تقرير المصير

People wave their "Esteladas" (Catalonian separatist flag) flags during a Catalan pro-independence demonstration at Catalunya square in Barcelona October 19, 2014. Catalonia has dropped plans to hold a referendum on independence from Spain next month but will instead hold a "consultation of citizens", the region's head said on Tuesday. REUTERS/Albert Gea (SPAIN - Tags: POLITICS CIVIL UNREST)
إقليم كتالونيا يسعى للانفصال عن سلطة الحكومة المركزية الإسبانية (رويترز)

هو حق الشعوب في أخذِ مستقبلها بيدها وتحديد المسار والخيارات السياسية التي تراها مناسبا بما في ذلك تشكيل حكوماتها دونَ تأثير خارجي وتحديد شكل الحكم، والاندماج مع وحدة سياسية مجاورة أو الانفصال عنها.

وفي عام 1969 الذي أعلنته الأمم المتحدة عام الاستقلال، أصدرت المنظمة قرارها رقم 1514 الذي نص على منح الاستقلال للشعوب المستعمرة، لكن آليات إنفاذ القرار وغيره من مقررات المنظمة الدولية ذات الصلة بقيت غامضة.

وفي هذا الباب لا بد من التذكير بالإخفاق المزمن للأمم المتحدة في إنصاف الشعب الفلسطيني وتمكينه من حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة.

اكتسبَ مفهوم تقرير المصير قوة قانونية كبيرة بإدراجه في ميثاق الأمم المتحدة عام 1951، وهو ما جعله جزءا من القانون الدولي استندت إليه بشكل شبه كامل تقريبا حركات التحرر في بلدان العالم الثالث في نضالها ضد الاستعمار خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.

النشأة والتطور
ارتبط مفهوم تقرير المصير بظهور مفهوم الهوية الوطنية في القرن الـ19 الذي كرَّس وجود الدول الوطنية، وأسهم بدرجة كبيرة في قيام الأمم الأوروبية -كما هي معروفة اليوم- خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، كما أنه كان النواة الأولى لظهور الدولة/الأمة التي تسود كنمط حكم أوحد تقريبا في العالم منذ بدايات القرن العشرين، وتقوم على التجانس اللغوي والعرقي أحيانا أو هما معا.

ويتأسس مفهوم الدولة/الأمة أو الدولة الوطنية على دمج مفهوميْ الأمة والدولة واتخاذهما مؤطرا أكبر ومرجعا مؤسسا لكيان سياسي قائم على المماثلة بين مواطنيه على المستوى اللغوي والثقافي والعرقي، مع منح مفهوم المساواة مكانة مركزية بوصفها المعيار الأهم والقيمة الحدية الكبرى في المنظومة السياسية والأخلاقية التي تحكم الدولة.

ولا بد من الإشارة إلى أن التحولات التي عرفتها المجتمعات الغربية في القرنين التاسع عشر والعشرين (الاختلاط بأعراق أخرى من خلال الاستعمار والهجرة… إلخ) ستُعزز مركزية المساواة في المنظومة القانونية والسياسية للدولة/الأمة في أوروبا بحكم التنوع المتعاظم لمكونات النسيج الاجتماعي، مما أدى لنزوع متنام نحو تهميش ميزة التجانس التي كانت أصلا قاعدةَ الدولة بأوروبا.

وقد عرف مفهوم تقرير المصير دفعة قوية في القرن العشرين مع ظهور حركات التحرر في المستعمرات الأوروبية عبر العالم خاصة في أفريقيا وآسيا، فقد كانت تلك الحركات تنادي بحق مجموعات متجانسة لغويا أو عرقيا أو ثقافيا في تقرير مصيرها، وإقامة كيانات سياسية مستقلة على شاكلة تلك الموجودة في أوروبا والأميركتين.

وشكلت هذه التطلعات النواة الأولى للدولة الوطنية في العالم الثالث التي تأثر استقرارها سلبا في حالات كثير -خاصة في أفريقيا- بالخرائط الاستعمارية التي رُسّمت بموجبها الحدود دون مراعاة للامتدادات المتشعبة للمجموعات العرقية واللغوية.

وكان للتقسيمات الاستعمارية المبتسرة نتائج مدمرة على استقرار الدول الناشئة، فقد أذكت نزعات انفصالية في أكثرَ من منطقة أججها غيابُ التنمية المزمن وسيادة أنماط الحكم الاستبدادية، فضلا عن المكانة المركزية للقبيلة في الحكم وتسيير الشؤون العامة في أغلب مناطق أفريقيا.

تقرير المصير وحركات التحرر
أعطى مبدأ "حق الشعوب في تقرير مصيرها" حركاتِ التحرر سندا شرعيا قويا لنضالها من أجل التحرر من قبضة الاستعمار الغربي وخاصة الأوروبي، لاسيما مع النص على هذا الحق في ميثاق الأمم المتحدة ليصبح أحد المقتضيات الجوهرية في القانون الدولي.

ومع ازدهار حركات التحرر -خاصة في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين- بات تقرير المصير مرتبطا بالتحرر السياسي، مع أن المفهوم في أصله جاء في سياق لم يكن واردا فيه الحديث عن التحرر كما ساد في تلك الحقبة.

وباسم تقرير المصير، تمكنت شعوب كثيرة في العالم الثالث من إقامة دول خاصة بها، وفي نفس الوقت فإن الحق في تقرير المصير شكل مخرجا لبعض القوى الاستعمارية في سعيها لتصفية التركة الاستعمارية، وفي هذا الباب يمكن ذكر الاستفتاء الشعبي الذي أجرته فرنسا على استقلال الجزائر في عام 1962 تتويجا لاتفاقيات إفيان التي أنهت الأزمة الجزائرية ومكنت فرنسا من الخروج منها.

تقرير المصير والحركات الانفصالية
رغم نبل مفهوم حق تقرير المصير في أصله، فإنه خضع للتأويل والاستغلال السياسي إلى حد بات يعسر معه تمييز الحالات التي يمكن الحديث فيها عن حق شعب في تقرير المصير من الأزمات المختلقة في إطار عداء سياسي بين دولتين أو أكثر.

فكما استندت حركات التحرر في العالم الثالث إلى حق تقرير المصير في نضالها، فإن هذه الحركات نفسها تعرضت بعد الاستقلال لحركات تمرد شرسة رفعت هي الأخرى حق تقرير المصير، يدفعها إلى ذلك غيابُ التنمية وسيادة الاستبداد والغبن السياسي.

ومع أن حركات التمرد كانت وجيهة في طرحها ومطالبها، فإنها في أحايين أخرى عبرت عن أجندة سياسية خارجية دافعها العداء للنظام السياسي القائم أكثر من تعبيرها عن تطلعات مجموعات عرقية أو لغوية مسحوقة.

وقد طبعت الحرب الباردة هوية كثير من الحركات الانفصالية والمتمردة، ففي الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا) مثلا كان تمرد إقليم كاتنغا 1963 جزءا من أجندة غربية (بلجيكية فرنسية خصوصا) تستهدف النظام الوطني بقيادة باتريس لومومبا. وفي نيجيريا كانت القوى الغربية خاصة فرنسا خلفَ محاولة انفصال إقليم "البيافرا" الغني بالنفط بين عاميْ 1967 و1970.

المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية