بغداد.. عاصمة الرشيد ومطمع الغزاة

Aerial photographs of the city of Baghdad ,And shows where residential complexes and the Tigris River and bridges. The city of Baghdad, capital of Iraq, one of the oldest Arab capitals.
مدينة بغداد نمت على ضفاف نهر دجلة وتعاقبت عليها عدة حضارات (غتي)

بغداد إحدى أعرق مدن العالم الإسلامي، بناها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور واتخذها عاصمة لدولته، زخرت بالعلوم والمعارف والثروات، وكانت مطمعا للغزاة منذ إنشائها، وهي عاصمة الجمهورية العراقية وكبرى مدنها.

اشتهرت بعدد من الألقاب، منها "دار السلام" و"مدينة المنصور" و"عاصمة الرشيد"، كما زخرت بعدد من المعالم التاريخية والحضارية.

الموقع

تتوسط بغداد مدن الجمهورية العراقية شمالا وجنوبا عند خط العرض 33 وخط الطول 44، على نهر دجلة الذي يقسمها إلى "الكرخ" في الجزء الغربي و"الرصافة" في الجزء الشرقي، وتبلغ مساحتها نحو 660 كيلومترا مربعا.

السكان

بلغ عدد سكانها عام 2023، وفقا لوكالة التخطيط العراقية، 9 ملايين نسمة، وهي الأعلى من حيث عدد السكان في العراق، وتتألف من تركيبة سكانية متعددة الأعراق والطوائف، إلا أن معظم سكانها من العرب المسلمين (سنة وشيعة) والأكراد، إضافة إلى أقليات من المسيحيين والصابئة والإيزيديين.

كان اليهود قبل عام 1948 أكبر طائفة غير مسلمة في المدينة، إلا أن عددهم تناقص بشكل كبير بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، وهجرتهم الجماعية إليها.

Statue of the Abbasid caliph Abu Jaafar Al Mansour Builder and founder of the city of Baghdad, This statue is located In the Mansour district In the city of Baghdad.
تمثال الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور في العاصمة بغداد (غيتي)

المناخ

يُعد مناخها صحراويا، ففي فصل الصيف تشتد الحرارة وقد تتجاوز 50 درجة مئوية، في حين تسود الجو حالة من الجفاف.

كما تتعرض المدينة لعواصف ترابية قاسية يُرجع العلماء سببها إلى عدد من العوامل البيئية، ويكون مناخها باردا وممطرا في الشتاء.

التسمية

اختلف في تاريخ تسميتها ببغداد وأصل الاسم، فبعض المؤرخين أعاده لأيام حمورابي في القرن الـ18 قبل الميلاد، بينما أعاده آخرون لعهد الملك البابلي مردوخ.

أما معنى الاسم فمنهم من قال إنه مشتق من "وداد"، وهو اسم إله قديم بمعنى الهبة أو العطية، بينما ذكر آخرون أنه لفظ فارسي مركب من "داد" وتعني رجل و"باغ" وتعني البستان.

التاريخ

يجمع المؤرخون على أن موقع بغداد كان مأهولا من قبل شعوب مختلفة قبل فترة طويلة من دخول العرب بلاد ما بين النهرين، وكانت للعديد من الإمبراطوريات القديمة عواصم تقع في الجوار.

ويشير المؤرخ العراقي هادي العلوي إلى أنها كانت جزءا من مملكة سومرية غابرة تدعى "إشنونا" ترجع إلى القرن الثاني قبل الميلاد، وكان موقعها معروفا باسم "كلوذا" عند ظهور الإسلام.

كما تؤكد سجلات التاريخ أن الاسم القديم لها هو اسم آرامي ظهر في الآثار المسمارية، والبابلية بصيغة (بغددو، وبكددو، وبكدود)، وورد اسمها على لوح يعود تاريخه إلى القرن الـ18 قبل الميلاد في عهد الملك حمورابي كتب فيه بصيغة "بجدادا"، وفي وثائق أخرى بصيغ مشابهة.

تتالت عليها الحضارات بعد ذلك، ومر عليها الإسلام لكنها ازدهرت في العصر العباسي، إذ أخذ العباسيون بعد قيام دولتهم يبحثون عن عاصمة جديدة لها، واختاروا عدة أماكن في البداية إلا أنهم لم يرتاحوا لأي منها.

لذا فكر ثاني خلفاء بني العباس أبو جعفر المنصور ببناء عاصمة جديدة يرتاح لموقعها ومناخها ولولاء أهلها، وبعد بحث طويل اختار تشييدها على موقع قرية عرفت باسم "بغداد" عام 145 للهجرة، وسماها "مدينة السلام".

بيد أن الناس كانوا يسمونها في الغالب "مدينة المنصور" نسبة إليه، إضافة إلى أسماء أخرى منها "الزوراء" و"المدينة المدورة" لحرص المنصور على بنائها بشكل دائري في اتجاه فريد وجديد في البناء، فمعظم المدن في ذلك الوقت كانت تبنى إما بشكل مستطيل أو مربع أو بيضاوي.

استغرق بناء المدينة 4 أعوام، ساهم فيها خيرة المهندسين والبنائين، وكان قصر المنصور مركزا لها، يبعد أبعادا متساوية عن جميع نقاط أسوار المدينة الثلاثة، ولها 4 أبواب حديدية مزدوجة سميت بأسماء البلدان المتجهة نحوها، وهي، باب الشام، باب البصرة، باب خراسان، وباب الكوفة.

بنيت في البداية على الضفة الغربية لنهر دجلة في جانب الكرخ، وما لبثت أن اتسعت بعد أن أمر المنصور ابنه المهدي أن يعمر الضفة الشرقية لنهر دجلة في جانب الرصافة، وجعل جسرا بين شطريها.

ذاع صيت بغداد وتطورت مع خلفاء بني العباس في مختلف المجالات، وبلغت ذروة مجدها وعصرها الذهبي في عهد الخليفة الخامس هارون الرشيد، إذ تحولت إلى عاصمة للعلم والأدب والترجمة والفنون، فسبقت عصرها وقصدها طلبة العلم والموهوبون من مختلف بقاع الأرض.

Picture of mosque of Haji Beuneha In Al Alawi In the city center of Baghdad, And behind the building of the Ministry of housing and construction.
مسجد الحاج بنية أحد المعالم التاريخية في بغداد (غيتي)

كما أنشئ فيها "بيت الحكمة" الذي يعتبره كثيرون أول جامعة في التاريخ، فأصبح مركز ترجمة وتأليف وتدريس، وخزانة كتب ضمت مؤلفات كبار الكتاب والمترجمين.

وبلغت حركة ترجمة الكتب إلى العربية في بغداد أوجها في زمن الخليفة المأمون بن هارون الرشيد، الذي أجزل العطايا للمترجمين والمؤلفين، وكان يعطيهم أوزان كتبهم ذهبا، فتحولت اللغة العربية في عصره من مجرد لغة شعر وأدب إلى لغة علم وفلسفة.

ومن ثمار تقدمها العلمي، بروزها في ميادين علمية مختلفة، فبات اسم بغداد لصيقا باسم عدد من المدارس، كمدرسة بغداد في اللغة، التي نافست مدرستي البصرة والكوفة، ومدرسة بغداد في علم الكلام، ومدرسة بغداد الحديثية، ومدرسة بغداد في الخط، وغيرها.

ظلت مدينة الرشيد تزدهر وتزهو في جميع المجالات، مما جعلها مطمعا لكل من يرغب بالتحكم في المناطق المجاورة لتأثيرها الكبير.

وفي يوم الأربعاء العاشر من فبراير/شباط 1258م، دخل المغول بقيادة "هولاكو" إلى بغداد، فاستباحوا كنوزها ودمروا معالمها الحضارية وقتلوا الخليفة المستعصم بالله ومعظم أهلها، كما ألقوا المصاحف والكتب في مياه دجلة حتى صارت بلون الحبر.

وتعرضت المدينة بعد ذلك لعدة غزوات ومؤامرات، فسقطت بأيدي الصفويين في عهد إسماعيل الصفوي عام 1508م، وانشغلوا بدورهم في صراع مع الإمبراطورية العثمانية.

وبعد موقعة "غالديران" عام 1514م، التي هُزم فيها الصفويون على يد السلطان سليم الأول، قاد ابنه السلطان سليمان القانوني عام 1534م جيشا عظيما وتوجه إلى بغداد، وما أن اقترب حتى هربت الحامية الصفوية فدخلها من دون مقاومة يوم 28 نوفمبر/تشرين الثاني 1534م.

تلت ذلك محاولات عدة من الصفويين للسيطرة عليها، حتى تم لهم ذلك عام 1624م، وفي عام 1639م عادت بغداد إلى حكم الدولة العثمانية في عهد السلطان مراد الرابع.

وفي 11 مارس/آذار 1917 سقطت بغداد في يد الجيش البريطاني بعد سنوات من القتال مع العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، الأمر الذي سبب تحولا كبيرا في حياة سكانها ومسارها السياسي المعاصر.

ثارت بغداد مع المحافظات العراقية الأخرى ضد الاحتلال البريطاني بما يعرف باسم "ثورة العشرين" للمطالبة بالاستقلال يوم 30 يونيو/حزيران 1920.

وبعد كفاح دام 12 عاما، أعلن مجلس عصبة الأمم يوم الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 1932، قبول العراق عضوا فيه، ونال الاستقلال هو وعاصمته وتحرر من الانتداب البريطاني.

ثم انطلقت ثورة رشيد عالي الكيلاني (تعرف بـ"ثورة مايس") ضد الوجود البريطاني في العراق، واستمرت مقدماتها سياسيا من فبراير/شباط حتى الثاني من مايو/أيار 1941، ثم تحولت إلى اشتباكات عسكرية لم تنته إلا بنهاية مايو/أيار في ذلك العام.

وفي 14 تموز/يوليو 1958 حدثت ثورة أطاحت بالحكم الملكي وجاءت بعبد الكريم قاسم زعيما للعراق، ثم انقلب عليه رفاقه في الجيش يوم 18 فبراير/شباط 1963 وتسلم عبد السلام عارف الحكم.

وبعد مقتله في حادث غريب تسلم الحكم أخوه عبد الرحمن عارف، الذي أطيح به بثورة 17-30 يوليو/تموز 1968، وحل مكانه أحمد حسن البكر رئيسا وتسلم الحكم منه نائبه صدام حسين عام 1979، حتى جاء الاحتلال الأميركي عام 2003.

ويوم الأربعاء التاسع من أبريل/نيسان 2003 سقطت بغداد بيد القوات الأميركية وقوات التحالف، بعد نحو 3 أسابيع من المعارك مع الجيش العراقي، ودخلت في دوامة جديدة من الفوضى والتقلبات السياسية.

Baghdad is the capital of Iraq and the second-largest city in the Arab world.
بغداد شهدت حضارات عريقة وكانت دوما مطمعا للغزاة (غيتي)

معالم

اندثرت عدد من الرموز والمعالم العباسية في بغداد مع مرور الزمن، إلا أن روح العصر الذهبي لا تزال حاضرة من خلال مراقد أعلامها، كأبي حنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفي، إضافة إلى مراقد أخرى كمرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني أحد أبرز رموز الطرق الصوفية، ومرقد الإمام موسى الكاظم أحد الأئمة الاثني عشر، وكذا المرقد المنسوب إلى "الست زبيدة" زوجة هارون الرشيد، وغيرهم.

ومن أهم المعالم الموجودة في بغداد المدرسة المستنصرية التي شيدها الخليفة العباسي المستنصر بالله على ضفاف نهر دجلة عام 1233م، وكذلك المدرسة المرجانية الملحقة بجامع مرجان، الذي شيد عام 1357م.

كما تحتضن المدينة مجموعة من المعالم التي بنيت في العصر الحديث، كجسر الطابقين، ومجسم كهرمانة، والجسر المعلق، ونصب الشهيد، والجندي المجهول، وساحة التحرير، وغيرها.

أعلام

يعد الخلفاء العباسيون الذين تعاقبوا على حكم بغداد من أبرز أعلامها، إلا أنها خرجت أيضا عددا من العلماء والشيوخ والأطباء والأدباء، سواء من أهلها أو ممن استقر بهم المقام فيها، حتى أن الإمام الشافعي قال ليونس بن عبد الأعلى: "يا أبا موسى دخلت بغداد؟ قَالَ: لا، قَالَ: ما رأيت الدنيا"، ومن أبرز هؤلاء:

محمد بن موسى الخوارزمي: عالم فارسي انتقل إليها وتولى بيت الحكمة، كما ألف كتاب "المختصر في الجبر والمقابلة" حوالي عام 820م.

أبو بكر الرازي: أحد أهم وأعظم أطباء الحضارة الإسلامية في القرون الأربعة الأولى، ولد في الري بفارس، ثم جاء إلى بغداد وأشرف على بناء البيمارستان العضدي، وتوفي فيها.

أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي: بعد وفاة والده، انتقلت به أمه إلى البصرة، ومن ثم إلى بغداد، أحب العلوم وعاصر كبار المترجمين أمثال حنين بن إسحاق وثابت بن قرة، ثم أسس علم الكلام عند العرب، فغدا رائدا لمدرسة الاستقلال الفكري، كما اهتم بالرياضيات والهندسة وعلوم الدين والموسيقى، وعلوم الفلك وبرع في جُلها.

الإمام أحمد ابن حنبل: فقيه ومحدث، ورابع الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة، وصاحب المذهب الحنبلي في الفقه الإسلامي، ولد وعاش ودفن في بغداد.

الموسيقار زرياب: ولد في بغداد، حاز كثيرا من المعارف العلمية، إلا أنه تربع على عرش الموسيقى في الشرق والغرب، كما أحدث تغييرات متعددة في آلات العزف، وأضاف الوتر الخامس للعود.

ابن مقلة: أشهر خطاطي العصر العباسي، ولد في بغداد، وأتقن تعلم الخط العربي في سن مبكرة، يعد شيخ الخطاطين العرب على الإطلاق ومهندس صناعتهم، ويحسب له كثير من علوم تحسين وتطوير الخط العربي، وهو أول من نقل الخط الكوفي إلى العربي، كما ابتكر خطي الثلث والنسخ.

أبو الثناء الألوسي: من أبرز علماء التفسير المعاصرين، ألف كتاب التفسير الشهير "روح المعاني"، الذي يعد من أبرز مصادر التفسير لدى المتأخرين.

الشيخ أمجد الزهاوي: من كبار علماء الدين وأبرز مؤسسي الحركة الإسلامية في العراق، عُرف بمواقفه الجريئة واهتمامه الكبير بالقضايا العربية والإسلامية.

معروف الرصافي: شاعر وأديب ومدرس ذو مواقف ثورية، ولد وعاش ومات في مدينة الرشيد.

اللواء الركن محمود شيت خطاب: أحد أبرز القادة العسكريين في تاريخ العراق الحديث، تقلد عددا من المهام والمناصب، وله عشرات المؤلفات العسكرية والتاريخية والأدبية والفكرية، وترك بصمة خالدة في حروب نصرة فلسطين أبرزها حرب عام 1948.

المصدر : الجزيرة