شاحنة العودة.. حاملة آلام اللاجئين الفلسطينيين وآمالهم

عاطف دغلس-نابلس

ليوم وليلة سار الحاج عبد الرحيم سعد (83 عاما) ووالداه وعشرة من الأشقاء مشيا على أقدامهم قبل أن يحالفهم الحظ ويحظوا بشاحنة أقلتهم إلى مدينة نابلس شمال الضفة الغربية بعد أن حل بهم المقام عند وادي بلدة نعلين قرب رام الله بعد المسير الطويل.

في مثل هذه الأيام من العام 1948 حيث يحيي الفلسطينيون ذكرى نكبتهم آنذاك كانت قصصهم هائمة كما هم أنفسهم، وأضحت النجاة بالجسد أولى من أحمال ثقيلة تصبرهم على تركها خلفهم مقولة "أيام وتعودون".

لكن الحاج سعد وعائلته كانوا أوفر حظا من غيرهم بعد أن عثروا على شاحنة تقلهم على متنها وثماني عائلات أخرى إلى مدينة نابلس التي اختيرت لتكون وجهتهم ليحل بهم المقام بعد سنة من المبيت في مدرسة الفاطمية بالمدينة في مخيم عسكر للاجئين شرقها.

يذكر الرجل جيدا رغم سنه الكبيرة أن عصابات الاحتلال الصهيونية كانت تصادر تلك المركبات إن وجدتها بحوزة الفلسطينيين وتعطبها، لكن شاحنة الحاج عاطف بدران -وهي إنجليزية الصنع من نوع دووج- كانت واحدة من مركبات عديدة نجحت بالفرار.

‪الحاج عبد السلام حرحرة الذي يقوم بإصلاح وتأهيل الشاحنة‬  (الجزيرة نت)
‪الحاج عبد السلام حرحرة الذي يقوم بإصلاح وتأهيل الشاحنة‬  (الجزيرة نت)

رمز العودة
خرجت شاحنة بدران في ذلك الحين محملة بهموم اللاجئين وآلامهم بعد أن كانت بأعوام قليلة تحمل ببضائع الفلسطينيين وتجارتهم لدول عربية كالأردن وسوريا والعراق وداخل المدن الفلسطينية نفسها.

ظلت "الدووج" -التي حصل عليها بدران من عوائد الجيش العربي من الإنجليز- على حالها من النشاط والعمل لأواخر ثمانينيات القرن الماضي عندما ركنها الرجل عند تخوم مخيم عسكر حيث يقطن بعد أن كبرت سنه وتراجعت صحته.

في رخصة قيادة المركبة وثق إلى جانب بدران اسم قريبه عبد السلام حرحرة الذي آلت إليه من خاله بدران ليقوم بتأهيلها وإصلاحها بما يحفظ تاريخها الذي يعود للعام 1941 ورمزيتها في تذكيرهم باللجوء وآلامه.

لم يستطع حرحرة (57 عاما) تحمل منظر "شاحنة العودة" كما يسميها وقد أخذ الصدأ ينهشها، ليقوم بنقلها إلى منزله بالمخيم وإصلاحها والاحتفاظ بها، متحديا محاولات للاحتلال الإسرائيلي "بطرق ملتوية" لوضع اليد عليها، ساعده على ذلك عمله في ميكانيك السيارات، لكنه لم يحدث عليها تغييرا كثيرا "فقط المحرك والقفص الخشبي، حيث تم تغييره إلى آخر من الحديد".

‪الحاج عبد الرحيم سعد أحد المهجرين من مدينة اللد في النكبة عام 1948‬ (لجزيرة نت)
‪الحاج عبد الرحيم سعد أحد المهجرين من مدينة اللد في النكبة عام 1948‬ (لجزيرة نت)

يوم بالسنة
تعصف ذاكرة الرجل كما درج مكتبه بملف كبير من الأوراق والصور التي تثبت ملكيتهم للمركبة وفصول حكاياتها المترامية بين نقل البضائع والمهجرين أنفسهم قبل أن تغدو "ساعي البريد" بينهم وبين أهلهم بالخارج، حيث تقل أموالهم وأماناتهم من الزيت والجبن، وحتى "العرائس لأزواجهن" كان بدران ينقلهن لعمان والدول العربية القريبة.

يتابع الرجل ليخبرنا بينما نحن على متن الشاحنة في طريقنا من مخيم عسكر إلى مخيم بلاطة القريب منه أن شاحنته تخرج لمرة واحدة فقط خلال العام وذلك للتذكير بالنكبة، حيث يستقلها أطفال من مخيمات المدينة ويجيبون شوارعها وهم يرتدون الزي الفلسطيني ويحملون ما يذكرهم بالنكبة في مشهد يحاكي الحال الذي كان عليه ذووهم قبل 69 عاما.

واحد من أولئك الأطفال كان بهاء سلام (12 عاما) من مخيم بلاطة جاء ليشارك أقرانه في ركوب الشاحنة ويستعيد ذكريات لطالما سمعها من أجداده، ويقول إنه لم يفقد الأمل يوما بالعودة إلى المناطق التي هجر أهله منها.

‪الأطفال يتقاطرون على شاحنة العودة في ذكرى النكبة‬  (الجزيرة نت)
‪الأطفال يتقاطرون على شاحنة العودة في ذكرى النكبة‬ (الجزيرة نت)

توثيق وأمل
لنحو أسبوع يظل حرحرة يعد الشاحنة قبل مشاركتها في تلك الفعالية ويجهزها بكل احتياجاتها ثم ما يلبث أن يعيدها للمنزل، حيث يحتفظ بها بعيدا عن أعين الناس، ويرفض تعليم أحد على قيادتها "للحفاظ عليها أكبر وقت ممكن".

يلقي حرحرة السلام على شاحنته صباح مساء ويطمئن بمعانقتها كأنها واحدة من أبنائه "بل أكثر" وفق قوله، ويبوح بسره لنا قائلا "هي بالنسبة لي كليلى، وأنا مجنونها".

لم يفقد عبد السلام حرحرة الأمل يوما بالعودة إلى مدينة اللد في فلسطين المحتلة عام 1948 لكن أمله مشروط بالعودة فوق شاحنته بذات سرعتها التي لا تتجاوز ستين كيلومترا في الساعة وبألوان العلم الفلسطيني التي تكسوها.

المصدر : الجزيرة