التحدي التركي الإقليمي بين العاطفة والسياسة

ANKARA, TURKEY - APRIL 22: President of Turkey Recep Tayyip Erdogan (front L) and Iraqi President Fuad Masum (front R) review the honor guard during an official welcoming ceremony at the presidential palace in Ankara, Turkey on April 22, 2015.

حسم التحالف التركي الإيراني الموقف على الأرض بقوة، في قضية استفتاء إقليم كردستان العراق بعد أن أقر الانفصال، وأضحت قائمة الخسائر تتصاعد أمام الحركة الكردية في شقيّها بأربيل والسليمانية، وأمام مجمل الحراك القومي الكردي، وهو مازاد من تفاقم الصراع الذي تستفيد منه طهران في بغداد، أو في مركزها الإقليمي الكبير، كقوة أساسية صاعدة توجه الأحداث الكبرى في المنطقة.

ولا شك في خطيئة الموقف الكردي الذي انتهى إلى أن يكون مقدمة تتهاوى بعدها أحلام الشعب الكردي في أقاليم حقوق كاملة في دولها، كمكون أصيل في عناصر الشرق الكبرى، غير أن ذلك لم يكن موقوفا فقط على استعجال أو ما وصفه البعض بـ"مراهقة" تصرفات رئيس الإقليم حينها مسعود البرزاني في إصراره على تنظيم الاستفتاء، وإنما في حجم التوظيف الذي تورطت فيه الحركة مع المشروع الأميركي، والذي رفع حظوظها ليستفيد من عملياتها الميدانية في سوريا وفي العراق، ولتكون بديلا عن القوات الإسلامية والعشائرية في حسم المعارك ضد التنظيمات الإرهابية، فتَعزل واشنطن أي قوات ميدانية حليفة لتركيا، ثم تترك الحركة الكردية في مهب الريح.

لكن قبل ذلك، كان هناك توافق أميركي إيراني دقيق لا يزال قائما ضد أي توازن وطني، يمكن أن يحققه العراقيون ككتل كردية وعربية سنية وشيعية مستقلة عن طهران من شأنه تعديل توازنات العملية السياسية التي زرعها الاحتلال الأميركي لتقسيم الشعب العراقي.

ليست تركيا بحاجة إلى مبادرة عسكرية في كردستان العراق، وإنما لقوة ناعمة تكفل توحيد الفرقاء الكرد في العراق، تحت مشروع سياسي ترعاه، وشراكة اقتصادية تتبناها، وتفعيل للجسور الاجتماعية التي وحدها الإسلام بين الأتراك والأكراد

ولا يزال هذا التوافق -وهذه مسألة مهمة للغاية- متحالفا في مركزية الشراكة بين واشنطن والمشروع الإيراني، وفي تثبيت هذه العملية منذ إسقاط بغداد، لأسباب تتعلق بقراءة كل منهما، لمصالحه القومية في معادلة الصراع.

وظلت أنقرة تتابع جسورها، وتعزز مصالحها مع كردستان العراق، رغم أن العملية السياسية للاحتلال كانت تشكل تهديدا يتصاعد على أمنها القومي، ولكن توسّع الغرب وواشنطن في تكريس قوات البي واي دي أقلق أنقرة كثيرا ووتّرها، فقد كانت تراهن على أن تأمين المنطقة الكردية في تركيا، سيكون عبر إحباط مشروع الانفصال.

وكانت اللعبة الإيرانية مع النظام، قد أدركت معقل القلق التركي، فهي أول من سمح ببنية التأسيس العسكري ل بي واي دي (صالح مسلم)، وبالتالي دُحرج المشروع لكي يتسلمه الغرب، فحقق ميدانيا مصالح للنظام وإيران ضد الثورة، فقد كانت عمليات البي واي دي، تطوق الجيش الحر والثورة، وليس السلفية الجهادية، وفي ذات الوقت فإن المشروع استفز تركيا بصورة كبيرة.

ومع إخفاق وعود أنقرة في الموصل، في قضية تأمينها بعد إرهاب داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) أمام إرهاب الحشد، ثم حلب ومذابح الروس الكبرى، وضعف إمكانياتها في التأثير المركزي على الميدان السوري، وتصاعد الارتدادات العكسية عليها، صَعَد موضوع انفصال كردستان العراق، الذي كان يعني تعزيز مشروع كردستان سوريا الانفصالي، فاغتنم الروس والإيرانيون هذا الموقف، وأُدخلت أنقرة في هذا التحالف، لكنه تحالف ثلاثي لا يؤثر على التحالف الخاص الأقوى بين موسكو وطهران.

ومن المعروف -والذي لا جدل فيه- أن تراتبية تأمين وحدة الأراضي التركية، هي الأولوية الأولى للضمير القومي التركي، سواء كان إسلاميا أو علمانيا عسكريا أو سياسيا، ولعل سباق الأيام والساعات الأخيرة الذي تأخرت فيه أربيل وتأخرت فيه أنقرة، جعل الجائزة ثمينة للغاية لصالح طهران.

فلو أن الاستفتاء أُعلن تحييده أو إيقاف أي مفعول له كليا، باتفاق ثنائي بين أنقرة وأربيل، لتحول الموقف إلى مساحة جديدة من تقاطع المصالح بينهما، وما جرى كان العكس كليا، حيث تُرك المسرح للإيرانيين، باعتبار أن أنقرة تُراهن، على أن هذه التصفية للمشروع، ستضرب مشروع البي واي دي، وهذا يكفي.

وهو ما تحقق بالفعل، وأصبحت كل الحركة الكردية، في دائرة استنزاف، بعد أن ضُخم مشروعها، وخاصة بعد تولي الحليف الأميركي عنها في ساعة حاسمة، غير أن هذا الواقع، ليس تأمينا إستراتيجيا لصالح تركيا، فكيف ذلك؟

قد يخسر اليوم حزب العمال الماركسي المتطرف، أرضا ودعما لوجستيا يقدمه البي واي دي، والدول الغربية تحت الطاولة، كما هو الحال مع إيران حين تقتضي مصالح اللعبة ذلك، واتفاق طهران وأنقرة في الخشية من أي إقليم كردي في دولتيهما، لا يُلغي أن طهران والنظام السوري ظلا يعملان على قاعدة دحرجة صعود القضية الكردية والتخلص منها من أرضهم إلى أراض تركيا.

وقد كان النفوذ والمصالح التركية والكردية العراقية فاصلا يحجز هذا الاستفراد، أما اليوم فمع بقاء بعض المصالح التركية، إلا أن "شخصية" وتأثير أنقرة تتراجع فيها عبر بعدين خطيرين، الأول قوة إيران المطلقة في بغداد، والزحف لتقليم المشروع الكردي تحت يافطة أن هذه القوات في الحشد أو المؤسسات العراقية الطائفية، هي قوات الدولة القومية.

والثاني انقسامات كرد العراق، وحجم اختراق إيران الضخم لعمليتهم السياسية التي كشفت عنه الأحداث، وطهران القوة الإقليمية المنتصرة في سوريا -والتي حسمت عبر ميلشياتها وقيادة قاسم سليماني المشهد العراقي الأخير- هي من تتلاعب بمصير كردستان العراق، عبر العصا والجزرة، حتى تروّض الإقليم كليا لسيادتها.

إن الموقف التركي اليوم إيجابي في منطقة الخليج، سواء في قطر التي ترتبط معها باتفاقات وشراكات خاصة، أم الكويت التي عقدت معها اتفاقات مؤخرا، أم مع سلطنة عمان التي يتوقع تطوير العلاقة معها كشراكة توازن لا هيمنة، فهذه أصلا ليست واردة، أمام التواجد الغربي الضخم في الخليج

وانسحاب تركيا، باعتبار ما حصل ضمان لأجل تأمين حدودها القومية، لا يضمن لها تثبيت هذا الأمر، فضلا عن أن تراجع شخصية تركيا الإقليمية أمام صعود طهران، وتأثيرات الصفقة الغربية التي لا تزال قائمة، يجعل الوقت لصالح طهران مالم يحدث اختراق نوعي بين أنقرة وإقليم كردستان.

إن تركيا اليوم ليست بحاجة إلى مبادرة عسكرية في كردستان العراق، وإنما لقوة ناعمة تكفل توحيد الفرقاء الكرد في العراق، تحت مشروع سياسي ترعاه، وشراكة اقتصادية تتبناها، وتفعيل للجسور الاجتماعية التي وحدها الإسلام بين الأتراك والأكراد، خاصة في ظل نجاحات حزب العدالة في أوساط الشعب الكردي في العراق، أو مواطنيه في تركيا، مقارنة بالروح العلمانية الاستئصالية ضد الكرد، منذ الرئيس أتاتورك.

وهذه الرعاية الجديدة، لا تستدعي حربا إعلامية أو سياسية مباشرة مع إيران، بات الأتراك اليوم ضدها، بعد تقديراتهم لتأثيرات الصراع المذهبي عليهم، ولفوائد تحالفهم مع إيران، مقابل الإحباط من موقف المحور العربي الذي يقود حملة ضدهم.

وإن كانت إخفاقات تركيا العدالة ليس أسبابها فقط، مواجهة حلفاء ترمب العرب لها، لكن يظل هذا العنصر مؤثرا جدا على المزاج التركي، كما هو الحال في الخلاف الإعلامي السياسي الشرس حول قضية حصار المدينة والقائد العثماني فخر الدين باشا، وهي قضية أشعلت فتيل تعبئة لها جذورها الأعمق بين أنقرة من جهة، وأبو ظبي والسعودية قبل أزمة الخليج وبعدها.

وهنا يحتاج حزب العدالة وخاصة فريق الرئيس أردوغان أن يراجع المشهد بهدوء، وألا يُستدرج إلى ملاسنات إعلامية، ويُحافظ على توازنه المهم، فقد حققت تركيا قفزة كبيرة في التوازن الإقليمي، حين نشرت قواتها مبكرا في قطر بناء على اتفاق الدفاع المشترك.

وساهمت في منع عمل عسكري مدمر، وهي قضية وثقها الشيخ صباح أمير الكويت، لكن تفصيل حديث وزير الخارجية الأميركي تيلرسون عنها الذي ورد في بلومبيرغ مطلع ديسمبر/كانون أول الجاري، وحديثه عن الرسائل التي تلقتها الرياض من كوشنير، ضد موقف الخارجية مهمة جدا، في شرح خطورة تلك الأبعاد، التي كانت ستعصف بالمملكة وقطر والمنطقة كلها.

وعليه فإن الموقف اليوم لتركيا إيجابي خليجيا، سواء في قطر أم الكويت، أم مع سلطنة عمان التي يتوقع تطوير العلاقة معها كشراكة توازن لا هيمنة، فهذه أصلا ليست واردة، أمام التواجد الغربي الضخم في الخليج، وأمام تجاذبات الوضع الإستراتيجي في المنطقة، علما أن سلطنة عُمان، لها بعد خاص كونها القوة الإقليمية العربية الأعرق، في منطقة الخليج.

فهذا التوازن الذي ارتاحت له أوروبا، لقلقها على مصالحها في الخليج، من مشروع ترمب السابق، لا تزال تستفيد منه تركيا، فضلا عن قناعة الشريك والحليف القطري وتطور علاقاتهما، ولذلك تركيا ليست بحاجة للتجاوب مع أي حملات إعلامية مستفزة، ولها حق الرد كأي دولة قومية.

لكن المبالغة في هذه الملاسنات، وخاصة عبر موقع رئاسة الجمهورية يضر بها، والمنطقة تتوجه لمرحلة انتقالية خطيرة، نتمنى أن تعبر بسلام، وتعود فرص التواصل مع الرياض، إن قدّر للمنطقة أن تنجو مما هو أشنع.

الجانب الثاني الحفاظ على التعاطف الإسلامي العربي، من خلال الموقف الإنساني في سوريا، إلى المساهمة في القرار الأممي لصالح القدس، فضلا عن المساحة الإنسانية والفكرية التي أتاحتها تركيا للإسلاميين المضطهدين في الأرض يمكن أن يستمر، دون تحويله كنظرية إلهام عاطفي تجسدها صورة البطل أرطغرل.

فالواقع السياسي مختلف عن روح الدراما، ولذلك يحتاج العرب والترك في فريق العاطفة الحادة، أن يسعوا إلى تنظيم المشاعر، لتكون الرابطة أقوى وأعقل ولا يبالغ فيها، فهذه المبالغة قد تستخدم ضد علاقة تركيا بأخوتها العرب، أو تتسبب بردات فعل -كالذي جرى في العراق وسوريا- لكن لم تسمع كل أصواته اليوم.

وأمام حزب العدالة تحديات كبرى، ونجاح الرئيس أردوغان في تصحيح العلاقة مع ألمانيا، يعطيه زخما جيدا، خاصة في مرحلة، يحتاج أن تبني فيها تركيا العدالة، منهجية تحييد ومصالح، وبعض الخطب العاطفية تضر بها كثيرا، فالهدوء في العلاقة مع محبيها العرب، وعدم التوسع في استدعاء الصراع العربي التركي المر، والبناء على لغة التوازن والوحدة الأممية ومصالحها، أسلم لتركيا وحلفائها العرب، بمن فيهم الإسلاميين.

لدى أنقرة فرصة استرجاع قوتها وحضورها بكردستان العراق الذي سيتحول مباشرة إلى قوة اجتماعية لها أصول وجذور بين الكرد والترك، وبالتالي العودة إلى مشروع المصالحة التاريخي، بين متمردي كرد تركيا والدولة عبر تحييد الصراع العسكري، ثم الأمني

ومن حق تركيا، استعادة البعد الحضاري، والهوية لشعبها مع الدولة العثمانية، والمشتركات الإسلامية الفكرية، لكن طرحها كمنظومة علاقات سياسية واجبة على كل المسلمين هي مسألة خطيرة للغاية، وما جرى مؤخرا من استدعاء صدامات دموية بين الأهالي والشعوب في مناطق عربية مختلفة مع سلطات ومفارز الجوش العثمانية في مواجهاتها لخصوم سياسيين في مناطق عربية عديدة، يجب أن يعزز الحذر في قضية بسط هذا التاريخ كمرجع.

فهناك ثغرات كبرى، لو سلط عليها الضوء بخطاب يسعى لنقض علاقات الأتراك وإخوتهم العرب، والتي يعتبر رابطها الأساسي هو العهد الرسالي الإسلامي لا تجارب التاريخ، منذ بني أمية حتى اليوم، فإن هذا الخطاب سيستخدم كل حوادث التاريخ الدموية، لتفتيت هذه العلاقة لمصالح الغرب وإسرائيل وإيران ببعدها الطائفي لا الشرقي المسلم التضامني الذي ندعوها إليه.

ويتأكد ذلك خاصة في ظل تحالف محور خليجي مع ترمب والسياسات الإسرائيلية، وهي دعوة أوجهها من خلال فهمي على الأقل لتاريخ الخليج العربي، فبنية العلاقات الهادئة الواثقة، بين العدالة التركي والعرب، كانت تطرح الهوية الإسلامية المشتركة، والاتحاد الحضاري والسياسي المصلحي، لأطراف الأمة وليس تقديس التاريخ العثماني، وقد كانت نظرية موفقة، وهو ما نحتاج للعودة إليه اليوم.

وعودة إلى قضية كردستان، وموقع تركيا الإقليمي، فأنقرة لديها فرصة، استرجاع قوتها وحضور شخصيتها في كردستان العراق الذي سيتحول مباشرة إلى قوة اجتماعية لها أصول وجذور بين الكرد والترك، وبالتالي العودة إلى مشروع المصالحة التاريخي، بين متمردي كرد تركيا والدولة عبر تحييد الصراع العسكري، ثم الأمني، ثم صناعة أرضية سياسية لهذا الاتفاق، وهو ما يؤمن إستراتيجيا الوحدة الوطنية في تركيا.

وهنا ستعود تركيا بمكسبين رئيسيين، الحليف الاجتماعي والسياسي المرتضى لشعوب المنطقة، والذي سيُعيد تموضعه للانسحاب من التدخلات التي أضرت به، وسيحصد مصالحه سياسيا، والثاني الروابط الاقتصادية والإعلامية السياسية التي يعيد بها جسوره مع شعوب الإقليم المباشر، سواء كانوا سنة أو شيعة أو مسيحيين، خاصة حين ينجح في كردستان العراق، ويُعيد إلى المنطقة مفهوم حزب العدالة، الذي يدعو شعوب الشرق إلى ميثاق الأخوّة والصداقة، ومصالح السياسة والتنمية الكبرى، وليس التبعية المطلقة لأستانا جديدة.

وعلى حزب العدالة أيضا أن يواجه تلك الشعارات التي يستخدمها خصوم الأمة لتوسيع الصراع وهدم ما تحقق من جسور، منذ تولي العدالة التركي بروحه الإسلامية الحكم الجمهوري الديمقراطي، بحسب رؤيته الفكرية المعلنة، وهذا يحتاج تجديد عزيمة الحزب، وتنظيم ورشة نقدية لفترته رئاسة وحكومة، وتعزيز اتحاده المهم، قبل انتخابات 2019 المفصلية التي ندعو لهم فيها بكل توفيق، كبلد مركزي شقيق لكل الشرق المسلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.