النكبة وواجب الوقت

المعرض ضم عشرات الوثائق عن يوميات الفلسطينيين قبل النكبة

مغالطات
واجب النصرة

ستظل نكبة فلسطين حدثا حزينا ومؤلما في تاريخنا العربي والإسلامي؛ فالنكبة لا تشير فقط إلى القتل والطرد والاحتلال؛ وإنما تؤرخ إلى جانب هذا لبداية مرحلة تزييف جماعي للوعي العربي باسم "الموضوعية" و"الواقعية".

هذه المرحلة امتدت لما يقارب سبعة عقود وأريد للعرب فيها، جيلا بعد جيل، أن يتجاوزوا حقيقة ما ارتكب وقت النكبة وبعد النكبة، ويستسلموا للكيان الكولونيالي العنصري باعتباره قوة لا تقهر، وأن يكفوا عن التفكير -مجرد التفكير- في التصدي لكل محاولات تزييف الوعي ونصرة المقاومة بكل الطرق الممكنة.

مغالطات
تستند الرواية الإسرائيلية للصراع، ماضيه وحاضره ومستقبله، إلى اعتبارات لا صلة لها -حقيقة- بالواقعية والموضوعية، منها أن هذا الكيان "تعبير عن حق تاريخي لليهود في فلسطين"، وأنه أصبح "قوة عسكرية لا تقهر"، وأنه "الديمقراطية الوحيدة في المنطقة"، وأن "الصراع هو صراع الفرص الضائعة"، وأن "الحلول الوسط التاريخية تتطلب تنازل الطرفين"، وغير ذلك.

لا يمكننا الآن التعويل على الحكومات لتحريك الجيوش لتحرير فلسطين واسترداد الكرامة، فقد حولت الكثير من هذه الحكومات وظيفة جيوشها إلى الحفاظ على الأنظمة الحاكمة وقمع الشعوب التي تنادي بالكرامة والحرية

اعتبارات الموضوعية والواقعية تحتم علينا التمسك بتحميل الحكومة البريطانية المسؤولية الأولى عن تجهيز الأرض للاحتلال عبر وعد بلفور، وسياسة تضليل العرب، وتغيير التركيب الديمغرافي للبلاد، وتسهيل الهجرة اليهودية، وتسليح العصابات الصهيونية لطرد أهل البلاد الشرعيين، وعدم منع عمليات التطهير العرقي التي ارتكبتها هذه العصابات قبل وأثناء حرب 1948.

أما حكومات الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبقية الحكومات الغربية فهي المسؤولة عن قرار التقسيم الذي منح اليهود وثيقة دولية لاغتصاب الأرض وعن دعم الكيان الوليد عسكريا وسياسيا واقتصاديا منذ ذلك الحين وحتى اليوم.

وطبقا لمبادئ القانون الدولي هذه المسؤولية لا تسقط بالتقادم وتتوارثها الحكومات القائمة في هذه الدول حتى اليوم.

اعتبارات الموضوعية والواقعية تحتم علينا أيضا وضع الحكومات العربية أمام مسؤولياتها، فبعد هزيمتها في إدارة المعارك العسكرية، فشلت في التصدي للمشروع الصهيوني باستسلامها للرواية الإسرائيلية للصراع وبفرقتها وبعدم قدرتها على التخلص من التبعية للخارج، فضاعت كل فلسطين عام 1967 ومعها سيناء والجولان.

تتحمل هذه الحكومات مسؤولية خذلان أجيال من اللاجئين والنازحين والمحاصرين والاكتفاء بدعم مادي يسير لذر الرماد في العيون، وتتحمل مسؤولية خذلان المقاومة والمساهمة في زرع اليأس والعجز في نفوس قطاعات كبيرة من الجماهير وإيهامهم بأن مواجهة الإسرائيليين شيء مستحيل في ظل الظروف الحالية. هذا فضلا عن عدم القدرة على التمسك بالرواية الحقيقية للتطهير والتدمير في المناهج التعليمية وفي الخطاب الإعلامي في الداخل والخارج.

واجب النصرة
لا يمكننا الآن التعويل على الحكومات لتحريك الجيوش لتحرير فلسطين واسترداد الكرامة، فقد حولت الكثير من هذه الحكومات وظيفة جيوشها إلى الحفاظ على الأنظمة الحاكمة وقمع الشعوب التي تنادي بالكرامة والحرية، وساهمت بسياساتها القمعية والإقصائية في إدخال المنطقة كلها في صراعات مدمرة وعدمية.

وحتى تتحرر الجيوش وتتحرك نحو عدوها الحقيقي، على الشعوب والقوى الحية الأهلية والمجتمعية والسياسية في مجتمعاتنا العربية المساهمة في نصرة المقاومة الفلسطينية بالعمل على مستويات عدة، منها:

أولا: إعادة تعريف المشكلة الفلسطينية وتسمية المسميات بأسمائها الحقيقية والعمل على نشرها وإذاعتها بكل لغات الأرض. لابد أن يؤكد الخطاب العربي الشعبي والإعلامي -والرسمي والدبلوماسي متى أمكن ذلك- أن هناك احتلالا عسكريا وهناك انتهاكات لحقوق الإنسان، وأن هذا الاحتلال وتلك الانتهاكات مخالفان للقانون الدولي وكل المواثيق والأعراف الدولية، ومُدانان من منظمات حقوق الإنسان بما فيها بعض المنظمات الإسرائيلية والغربية التي تتسم بقدر من الإنصاف.

مقاومة المحتلين لا تكون فقط بالقوة العسكرية وإنما بكل صور المقاومة وعلى رأسها المقاطعة والحصار وفضح انتهاكاته إعلاميا وغير ذلك. إن الهزيمة الحضارية والنفسية لمثل هذا النوع من الاستعمار قد تكون المقدمة الطبيعية والضرورية لهزيمته عسكريا لاحقا

ثانيا: إعادة طرح الكيان الإسرائيلي على حقيقته ككيان عنصري وتوسعي وقوة الاحتلال هي الوحيدة الباقية في عالمنا؛ فبدون هذا نسهم جميعا في ترسيخ دعائم هذه الدولة بالمنطقة والعالم، تماما كما فعلت اتفاقيات التسوية الموقعة من قبل.

إننا لسنا أمام دولة طبيعية ككل دول العالم وإنما أمام كيان كولونيالي قام بقوة السلاح على أرض مغتصبة وبمساعدة قوى خارجية. ولسنا أمام نظام سياسي ديمقراطي وإنما نظام "ديمقراطي إثني" يحصر الديمقراطية في اليهود فقط ويصدر القوانين العنصرية ضد كل من هو غير يهودي في سابقة لا مثيل لها في عالمنا المعاصر.

ثالثا: دعم خيار المقاومة كخيار وحيد وشرعي لتحرير الأرض ورد العدوان. ومقاومة المحتلين لا تكون فقط بالقوة العسكرية وإنما بكل صور المقاومة وعلى رأسها المقاطعة والحصار وفضح انتهاكاته إعلاميا وغير ذلك. إن الهزيمة الحضارية والنفسية لمثل هذا النوع من الاستعمار قد تكون المقدمة الطبيعية والضرورية لهزيمته عسكريا لاحقا.

لابد أن يؤكد الخطاب على أنه في كل زمان ومكان متى وُجد الاحتلال وُجدت المقاومة، وعلى أن هناك تاريخ ممتد للثورة ومقاومة المحتلين في عالمنا العربي والإسلامي، وأن هناك مقاومة للاحتلال (وليس عنفا أو إرهابا) كبّدت قوات الاحتلال الإسرائيلي الكثير من الخسائر وأجبرته على الخروج من جنوب لبنان، ومن غزة.

رابعا: مواجهة المكاسب المجانية التي حصل عليها الإسرائيليون من الحكومات العربية بالضغط من أجل رفع سقف المطالب العربية وفتح الملفات الكبرى مع الإسرائيليين لدفعهم دفعا إلى الدفاع عن النفس وتقديم تنازلات حقيقية.

إن حل الصراع لن يتم إلا بتناول جوهر الصراع، أي المطالبة بسبعة أمور على الأقل: الاعتراف بالحقوق الفلسطينية بما فيها حق تقرير المصير وحق العودة، تفكيك جميع المستعمرات اليهودية، إلغاء القوانين والإجراءات العنصرية، دفع تعويضات عن الانتهاكات التي ارتكبت قبل وبعد نكبة 1948 وفى ظل الاحتلال بالضفة وغزة والجولان وسيناء، وقف تهويد القدس وغيرها من المدن، فك حصار غزة وإعادة بناء آلاف المنازل المهدمة وإعادة الأراضي المنهوبة وتعويض أصحابها، والتأكيد على أن السلام الحقيقي لن يتم بدون تفكيك الطبيعة "العنصرية" و"الاستعمارية" للصهيونية وللدولة الإسرائيلية.
هذا إلى جانب إعادة ربط جميع قضايا الصراع وتوحيد المطالب العربية في مسار واحد، وتفعيل دور الجامعة العربية. لقد كان من أبرز مساوئ اتفاقيات التسوية مع مصر والأردن ومنظمة التحرير تقسيم قضايا الصراع لمسارات منفصلة.

هذا النوع من المطالب موضوعي وواقعي، وعلى أساسه تم تطبيق حلول مشابهة بمناطق أخرى كجنوب أفريقيا وإيرلندا، أما ما عدا هذا من حلول تقوم على تنازل الطرف العربي فقط فلن تحقق لا السلام ولا الأمن.

حل الصراع لن يتم إلا بتناول جوهره والمطالبة بأمور منها: الاعتراف بالحقوق الفلسطينية بما فيها حق العودة، تفكيك جميع المستعمرات اليهودية، إلغاء القوانين والإجراءات العنصرية، دفع تعويضات عن الانتهاكات التي ارتكبت قبل وبعد النكبة 1948، وقف تهويد القدس وغيرها

خامسا: مواجهة السياسة الخارجية الأميركية والغربية عموما. والمجال مفتوح هنا لقيام الجهات الحقوقية والأهلية باستخدام أوراق مختلفة بشكل مدروس وواع، مثل دعم حملات المقاطعة الغربية الشعبية للكيان ومنتجاته، المطالبة بتعويضات مالية عن فترات الاحتلال، وقيادة حملات دعائية عالمية لدعم الحقوق العربية، وتكليف لجنة من فقهاء القانون الدولي والسياسة بإعداد ملف عن جرائم الجيش الإسرائيلي بالأراضي المحتلة وتقديمه للمحكمة الجنائية الدولية ومحاكم الدول الغربية لملاحقة قادة الاحتلال أينما وجدوا.

هذا بالإضافة إلى قيادة حملة دبلوماسية ودعائية في محاكم أميركا لوقف تصدير السلاح الأميركي إلى الإسرائيليين لاختراق الدولة الصهيونية قوانين تصدير السلاح الأميركي، لأنها تستخدم هذا السلاح ضد المدنيين وليس للدفاع عن النفس (وهذا يخترق قانون المساعدات الخارجية (FAA) لعام 1961)، وتصدر السلاح الأميركي لطرف ثالث (وهذا يخترق قانون تصدير السلاح (AECA) لعام 1976)، والتعاون مع المنظمات الحقوقية الدولية والغربية التي تهتم بالصراع ومنها الحملات الشعبية لمقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية والمقاطعة الأكاديمية وغيرها.

سادسا: الضغط من أجل تحقيق مطالب الشعوب في الكرامة والحرية والعدالة وحكم القانون وإقامة حكومات وطنية ترعى مصالح الشعوب في المقام الأول وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي هي قضية عربية وإسلامية وقضية أمن قومي عربي. فهذا النوع من الحكومات هو وحده القادر على صياغة رؤى وطنية وعلى الاستفادة من شرعية وقوة المؤسسات المنتخبة واستخدام الكفاءات الوطنية وجميع عوامل القوة الناعمة والصلبة في بناء سياسة خارجية مؤثرة.

سابعا: ولمواجهة التداعيات السلبية للبرامج التعليمية العربية التي فرطت في المصلحة العربية المشتركة والأمن القومي العربي ولمعالجة الأثر النفسي/الثقافي الناتج عن عقود من زرع ثقافة الاستسلام وتشويه المقاومة هناك واجب يقع على كل من يمتلك المال والخبرة للعمل على إنتاج مقررات تعليمية إلكترونية عن الصراع وأفلام وثائقية ومواد دعائية وبرامج تليفزيونية وإذاعية، وإقامة مراكز بحوث ومشاريع بحثية وصفحات متخصصة في الصحف والمجلات. إن جيوشنا وأجهزتنا الأمنية وأساتذة جامعاتنا ومثقفينا العرب صاروا في حاجة لمثل هذه المقررات والبرامج البديلة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.