونة منذ طفولته. لا نعتقد أن مشجعي برشلونة كانوا ليطلبوا أكثر من ذلك؛ حل لحظي سهل جاهز لنصف مشكلات الفريق الفنية على الأقل.

 

هذه الفكرة بحد ذاتها تحمل درسا فلسفيا وإنسانيا قيما بدوره، لم يدركه هؤلاء بعد أو لعلهم أدركوه بلا وعي؛ شاب هادئ رزين واثق تحمل المسؤولية رغم صغر سنه، ولم ينفق برشلونة عشرات الملايين للتعاقد معه، ولم يتوقع أحد نجاحه بهذا الشكل، يُذكِّر الجميع في كتالونيا بالهدف الأساسي من اللعبة وكل ما جعل ناديهم عظيما يوما ما. (11) (12)

 

هذا ما يجعله تناقضا فجا صارخا مع ماضي برشلونة القريب، بمراهقة كهوله المتأخرة، وفشل مسؤوليه، وتواكل أساطيره، وهيستيريا جماهيره في سوق الانتقالات، وسعيه المحموم لمراكمة المواهب بلا لحظة تفكير واحدة كتلك التي سبقت تسديدة إشبيلية. بيدري فعل كل ذلك؟ هذا ما سيقوله "الميم" الشهير لعادل إمام الذي يستخدم في مثل هذه المواقف. الإجابة: نعم، بيدري فعل كل ذلك.

———————————————————————————————

المصادر:

1- مسلسل Mr. Robot – IMDB

2- فيلم Fight Club – IMDB

3- بيدري.. الموهبة ذات الـ 19 عاما التي انطلقت للكرة العالمية من الليغا – Football Espana

4- بيدري يشكر ريال مدريد على رفض التعاقد معه لأنه "لم يكن في مستواهم" – Daily Mail

5- بيدري.. مايسترو برشلونة الجديد – The Analyst

6- "بيدري.. بيدري.. بيدري!".. بطل برشلونة الجديد يقدم لحظات سحرية مألوفة – The Guardian

7- إحصائيات مذهلة لما يحدث على الإنترنت في ثانية واحدة! – Zetta Sphere

8- تقرير مواهب الليغا؛ بيدري – The Coaches Voice

9- تدمير الرياضة.. كيف ستنهي لعبة فيفا كرة القدم الواقعية؟ – الجزيرة

10- إحصائيات بيدري المئوية Percentile – FBREF

11- بيدري يتحدث عن صعوده السريع في برشلونة والمعاناة مع الإصابات – Football Espana

12- موسم بيدري الذي لا ينتهي – Sports Illustrated

المصدر : الجزيرة