شعار قسم ميدان

الجمال كملاذ.. ضرورة الفن للإنسان عبر التاريخ

pharaoh
"ما الذي سيحلُّ بنا، إذًا، دون عونِ ما هو غير موجود؟"

– ول فاليري، رسالة قصيرة حول الأسطورة

 

يعتبر الرسام الهولندي ماندريان أن الفن يمكن أن يختفي، لأنه بالأساس يعبر عن انعدام التوازن في الحياة. لكن السؤال هنا ليس إذا كان الإنسان سيصل يومًا لهذا الاتزان بينه وبين العالم، إنما هل الفن مجرد بديل للتوازن في الحياة؟ الفن ربما يعبر عن علاقة أشد تعقيدًا بين الإنسان والعالم، علاقة يصعب كثيرًا تلخيصها في جملة واحدة.

 

يشبع الفن مجموعة واسعة من احتياجات الإنسان، وتسمح دراسة بدايات الفن ونشأته بتحديد الوظيفة التي لعبها منذ بداية التاريخ، لكن هل يمكن اعتبار هذه الوظيفة ثابتة لا تتغير؟ ألا يتبدل دور الفن ووظائفه مع كل التغيرات والتحولات التي تطرأ على شكل المجتمع البشري؟

 

يسعى الإنسان إلى عالم أكثر طوباوية، وجمالًا، وأقرب للمنطق والعقل، بهذا يمكن اعتبار الفن تعبيرًا عن رغبة الإنسان الهائلة في الثورة على الحياة المحدودة التي تسمح له بخوضها مرة واحدة.

في كتابه ضرورة الفن، يرى إرنست فيشر أن الفن كان ومازال وسيبقى ضرورة في حياة الإنسان، بل يوشك أن يكون عمر الفن هو عمر الإنسان. تشترك جميع التجمعات الإنسانية منذ ما قبل التاريخ في عاملين اثنين، وجود شكل فني ما -ولو رسومات بدائية على جدار كهف-، ووجود شكل من أشكال الدين، بمعنى الطقوس التي لا تفسير مادي لها. يظهر هذا أن الإنسان منذ اللحظات الأولى لوجوده على هذا الكوكب متطلع لما لا يستطيع التعبير عنه إلا بشكل جمالي أو طقس متجاوز للضرورة المادية.

 

الفن والمتعة
إن الناس يرتادون المسارح والسينما ويستمعون للموسيقى بكثرة واستمرار، هل يوفر هذا لهم المتعة وراحة البال؟ إذا كانت الإجابة نعم، فإن ثمة أسئلة أكثر دلالة يجب طرحها هنا. أليس من الغريب أن يستمتع الإنسان بتسليم حواسه لخيالات عن حيوات آخرين؟ إذا كان الناس يفعلون هذا للفرار من حياتهم إلى حيوات أكثر رحابة، يصبح السؤال هنا لماذا لا يكتفي الإنسان بوجوده؟ لماذا يظل محتفظًا على الدوام برغبته المبهمة في اختبار أشكال أخرى من الحياة، ولماذا يتابع بهذا الاهتمام قصصًا يعرف أنها ليست سوى خيالات كاتب؟

 

يعتبر فيشر أن الإنسان يطمح دائمًا إلى أن يكون أكثر من مجرد نفسه، في سعيه الدائم للكمال، يسعى للخروج من حدود جسده، وحياته المقيدة، إلى شيء أكثر رحابة واتساعًا، إلى كلية تقف فرديته الضئيلة حائلًا دونها. يسعى الإنسان إلى عالم أكثر طوباوية، وجمالًا، وأقرب للمنطق والعقل، بهذا يمكن اعتبار الفن تعبيرًا عن رغبة الإنسان الهائلة في الثورة على الحياة المحدودة التي تسمح له بخوضها مرة واحدة، بجسد واحد، وعمر واحد، وتجربة واحدة. لا يتوقف الإنسان عن محاولات تسخير العالم، وفهمه، ربما التقدم التكنولوجي ليس سوى محاولة مد لأناه إلى أطراف الكون، من المجرات النائية وحتى أعماق الذرة.

التجربة عنصر أساسي ليكون الفنان فنانًا، تخلق التجربة الألم، والذكرى، وتملأ أعماق الفنان بالتوتر والمعاناة، ثم يحول الفنان هذا كله إلى تعبير جمالي
التجربة عنصر أساسي ليكون الفنان فنانًا، تخلق التجربة الألم، والذكرى، وتملأ أعماق الفنان بالتوتر والمعاناة، ثم يحول الفنان هذا كله إلى تعبير جمالي

لو كان الإنسان يستطيع احتمال فرديته المحدودة، لكان لهذه المتعة أن تتجرد من المعنى، لكن الإنسان لا يملك سوى الاستمرار في الحياة رغمًا عن تناقضاته. مادام الإنسان لا يشعر بنفسه ككل مكتمل يحتوي على كل ما بوسعه أن يكونه، سيظل يحاول الحصول على تجارب الآخرين، الفن إذًا هو ملاذ الإنسان من جسده الضيق وحياته الضئيلة، وهو أداته التي بها يندمج مع المجموع والكل، ويلتقي بغيره، آملًا في حكاية هنا أو تجربة هناك.

 

لكن السؤال يبرز هنا مرة أخرى، أليس تعريف الفن باعتباره وسيلة لالتقاء الفرد بالمجموع تعريفًا رومانسيًا ساذجًا؟ ألا يحمل الفن أيضًا المعنى النقيض لهذا في ذاته؟ يرى فينشر أن الفن يحقق أيضًا للمشاهد متعة لانفصاله عما يرى، متعة المسافة التي تفصل بين الحقيقة وبين الخيال، ما يمكنه من إمساك ذاك الذي يراه وإعادة تدويره وخلقه في مخيلته، ليمنح نفسه الحرية التي لا تتوفر له في حياته اليومية.

 

تتغير وظيفة الفن وأسباب الاحتياج له بتغير العالم وقواعده وأشكال التفاعل فيه، فالفن أبعد المنتجات الإنسانية عن الثبات والجمود.

التجربة عنصر أساسي ليكون الفنان فنانًا، تخلق التجربة الألم، والذكرى، وتملأ أعماق الفنان بالتوتر والمعاناة، ثم يحول الفنان هذا كله إلى تعبير جمالي. يعتبر أرسطو أن وظيفة الدراما هي تطهير الانفعالات وهزيمة الخوف. المشاهد لا يملك الحكم على ما يراه سوى من تجربته الذاتية ومطابقتها على ما يراه، إنه يحصر ما يراه في إطار حياته أو يحاول فهم حياته في إطار ما يراه، إذًا حين يطابق بين ذاته وبين شخصية مسرحية، فإنه يتحرر من قيود قدره بقدر مساحة العمل الفني، للفن أسر يختلف عن أسر الواقع، أسر هو في الواقع مصدر متعة وغبطة حتى إذا كان العمل الذي نشاهده مأساويًا.

 

الفن وسؤال الجاذبية
 

"إن أيسر السبل للوجود، هو الفن."
– برتولد بريشت، الكاتب والمسرحي الألماني 

 

 يسمح الفن للإنسان بالتواصل مع البشر بعده، يواجه الفن مخاوف الإنسان من الفناء، ويسمح له بأن يترك بصمة أبدية بعده  (مواقع التواصل الإجتماعي)
 يسمح الفن للإنسان بالتواصل مع البشر بعده، يواجه الفن مخاوف الإنسان من الفناء، ويسمح له بأن يترك بصمة أبدية بعده  (مواقع التواصل الإجتماعي)

تتغير وظيفة الفن وأسباب الاحتياج له بتغير العالم وقواعده وأشكال التفاعل فيه، إنه أبعد المنتجات الإنسانية عن الثبات والجمود، إن شكل الفن ووظيفته في مجتمع طبقي محتدم فيه الصراع، يختلف كثيرًا عن شكله في مجتمع بدائي لم يصل بعد للطبقات. إن كل فن هو ابن عصره ونتاج تفاعله مع ظروف ومتغيرات لا حدود لها. مع ذلك، ومع كل التباينات والتناقضات بين المجتمعات المختلفة، فإن ثمة حقيقة ثابتة وجوهرا أساسيا خلف الفن، تجعل ابن العصر الحديث يتفاعل مع نقوش للإنسان الحجري على جدران كهف قديم، أو يتأثر بمسرحية مضى على كتابتها مئات السنين.

 

إن كلمات ذكرت في ملحمة منذ آلاف السنين مثل "ولدت لأحب لا لأبغض" ستظل تؤثر في الإنسان مادام إنسانًا، وستظل توضح العناصر المشتركة بين البشر على تنوعهم واختلافهم، أو كما يرى بريشت فإن تطور الإنسانية ليس سوى نتاج إضافة تفصيل صغير إلى تفصيل صغير آخر.

 

حاول ماركس الإجابة عن سؤال جاذبية الفن حتى بعد مرور مئات وآلاف السنين، كانت إجابته أن العصور القديمة ربما تعبر عن لحظة طفولة اجتماعية إنسانية ذات سحر خالد لن يعود، فكما أن هناك أطفال يسبقون عمرهم وأطفال يتأخرون عنه، فإن المنتج الجمالي لأولئك المجتمعات التي سبقت عصرها يظل فاتنًا لأنه أتى في ظروف غير ناضجة؛ لكننا نشك اليوم في أن الملاحم الإغريقية تكتسب جاذبيتها من كون الإغريق أطفالًا سبقوا عصرهم، لقد كانوا يزدرون العمال، ويحتقرون المرأة ويهتمون جنسيًا بالغلمان.

 

كما أن آرائنا ونظرتنا للعالم تتطور وتختلف جذريًا يومًا بعد يوم، بشكل لا يسمح بتسمية مجتمع ما أنها تنتمي لعصر طفولتنا. لكن الشيء الذي أضافه ماركس هنا هو قدرته على رؤية قدرة الفن على تسجيل لحظة من لحظات الإنسانية، لتستمر في التأثير في فترات أبعد كثيرًا، بشكل يحتفظ بسحر لا ينضب.

 

يسمح الفن للإنسان بالتواصل مع البشر بعده، يواجه الفن مخاوف الإنسان من الفناء، ويسمح له بأن يترك بصمة أبدية بعده، يتحدى بها حياته القصيرة. إن تاريخ الإنسانية ليس مجرد طفرات وتحولات من فترة لأخرى، لكنه ناتج عن اتصال واستمرار بين أجيال البشر وحضارتهم. يعتبر بودلير أن الفن هو استخلاص الأبدي من الفاني والعابر، وأن الفنان هو من لا يستطيع تجاوز هذا العابر.

 

الفن مازال يحتفظ بقدر من طبيعته الأصيلة وهي السحر، وهي التي لا يملك أن يكون فنًا بغيرها.. يحتاج الإنسان للفن حتى يفهم العالم ويفهم نفسه، ويهون على نفسه القبح، بما يراه فيه من جمال.

لا يسمح الفن للإنسان أن يتصل بمن بعده فقط، لكنه يسمح له بتواصل مع ذاته القديمة، ومحاولة فهم أعمق لها، إن النفس البشرية تحتفظ داخلها بما يبدو أنه انتهى وعفا عليه الزمن، لكنه ينتظر لحظة مناسبة حتى يخرج على السطح جزء كامن ليترك أثرًا في الحاضر قد يمتد لسنوات طويلة بعده.

 

يعتبر الكثير من المؤرخين أن أصول الفن ترجع للسحر، والأساطير الأولى، حيث كان أداة للإيحاء والخداع وإيهام البشر بأشياء تسمح بالسيطرة عليهم. لكن هذا الدور أخذ يتراجع ليفسح المجال لأدوار أخرى، تقوم بتنوير الناس والانقلاب على السحر نفسه، فلم يعد ممكنًا أن يكون هذا الشكل البسيط انعكاسًا للمجتمع الإنساني بتشابك علاقاته وتناقضاته وتعقيداته.

 

تطور الفن حتى وصل إلى أن أصبح يسمح للجمهور بأن يكون جزءًا من العمل، أو ما يسميه رولان بارت بموت المؤلف. لكن الفن بعد كل هذه التطورات مازال يحتفظ بقدر من طبيعته الأصيلة وهي السحر، وهي التي لا يملك أن يكون فنًا بغيرها، يحتاج الإنسان للفن حتى يفهم العالم ويفهم نفسه، ويهون على نفسه القبح، بما يراه فيه من جمال وسحر. 

المصدر : الجزيرة