شعار قسم ميدان

خالد بن الوليد.. العسكري العبقري الذي أذهل الغرب

كان خالد سيفا من سيوف الله التي لم تُنقذ جنود المسلمين في معارك خطيرة فحسب بل قاد بنفسه الفتوحات التي رسخت من وجود الإسلام في الشرق الأوسط (مواقع التواصل)

"نِعْمَ عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد وسيف من سيوف الله"

(رسول الله صلى الله عليه وسلم)

منذ أشهر انتشر مقطع فيديو لـ"روي كاساغراندا"، أستاذ العلوم السياسية بجامعة أوستن بالولايات المتحدة، يشرح فيه عبقرية خالد بن الوليد -رضي الله عنه- العسكرية في العديد من معارك وفتوحات العراق التي قادها بنفسه، لا سيما معركة "الفِراض" حين اتحد الفُرس والروم على مواجهة المسلمين في المنطقة الواقعة اليوم بين الحدود العراقية-السورية بين القائم العراقية والبوكمال السورية، وذلك في أواخر عام 12هـ/634م. وقد انتشر مقطع هذا البروفيسور الأميركي انتشارا واسعا، لأنه قارن بين حجم قوات المسلمين الضعيف عدديا في تلك المعركة وتخلف معدّاتهم العسكرية مقارنة بالروم والفرس حينها، فضلا عن وعورة المنطقة عسكريا، وبرغم كل ذلك استطاع خالد أن يفتح غربي العراق بأكمله مع انتصاره الباهر في تلك الموقعة.

والحق أن قيادة خالد العسكرية للجيوش الإسلامية منذ الأعوام الثلاثة الأخيرة من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أسلم في بداية عام 8هـ، ثم حروب الرِدَّة التي اشتعلت بعد وفاة النبي في عام 11هـ، وحتى ضم العراق والشام وفلسطين، وانتهاء بوفاة خالد -رضي الله عنه- سنة 21هـ؛ كلها تبعث على الدهشة والاستغراب من هذا النجاح العظيم الذي لا يزال المؤرخون في الشرق والغرب يتناقلونه حتى يومنا هذا. نعم، لقد عاش خالد في ظل الإسلام 13 عاما فقط، فكان سيفا من سيوف الله التي لم تُنقذ جنود المسلمين في معارك خطيرة مثل مؤتة واليمامة واليرموك فحسب، بل قاد بنفسه الفتوحات التي رسخت من وجود الإسلام في الشرق الأوسط، وكانت منطلقا فيما بعد لانتشاره وتوسعه في العالم أجمع.

بل ويجعلنا نستفهم عن العديد من الغوامض في حياة هذا الفارس الكبير، لا سيما إبان حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف عاش خالد في ظل الجاهلية يواجه الإسلام والمسلمين قرابة العشرين عاما دون أن يفتر أو يكلّ؟ وكيف كان أبغض الناس إلى نفسه وإلى أبيه الوليد بن المغيرة المخزومي أحد سادات قريش الكبار ثم تحول طائعا إلى هذا الدين؟ وما السبب الذي جعله أحد أبرز القيادات العسكرية الناجحة في الجاهلية والإسلام؟ وما دوره العسكري بعد إسلامه في حياة النبي بين عامي 8 و11 هجريا، وهي السنوات الثلاث الأخيرة من عُمر النبي صلى الله عليه وسلم؟ ذلك ما سنحاول الوقوف عليه وفهمه في مقالتنا هذه.

خالد سليل بني مخزوم وقائد خيل قريش

وُلد خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم القرشي عام 30 قبل الهجرة النبوية، وهو يلتقي برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في جدّهما مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن قريش، ونحن نعلم أن قريشا كانت تتكون من 10 بطون كُبرى يتزعم السيادة فيها بنو هاشم وبنو أمية وبنو مخزوم الذين منهم خالد، فأما بنو هاشم فكانت لهم سقاية الحاج، وأما بنو أمية فكانت لهم راية الحرب يُخرجونها عند القتال، وأما بنو مخزوم فكانت لهم القبة وأعنّة الخيل، أي إعلان الحرب والقيادة العسكرية للخيول، وأثبت بعض مؤرخي السيرة أن خالدا تزعّم القبة وأعنة الخيل في الجاهلية[1].

في ظلّ النعماء الممتدة، وميراث بني مخزوم في ميدان الحروب وقيادتها العسكرية على رقاب قريش أجمعين نشأ خالد نشأة عسكرية أصقلتها التجارب (مواقع التواصل)

كان من حظ خالد وحظ المسلمين من بعدُ أن أباه الوليد بن المغيرة المخزومي كان من أغنى أغنياء قريش، فيُحكى عنه أن كان يكسو وحده الكعبة عاما وتكسوها قريش بأجمعها عاما آخر، وهو الذي بنى وحده رُبع الكعبة وبنت قريش ثلاثة أرباعها في الجاهلية، وكان مصدر أمواله من التجارة والزراعة جميعا، فكانت له ضياع مثمرة بين مكة والطائف معروفة مشهورة. وبينما يرفل الوليد في هذه النعمة النعماء، ويتنافس وبنو مخزوم السيادة مع بني هاشم وبني أمية، نزل الوحي على محمد -صلى الله عليه وسلم- سليل بني هاشم، وشرع يدعو لدين الله بين جميع بطون قريش، وهنا جُنّ جنون الوليد، وطفق يقول: "أيُنزل على محمد وأُترك وأنا كبير قريش وسيدها، ويُترك أبو مسعود عمرو بن عُمير الثقفي سيّد ثقيف ونحن عظيمَا القريتين؟"[2].

ولقد سمع الوليد بن المغيرة القرآن من رسول الله، وذهب لقريش يحلف قائلا: "والله لقد سمعتُ منه كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يُعلى عليه، وما يقول هذا بشر"[3]. وأمام ضغط قريش واتهامهم إياه بأنه صبأ وترك آلهتهم لقول محمد صلى الله عليه وسلم، فكّر في نفسه وعاد مستكبرا، ولهذا السبب نزل فيه قول الله تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ۝ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودا ۝ وَبَنِينَ شُهُودًا ۝ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ۝ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ۝ كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا).

فالقرآن الكريم يعترف بثراء الوليد وكثرة أولاده ونعمائهم، وفي ظلّ هذه النعماء الممتدة، وميراث بني مخزوم في ميدان الحروب وقيادتها العسكرية على رقاب قريش أجمعين، نشأ خالد نشأة عسكرية أصقلتها التجارب، فلم يُعهد على خالد أنه عمل في تجارة أو زراعة في جاهليته قبل الإسلام، وإنما ركّز جل اهتمامه على الفروسية وتعلمها والمهارة فيها وقت السلم، وقيادة أزمّة المعارك وقت الحرب. ولأن مكة المكرمة مرتع صباه وشبابه وكهولته، فقد تعلم من رجالاتها الكبار مثل أبي سفيان والوليد بن المغيرة وعُتبة بن ربيعة وأمثالهم، فلما أخذت موقعة بدر رقاب هؤلاء الكبار، كان من حظ خالد أن أترابه كانوا على درجته من الكفاءة العسكرية والحنكة مثل عمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وضرار بن الخطاب وغيرهم ممن قادوا الجيوش في عصر حروب الردة وفتوحات العراق والشام ومصر فيما بعد.

نكاية خالد بالمسلمين

كانت أولى الميادين التي التحم فيها خالد مع المسلمين هي موقعة أحد في السنة الثالثة من الهجرة، حينها جاءت قريش بفرسانها وعتادها تريد الثأر لهزيمة بدر في العام الفائت، وكانت قريش ثلاثة أضعاف المسلمين في تلك المعركة، وكان خالد على قيادة فرسانها وخيولها التي قُدرت بـ200 فارس. ولهذا السبب أسلم المسلمون ظهورهم لجبل أُحد بصفته موقعا دفاعيا، وجاءت إليهم قريش من بطن الوادي، وجعل النبي على جبل الرماة 50 رجلا على رأسهم عبد الله بن جبير الأنصاري وقال لهم: "قوموا على مصافكم هذه فاحموا ظهورنا، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا، وإن رأيتمونا نُقتَل فلا تنصرونا"[4].

ولكن الرماة في أغلبهم لما رأوا نصر المسلمين في بداية المعركة نزلوا إلى الغنائم، وفي أقل من ثانية أدرك خالد كيف يستثمر ثغرة العدو وانشغاله المبكر، فالتفّ من وراء الجبل بكثيف خيوله، وهاجم المسلمين وهزمهم في هذه المعركة التي لجأ فيها رسول الله ونفر قليل من أصحابه إلى أعلى جبل أُحد، ولا شك أن معركة أحد ودوره فيها قد أضافت إلى نفسه الكثير.

يرى المؤرخ "أحمد عادل كمال" في كتابه "الطريق إلى المدائن" أن الدرس الذي خرج به خالد من معركة أُحد أُتيح له استخدامه والاستفادة منه، مع ما جُبل عليه من كفاءة حربية وشجاعة لا تهتز، وقوة عضلية ولياقة بدنية، وبهذه النظرية في الحرب استطاع خالد أن ينتزع النصر في اليمامة (أثناء حروب الردة) بعد أن اكتسح جنود مسيلمة الكذاب فسطاطه (خيمة القيادة) الذي لا بد أنه كان مُقاما في قلب المسلمين، وبها استطاع أن ينتزع النصرَ من الروم على ضفاف اليرموك، إذ اقتحمت فرسانهم فسطاطه أيضا"[5].

(مواقع التواصل)

تلك ثلاث معارك تشابهت في مقدّماتها من حيث النصر للفريق المناوئ في بداية المعركة، بيد أن خالدا استطاع أن يحولها جميعا إلى نصر بفضل "اعتماده على أسلوبه الذي اكتسبه أول مرة في يوم أُحد، القائم على البحث عن الخلل في صفوف عدوّه المنتصر، واختطاف الموقف بسرعة. ثلاث معارك مهمة لا تُذكر دون أن يُذكر خالد"[6].

في العام الخامس من الهجرة تحزّبت قريش وغطفان وقبائل الشرك بتحريض من اليهود، فالتقت أركان العداوة جميعا على هدف واحد، وهو استئصال الإسلام والمسلمين من المدينة، ونظرا لضخامة أعداد الأعداء التي بلغت 10 آلاف مقاتل، وهو عدد لم يكن للمسلمين دفعه، حفر المسلمون الخندق، ووضعوا المتاريس، وقد فوجئ المشركون بهذا التكتيك الدفاعي الذي لم يعهدوه من قبلُ، فوقف الفريقان لأسابيع يدفعان بعضهما بعضا بالرمي بالنبل والسهام، فكان أبو سفيان يقود المعارك يوما، وخالد وعمرو بن العاص يوما، وهُبيرة بن وهب يوما، وعكرمة بن أبي جهل يوما، وضرار بن الخطاب يوما، حتى اضطر زمهرير الشتاء وقلة الطعام والماء وهبوب الرياح قريشا وأحلافها إلى فك الحصار والانسحاب بعدما يئسوا من بلوغ هدفهم[7].

وفي العام التالي خرج المسلمون يريدون العُمرة، ولكن قريشا منعتهم، وأبرم الفريقان اتفاقا بأن يأتي الرسول وأصحابه في العام القادم السابع من الهجرة فيدخلوا مكة معتمرين لا يلبسون إلا ثياب الإحرام والسيوف في أغمادها، ولا يمكثون إلا 3 أيام تخليها لهم قريش ثم يعودون. ولما عرف خالد بهذا الاتفاق غضب غضبا شديدا، وأقسم ألا يرى محمدا وأصحابه طوال مجيئهم ومكثهم، وكان إقرار قريش بقوة النبي -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين من خلال صلح الحديبية من الأسباب التي جعلت خالدا يتأمل في هؤلاء القوم وقوتهم المتزايدة وبأسهم الشديد في سبيل دينهم.

خالد سيف الله على الأعداء

في عام 8ه، وقعت غزوة مؤتة، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأسها ثلاثة آلاف مقاتل على قيادتهم زيد بن حارثة، فإن قُتل خلفه جعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة، وكان خالد في هذا البعث. (مواقع التواصل)

عند ذلك شرع خالد يتأمل في الإسلام وعلوّه، والكفر وخفوته، وقد هُدي إلى سواء السبيل. وقد أخبر بنفسه قصة إسلامه، فتناقلتها العديد من المصادر، حيث قال: "لما أراد الله بي من الخير ما أراد قذف في قلبي الإسلامَ وحَضَرَني رُشْدي، وقلتُ: كنتَ في هذه المواضعِ كُلِّها على محمد، وليس موطنٌ أحضره إلَّا وأَنْصَرِفُ وأنا أرى في نفسي أنني مُوْضِعٌ في غيرِ شيء، وأَنَّ محمدا سيظهر، ودافَعَتْه قريشٌ يوم الحديبية بالرَّاحِ فقلتُ: أين المذهبُ؟ أَخْرج إلى هرقل فأدخل في النصرانية وأترك ديني وأقيم مع عجمٍ رومٍ أصير تبعا لهم وذلك عيب علي؟ ودخل رسول الله مكة عامَ عُمرة القضاء فتغيَّبْتُ، فكتبَ إليّ أخي (الوليد بن الوليد وقد أسلم قبل خالد): لم أرَ أعجبَ من ذهابِ رأيك عن الإسلام وعَقْلُكَ عَقْلُكَ، ومِثْلُ الإسلام يجهله أحد؟ وقد سأل رسول الله عنك فقلتُ: يأتي الله به فقال: "ما مثلُ خالدٍ مَن يَجْهَلُ الإسلامَ" فاستَدْرِكْ يا أخي ما فاتك.

فلما جاءني كتابه نشطتُ للخروج وسرَّتني مقالةُ رسول الله، فأجمعتُ الخروجَ إلى المدينة، وطلبت مَنْ أُصاحبُ، فلقيتُ عثمان بن طلحة، فأخبرته بما أريد، فأسرع الإجابة، وخرجنا جميعا، فأدلجنا سَحَرا، فلما كنا بالهَدَّةِ (وادي شمال مكة) إذا بعمرو بن العاص، فقال: مرحبا بالقوم، فقلنا: وبِكَ، فقال: إلى أين؟ قلنا: نريد رسول الله، فقال: وأنا أيضا أريد ذلك، فقدمنا المدينة في أول يومٍ من صفرٍ سنة ثمان، فسلمتُ على رسول الله بالنُّبوة، فرد بوجه طَلْقٍ، فقلتُ: يا رسول الله، اغفر لي كلَّ ما صنعتُ، فقال: "الإسلامُ يَجُبُّ ما قَبْلَه". وتقدّم عمرو وعُثمان فأسلما، قال خالد: فوالله ما كان رسول الله يوم أسلمتُ يَعْدِلُ بي أحدا من أصحابه"[8].

في العام ذاته، الثامن للهجرة، وقعت غزوة مؤتة (بالأردن اليوم) لقتال الروم، وبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على رأسها ثلاثة آلاف مقاتل على قيادتهم زيد بن حارثة، فإن قُتل خلفه جعفر بن أبي طالب، فإن قُتل فعبد الله بن رواحة، وكان خالد في هذا البعث. وقد استُشهد القادة الثلاثة بالترتيب، وكاد المسلمون ينهزمون دون تنظيم لتنال منهم سيوف الروم فتُبيدهم، ولكن خالدا بفطرته القيادية أعاد ترتيب صفوف الجيش، فخلطها، فجعل المقدمة في الساقة، والميمنة في الميسرة، والعكس، ما أوحى للعدو بأنه قد جاء للمسلمين مدد، لكن كيف لثلاثة آلاف مقاتل أن يقفوا في وجه عشرات الآلاف من المقاتلين الذين قدّرتهم بعض المصادر بمئة ألف جندي رومي؟! وهنا أدرك خالد أن الانسحاب بأقل الأضرار هو الحل للاستعداد للمواجهة القادمة، وبينما استقبل أطفال المدينة هذا الجيش المثخن بالجراح بقولهم "يا فرّار"، أدرك رسول الله مدى نجاح خالد العسكري، فردَّ على كل متشكك قائلا: "بل الكُرّار إن شاء الله".

وفي إبان غزوة مؤتة، وقف رسول الله يَنعي أصحابه الشهداء، زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، ثم عقّب قائلا لأخذ خالد الراية وقيادته المعركة: "نِعْمَ عبد الله وأخو العشيرة خالد بن الوليد، وسيف من سيوف الله، سلّه الله عز وجل على الكفار والمنافقين"[9]، وهو الحديث الذي تداوله الصحابة في معارك الردّة وفتوح الشام والعراق فيما بعد، وجعله أبو بكر رضي الله عنه نُصب عينيه، وسببا مباشرا في تعيين خالد قيادة العمليات العسكرية في تلك المناطق.

مع عزم النبي أن يفتح مكة بعدما نقضت قريش عهدها، فإنه وضع خالد بن الوليد على رأس جيش الجنوب الذي استطاع أن يقتحمها ويقضي على المقاومة التي نشبت فيها. (مواقع التواصل)

ويتساءل "أحمد عادل كمال" عن السبب الذي جعل رسول الله يُعرض عن اختيار خالد لمهمة قيادة جيش مؤتة مؤثرا تقديم الشهداء الثلاثة، فهو لا يرى أن اختيار الرسول لهم بسبب مهارتهم العسكرية الفذة أو لسابقتهم في الإسلام على خالد فقط، بل يحلل الأمر بنظرة أخرى قائلا: "فهل كان اختبارا وتمحيصا وإثباتا لحسن إسلام خالد أو ترويضا له؟ ربما كان ذلك والله أعلم، فقد كان صدّ خالد عن الإسلام من قبلُ يستند إلى كبريائه وإلى صلف بني مخزوم، والإسلام يساوي بين المسلمين، فهم سواسية كأسنان المشط، فليكن خالد جنديا في جيشٍ يقوده زيد بن حارثة عتيق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أثبت خالد جدارته وأهليته كمسلم عقيدة وقائد حرب، وأثبت أنه لم يدخل الإسلام طمعا في شرف أو جاه بعد أن بدأ الدهرُ يولي قُريشا ظهره"[10].

وأمام هذا النجاح في قيادة عملية الانسحاب من مؤتة، ومع عزم النبي أن يفتح مكة بعدما نقضت قريش عهدها وأن يدخلها من جهاتها الأربع، فإنه وضع خالد بن الوليد على رأس جيش الجنوب الذي استطاع أن يقتحمها ويقضي على المقاومة التي نشبت فيها بقيادة أصدقائه القدامى في قريش، مثل عكرمة بن أبي جهل وسُهيل بن عمرو وصفوان بن أمية وغيرهم. وبعدما دخل المسلمون مكة وقضوا على مظاهر الشرك فيها، أرسل النبيُّ خالدا إلى منطقة بطن نخلة في ثلاثين فارسا للقضاء على صنم العزّى، أكبر أصنام قريش وكنانة وغيرها، فهدمها وقضى عليها، ثم أرسله أميرا على ثلاثمئة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار داعيا إلى بني جذيمة بن عمار من كنانة.

ومع هوازن وثقيف، أكبر قبائل عرب غرب الجزيرة العربية، وقعت معركة حُنين، وكاد المسلمون ينهزمون، وثبت رسول الله ينادي في الجميع ويعدهم بالنصر قائلا: "أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب". وكان خالد وقتذاك مع قواته محاطا بالأعداء في وادٍ ضيّق تتهاوشه سهام ثقيف، فلما سمع نداء رسول الله تمكن من النجاة بقواته والانضمام إلى الرسول بعدما أصابته الجراح وأثخنته، ثم حمي وطيس المعارك وزادت جراحاته، حتى إن النبي زاره بعد انتهاء المعركة في خيمته للاطمئنان عليه يدعو له بالشفاء والعافية.

وظلّ النبي فيما بقي من حياته يعتمد على خالد في قيادة السرايا العسكرية الخاطفة إلى بني المصطلق وبني أكيدر بن عبد الملك صاحب دُومة الجندل في شمال غرب الجزيرة العربية، ثم أرسله لهدم صنم اللات الذي كانت تعظّمه ثقيف، ثم أرسله إلى بني الحارث بن كعب بنجران قرب اليمن، ثم إلى اليمن نفسه. وفي كل هذه السرايا نجح خالد نجاحا باهرا في تحقيق الأهداف العسكرية التي حدّدها له النبي صلى الله عليه وسلم، فاكتسب -رضي الله عنه- ثقة النبي ثم ثقة خليفته أبي بكر من بعده، الذي ما إن اشتعلت حروب الردّة حتى أمَّر خالدا على قيادة جيوش نجد واليمامة فقضى عليهم[11]، ثم شرع في قيادة عمليات فتوح العراق ثم الشام. وقد أبدى في كل ذلك نجاحات جعلت عددا من المستشرقين والأساتذة الغربيين يعترفون بـ"عبقرية خالد"، وذلك عنوان كتاب خصصه الأديب الشهير "عباس العقاد" للحديث عنه ضمن سلسلته الشهيرة.

__________________________________________

المصادر

  • [1] جمال الدين بن أبي حديدة: المصباح المضي 1/92.
  • [2] ابن هشام: السيرة النبوية 1/361.
  • [3] السيرة الحلبية 3/392.
  • [4] ابن سعد: الطبقات الكبرى 2/40.
  • [5] أحمد عادل كمال: الطريق إلى المدائن ص192.
  • [6] أحمد عادل كمال: السابق ص192.
  • [7] مغازي الواقدي 2/465.
  • [8] ابن سعد: الطبقات الكبرى 5/26، 27.
  • [9] مسند الإمام أحمد، تحقيق أحمد محمد شاكر، 1/184.
  • [10] أحمد عادل كمال: السابق ص197.
  • [11] محمود شيت خطاب: قادة فتح العراق والجزيرة ص71- 83.
المصدر : الجزيرة