قمة طهران الثلاثية.. قراءة في السياق والمخرجات
حظيت القمة الثلاثية التي جمعت رؤساء كل من إيران وتركيا وروسيا في طهران -الثلاثاء الماضي- باهتمام كبير سياسيا وإعلاميا، بالنظر لسياقها وتوقيتها وكذلك الملفات المطروحة على أجندتها، وفي مقدمتها الملف السوري، وتحديدا العملية العسكرية التي تلوح بها أنقرة مؤخرا.
السياق
على مدى السنوات الفائتة، لم تحظ قمة جمعت بين بوتين وأردوغان ورئيسي بهذا القدر من الاهتمام الذي أحاط بالقمة الأخيرة في طهران؛ فالقمة السابعة ضمن مسار أستانا هي الأولى بين الرؤساء الثلاثة منذ بداية جائحة كورونا، وهي الزيارة الأولى للرئيس الروسي خارج المنطقة منذ بدء الحرب الروسية الأوكرانية.
وقد أتت القمة في سياق تطورات بالغة الأهمية بالنسبة للدول الثلاث؛ فإيران تدير منذ مدة طويلة مفاوضات بخصوص ملفها النووي في مسار من التقدم والتراجع، فضلا عن المواجهة المعلنة مؤخرا بينها وبين دولة الاحتلال. وروسيا في مواجهة معلنة مع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي (ناتو) على هامش الحرب في أوكرانيا بما يشمل تسليح أوكرانيا ودعمها والعقوبات على موسكو، بل ومسار التفاوض حول أزمة تصدير الحبوب، بينما تلوح تركيا بعملية عسكرية جديدة في الشمال السوري لاستكمال إنشاء منطقة آمنة هناك، وتستمر في التواصل مع الأطراف المعنية بهذا الخصوص ومنها موسكو وطهران.
كما أن القمة تأتي بعد زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة والقمة التي عقدها في جدة مع قادة 9 دول عربية، في إطار سعيه لزيادة التعاون معها في ما يتعلق بأمن الطاقة (لا سيما على هامش الحرب الروسية الأوكرانية) وكذلك زيادة مستوى اندماج دولة الاحتلال في المنطقة.
وقد تزامنت القمة كذلك مع التصريحات الأميركية المنتقدة لما عدَّته زيادة في وتيرة التعاون العسكري بين روسيا وإيران مؤخرا، وكذلك الموقف التركي من انضمام السويد وفنلندا لحلف شمال الأطلسي، إذ سحبت تركيا اعتراضها مقابل التزامات من البلدين بخصوص مكافحة الإرهاب.
اللافت أن الحديث عن القمة الثلاثية أتى أولا على لسان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لدى زيارته لأنقرة الشهر الفائت، تعقيبا على نية تركيا شن عملية عسكرية جديدة في سوريا، في ما بدا رغبة روسية في نقاش الأمر في إطار أستانا رغم بعض التصريحات التي فُهمت على أنها موافقة ضمنية عليها.
أكد بوتين "ضرورة عودة جميع المناطق إلى سيادة سوريا"، وحذر رئيسي من "وجود خطوات تتضارب مع السيادة السورية"، بل إن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية خامنئي قال إن العملية التركية "ستضر بتركيا وسوريا والمنطقة"، وهو ما عده البعض تحذيرا أو تهديدا مبطنا من طهران لأنقرة.
المخرجات
استضافت العاصمة الإيرانية -خلال يوم واحد- لقاءات ثنائية بين الدول الثلاث، ثم قمة ثلاثية بين رؤسائها، وكان على جدول أعمالها الكثير من الملفات؛ في مقدمتها القضية السورية، والعملية التركية، والحرب الروسية الأوكرانية، وأزمة الحبوب الأوكرانية، والعلاقات الثنائية، وبالتأكيد قضايا إقليمية أخرى.
على مستوى العلاقات الثنائية، فقد عقدت تركيا وإيران مجلس التعاون الاقتصادي رفيع المستوى السابع بينهما، الذي تخلله توقيع 8 اتفاقات بين البلدين في عدة قطاعات، لا تعد أي منها اختراقا كبيرا.
تصريحات رؤساء الدول الثلاث قبل القمة وبعدها تدفع للقول بأنها كانت قمة تأكيد المواقف السابقة؛ فقد أعادت أنقرة تأكيد حقها في مكافحة الإرهاب وأن العملية العسكرية في الشمال السوري ما زالت على أجندتها، فقال أردوغان نصا "سنواصل قريبا قتالنا ضد المنظمات الإرهابية".
في المقابل، كررت كل من موسكو وطهران الدعوة لطمأنة هواجس تركيا الأمنية، ولكن في "إطار سياسي"؛ فقد أكد بوتين "ضرورة عودة جميع المناطق إلى سيادة سوريا"، وحذر رئيسي من "وجود خطوات تتضارب مع السيادة السورية"، بل إن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية خامنئي قال إن العملية التركية "ستضر بتركيا وسوريا والمنطقة"، وهو ما عده البعض تحذيرا أو تهديدا مبطنا من طهران لأنقرة.
ولذلك فقد جاء البيان الختامي -مثل سابقيه- فضفاضا وحمال أوجه بما يمكن أن يخدم سردية البلدان الثلاثة، كل على حدة؛ إذ أكد البيان التزام الدول الضامنة الثلاث بسيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، ودان "الوجود المتزايد وأنشطة المنظمات الإرهابية وأذرعها في مختلف مناطق سوريا"، ورفض "جميع المحاولات لإيجاد حقائق جديدة على الأرض السورية… بما يشمل مبادرات الحكم الذاتي غير القانونية، والتصميم على الوقوف في وجه الأجندات الانفصالية الهادفة لتقويض سيادة ووحدة أراضي سوريا وتهديد الأمن القومي للدول المجاورة".
في المحصلة، وفي ما يتعلق بالملف الأهم وهو سوريا، لا يبدو أن تركيا قد استطاعت أن تقنع شريكيها بالموافقة على العملية العسكرية المزمعة، وإن كانتا أبديتا تفهما لمتطلبات أمنها القومي، فضلا عن المصلحة الواضحة لهما في زيادة الهوّة بينها وبين الولايات المتحدة.
يعيدنا ذلك إلى فكرة أن مسار أستانا قد استنفد القسم الأكبر من أهدافه التي نشأ لأجلها، ولم يعد هناك الكثير مما يمكن أن تتوافق عليه الأطراف الثلاثة؛ إذ إن ما بقي يقع في الغالب ضمن مساحات الخلاف والتنافس بينها. وهكذا فإن الفائدة الأبرز لمسار أستانا مؤخرا هي منع الصدام بين القوى الثلاث.
ولذلك، فهناك تقييم ذو وجاهة بأن الدلالة الأبرز للقمة الثلاثية كانت رسالة موجهة من بوتين للغرب عموما -والولايات المتحدة على وجه التحديد- بأن محاولات عزله لم تنجح وأن الحرب في أوكرانيا لا تشكل له تحديا كبيرا؛ بدليل قيامه بهذه الزيارة الخارجية والقمة مع دولة خصم لواشنطن وأخرى حليفة لها.
لكن ذلك لا يعني أن مسار أستانا لم يعد مهما للدول الثلاث، بل ستبقى محافظة عليه ومهتمة بإدامته، فهو أولا يضمن عدم الصدام بينها إلى حد كبير مهما اختلفت الأهداف والتوجهات، فضلا عما يجمع بين تركيا وروسيا وإيران. فالاقتصاد عنوان مهم، لا سيما في السياق العالمي الحالي، وهذا المسار يفتح الباب على تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية ورفع حجم التبادل التجاري بينها، وإمكانية التبادل التجاري بالعملات المحلية، لا سيما أن البلدان الثلاثة تتعرض لعقوبات أميركية وغربية وإن بدرجات متفاوتة.
عطفا على ما سبق وتأثرا به، كان من اللافت التركيز هذه المرة على الاعتداءات "الإسرائيلية" في سوريا حيث تضمن البيان الختامي إدانة الدول الثلاث "استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية في سوريا"، وَعَدُّوها "انتهاكا للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وسيادة سوريا ووحدة أراضيها"، إضافة لانتقاد رفض "إسرائيل" القرارات الدولية المتعلقة بالجولان المحتل.
هذا البعد يؤكد الارتباط الوثيق للقمة الثلاثية في طهران بالتطورات الإقليمية والدولية التي تحيط بسياقها الزمني وقراءة الدول الثلاث لها، ولا سيما زيارة بايدن للمنطقة وقمة جدة من جهة والموقف "الإسرائيلي" من الحرب الروسية الأوكرانية من جهة ثانية. ولذلك، فقد جاءت ردود الفعل الأميركية و"الإٍسرائيلية" على القمة في سياق النقد والتخوف. فقد رأى منسق الأمن القومي للاتصالات الإستراتيجية في البيت الأبيض جون كيربي أن القمة تظهر عزلة بوتين، وأكد أن بلاده ستكثف العقوبات على روسيا. في حين عبّر رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست رام بن براك عن "خشية إسرائيل من أن يعوق التقارب الروسي الإيراني عملياتها في سوريا".
في الخلاصة، لم تصدر عن القمة موافقة علنية من روسيا وإيران على العملية العسكرية التركية، ولا بَدا أن أنقرة في وارد التراجع عن خطتها. وبالتالي، لم تحسم القمة الملفات الخلافية، بل كررت المواقف السابقة، وهو أمر كان متوقعا إلى حد كبير. لكن الإشارات التي صدرت عن القمة والتصريحات التي تلتها أكدت الأهمية التي توليها العواصم الثلاث للإطار الثلاثي الضامن، لما يجمعها من مصالح وتهديدات مشتركة أكثر مما يتعلق بالملف السوري بشكل مباشر.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.