بدى واضحا أن سياسة "شنط المال" لم تفلح في شراء الضمير الشعبي في تونس، فتلك البلاد التي انطلقت فيها شرارة الثورات العربية، برهنت للمرة المليون على أنها قبلة الثوار وليست مرتعا للمنشار، فقد بدى ذلك جليا في الغضب الشعبي، والاحتجاجات المنددة بزيارة ولي العهد السعودي، الأمر الذي أرغمه على التسلل إليها بليل.
شعارات من قبيل "شعب مواطنين.. تونس ليست للبيع"، و"الشعب يريد طرد ابن سلمان"، و"الشعب يريد تجريم التطبيع"، شعارات عبرت بعمق عن الحالة الثورية العصية على الانكسار في تونس، فتلك القيمة المتمثلة في الحرية هي التي حاربتها المملكة العربية السعودية ومولت الثورات المضادة مبكرا لمواجهتها، وذلك المشهد التونسي المندد بزيارة ولي العهد السعودي يفسر بجلاء السعي السعودي لمواجهة ثورات الحرية، باختصار لأن الديمقراطية تعني عدم قدرة الدولة على قمع الحريات، وهو المشهد الذي تجلى في ذلك التنديد الشعبي ضد زيارة ابن سلمان، إذ بدى الرئيس التونسي والحكومة التونسية عاجزين عن منع المتظاهرين من التعبير عن رأيهم قبل وأثناء الزيارة، وترددت الأنباء بأن الرياض طالبت بوقف تلك التظاهرات، لكن الحريات التي انتزعها التوانسة عقب الثورة قيدت يد السلطة عن المساس بها.
الأمر الثاني اللافت في الشعارات التي رفعها المحتجون شعار "الشعب يريد تجريم التطبيع" وكأن مشروع ولي العهد الشاب يدعو ويتبنى التطبيع، ما جعل السعودية في وعي ووجدان الشباب التونسي واحدة من الدول المتورطة في الترويج للتطبيع، وبالتالي رفعوا في وجه الزائر السعودي شعارات تؤكد على أن فلسطين في القلب والوجدان، فالوفاء لفلسطين ورفض التطبيع هو أيضا سمة من سمات الدول الديمقراطية بمقابل التطبيل للتطبيع في عواصم الثورات المضادة، فأينما وجدت الحرية ظهر الضمير الحقيقي للأمة بوفائه لفلسطين، وهتافه من أجل تحريرها.
| تونس والراحل خاشقجي ناضلا من أجل الحرية، والمفارقة أن الراحل خاشقجي انتهى به الأمر غريبا مهجرا خارج بلده، فيما يقيم طاغية تونس بن علي في بلده التي تحولت مبكرا عاصمة للطغاة |
تمر تونس اليوم بأزمة سياسية غير مسبوقة، لكن تمر بنا ذكرى السابع عشر من ديسمبر، ولعلها تكون فرصة للفرقاء التوانسة في تذكر ذلك الشاب البوعزيزي الذي أضرم النار في جسده رفضا للظلم والعبودية، ليفتح عقبها أبواب جهنهم في وجه الطغاة، حري بهم وهم يحيون ذكراه الطيبة أن يعضوا على ثورتهم بالنواجد، وأن يقطعوا الطريق على من يريد بها شرا، فلا خير في رز خليجي مؤقت، يحمله الضيف السعودي في يد، ويخبئ في الأخرى تحت عباءته منشارا يتعطش لتقطيع أوصال ثورة الياسمين، فتونس الثورة لا تضيق بالضيوف، لكن روح الثورة لا تقبل خيانة روح الراحل جمال خاشقجي، فكان التوانسة أوفياء بررة.
تونس والراحل خاشقجي ناضلا من أجل الحرية، والمفارقة أن الراحل خاشقجي انتهى به الأمر غريبا مهجرا خارج بلده، فيما يقيم طاغية تونس بن علي في بلده التي تحولت مبكرا عاصمة للطغاة الهاربين من شعوبهم، ما يبين بجلاء أن معركة تونس وخاشقجي واحدة وهي "النضال من أجل حرية التعبير“، وقد بدأ الراحل آخر مقال له بالإشارة إلى تقرير من مؤسسة "فريدم هاوس" عن الحريات في العالم لعام 2018، الذي أظهر أن دولة عربية واحدة مصنفة "حرة"، وهي تونس، ليخلص الراحل إلى إن أمس ما يحتاجه العالم العربي هو حرية التعبير.
أشاد الراحل بالتجربة الديمقراطية التونسية، وخص حركة النهضة بالثناء معتبرا إياها نموذجا للإسلام الديمقراطي، لكن للأسف لم تكن النهضة حاضرة بقوة في التظاهرات المنددة بزيارة بن سلمان، وربما تكون معذورة سياسيا، لكنها استراتيجيا بالضرورة ستخسر إذا ما راهنت على مجاملة الاستبداد على حساب حرية التعبير، فقد قال خاشقجي كلمته ومشى بأن العالم العربي يحتاج حرية التعبير، وعلى كل حركات ونشطاء الربيع العربي أن يقولوا كلمتهم، حتى لو كان ثمنها أن يمشوا، فالثابت الراجح أن الأوطان باقية، والطغاة هم من يرحلون في النهاية من التاريخ والجغرافيا.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

